يقول الباحث والصحفي الإسرائيلي، داني روبنشتاين، المختص بالقضايا العربية والفلسطينية، في حوار خاص بموقع “المصدر” إن أكثر ما يهمه بالنسبة لمن سيقرأ كتابه “إما نحن وإما هم” (ترجمة حرة)، عن سيرة القائد الفلