بعد 15 عاما على خروج آخر الجنود الإسرائيليين من لبنان، هناك إجماع في إسرائيل على أنّ الانسحاب وفّر حياة آلاف الجنود الإسرائيليين واللبنانيين أيضًا، بل حتى حياة جنود العدوّ اللدود لإسرائيل في لبنان، حزب الله. ولكن سوى حصيلة الضحايا الثقيلة التي دفعتها إسرائيل منذ تمسّكها بالحزام الأمني في لبنان، والضغوط الشعبية التي مُورست على الحكومة، فإنّ غياب الأهداف السياسية والأمنية، وفشل المفاوضات مع سوريا، عزّزت من شعور إسرائيل بأنّ الوجود في لبنان لا طائل وراءه.
صحيح أنك لو سألت أعضاء حزب الله لماذا خرجت إسرائيل من لبنان فستكون الإجابة: “الجيش الإسرائيلي خرج بسببنا”. وستتحوّل القصة إلى نقاش حول بطولة التنظيم الشيعي. ولكن الاعتبارات التي جعلت إيهود باراك يخرج من لبنان عام 2000 كانت أبعد من حزب الله بكثير، دون التقليل من الرغبة الإسرائيلية في الحفاظ على حياة البشر. ونذكّر أنّ إسرائيل دخلت إلى لبنان من أجل قتال منظمة التحرير الفلسطينية وليس حزب الله، وبعد أن نجحت في طرد منظمة التحرير الفلسطينية، فقد بقيت ببساطة على مدى 18 عاما لأنّها لم تعرف كيف تخرج.
تلك هي بعض الاعتبارات العامة التي أدت بالقيادة الإسرائيلية إلى الخروج من لبنان:
ثمن كبير مقابل أهداف غير واضحة
شنّت إسرائيل حربها في لبنان عام 1982 بهدف تدمير البنية التحتية للإرهاب والتي أقامتها المنظمات الفلسطينية، وعلى رأسها منظمة التحرير الفلسطينية، وهدّدت مواطني إسرائيل بالعمليات الإرهابية في الشمال. بعد أن نجحت إسرائيل في هذه المهمة بعد ثلاث سنوات من الحرب، قرّرت الانسحاب جنوبًا والبقاء في شريط ضيّق سُمّي “الحزام الأمني”.
ولكن بعد أن ضعفت منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، كان بقاء الاحتفاظ بالحزام الأمني أمرا لا لزوم له بالنسبة لإسرائيل وغير مجدٍ، إذ لم تخدم إراقة دماء الجنود السنوية هدفا حقيقيا.
العلم اللبناني وسط أعلام حزب الله (AFP)
وحينذاك دخل تنظيم حزب الله إلى الصورة. حزب الله هو تنظيم شيعي تأسس عام 1982 وتعهّد بمحاربة إسرائيل. أدركت إسرائيل بأنّه ميليشيا تحاول ضرب جذورها في البلد الممزّق، لبنان، ولكن كل محاولة للقضاء على حزب الله أدّت إلى ردود فعل دولية شديدة، وذلك بسبب سقوط ضحايا من المدنيين بشكل أساسيّ، وقد سمحت سوريا التي كانت تسيطر على لبنان في تلك الفترة للتنظيم بالعمل بحرية.
وكان القتال ضدّ حزب الله صعبا لأنّ التنظيم عمل في “أرضه” وأخرج عمليات نوعية ضدّ جنود الجيش الإسرائيلي في لبنان، كان عدد القتلى في الجانب الإسرائيلي كبيرا، وفي مرحلة متأخرة أدركت إسرائيل أنّ البقاء في الأراضي اللبنانية لا يمكنه إيقاف صواريخ حزب الله.
وصار التقدير الجديد في إسرائيل يقول إنّه من الممكن الدفاع عن بلدات الشمال أيضًا من الحدود الدولية مع لبنان ولسنا مضطرّين للبقاء في الحزام الأمني. وهكذا، كانت إحدى نتائج حزب لبنان الثانية التي جرت عام 2006 بين إسرائيل وحزب الله الهدوء في الحدود الشمالية حتى اليوم.
ضغوط شعبية في إسرائيل
كان أحد الحوادث الدراماتيكية التي جرت في فترة السيطرة الإسرائيلية على جنوب لبنان، وأثر كثيرا على صنّاع القرار في إسرائيل، هو الحادث الجوّي القاتل أو ما عُرف في إسرائيل باسم “كارثة المروحيّات”. قُتل في هذه الحادثة 73 جنديّا كانوا في مروحيّات وفي طريقهم إلى جنوب لبنان. أدّت الحادثة القاسية إلى ضغوط شعبية كبيرة على الحكومة الإسرائيلية لترك لبنان.
الجيش الإسرائيلي يقوم بتفجير مواقع تابعة له تجهيزا للانسحاب من جنوب لبنان (AFP)
كانت الحركة الأكثر بروزا والتي تأسست في أعقاب هذه الحادثة هي “أربع أمهات”. تأسست الحركة من قبل أربع نساء من سكان الشمال الإسرائيلي ومن أمهات الجنود الذين خدموا في لبنان، بهدف تحقيق خروج الجيش الإسرائيلي من الحزام الأمني في جنوب لبنان. نقلت الحركة رسالة من القلق على “الشبان المقاتلين”.
سرعان ما اخترقت الحركة النقاش العام وبدأت في إثارة النقاش الذي أساسه “الحرص على المقاتلين” أو الشبان كما تحدّثت الأمهات عن الجنود، بعيدا عن الخطاب الذي هيمن في إسرائيل حول الاحتفاظ بالمناطق أو الانسحاب منها لدوافع استراتيجية. ورغم الانتقادات التي تلقّتها الحركة من قبل المعارضين للانسحاب فقد نجحت في تفعيل ضغوط شعبية غير صغيرة على صنّاع القرار في إسرائيل. وهناك من يدّعي في إسرائيل بأنّ منظّمة “أربع أمّهات” هي التي تقف وراء انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان.
انعدام الانجازات السياسية
في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، أجرت إسرائيل مفاوضات مع سوريا بهدف التوصل إلى تسوية بين إسرائيل وسوريا، ولكن بين إسرائيل ولبنان أيضًا (بسبب سيطرة سوريا في الواقع على لبنان حتى عام 2005). بعد لقاء الرئيس الأمريكي حينذاك، بيل كلينتون، والرئيس السوري حافظ الأسد، وعندما فهم الجيش الإسرائيلي والمنظومة الأمنية أنّه لا يوجد اتفاق، حدث تغيير دراماتيكي في الجانب الإسرائيلي وازدادت الرغبة الإسرائيلية في تنفيذ خطوة من جانب واحد للانسحاب دون التنسيق مع الدول العربية في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، فقد رفضت الحكومة اللبنانية مناقشة ترسيم الحدود مع إسرائيل، ونسّق إيهود باراك، الذي كان رئيس الحكومة حينذاك، هذه الخطوة مع الأمم المتحدة برئاسة مبعوثها تيري رود لارسن.
ضباط إسرائيليون يراقبون ضباط الأمم المتحدة خلال إعادة رسم الحدود بين إسرائيل ولبنان وفقا للقرار 425 الأممي (AFP)
ومن الجدير ذكره، أنّ باراك قد وعد خلال انتخابات العام 1999، والتي تغلّب فيها على رئيس الحكومة الحاليّ، بنيامين نتنياهو، بأنّه لو انتُخب لرئاسة الحكومة فسوف يُخرج الجنود من لبنان، وقد ساعده الأمر ليتم انتخابه كرئيس للحكومة.
ونذكر أيضًا أنّ عملية تفكيك جيش جنوب لبنان، الذي عمل في جنوب لبنان إلى جانب إسرائيل، سرّع من انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان. من الصعب أن نقرّر ماذا أثّر على ماذا، هل شعور أعضاء جيش لبنان الجنوبي بأنّ إسرائيل قد انسحبت من لبنان هو الذي أدى بهم إلى التفكّك أم العكس؟ ولكن العلاقات بين إسرائيل وجيش لبنان الجنوبي كانت من بين الاعتبارات التي رجحت كفة الميزان لصالح الانسحاب.
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني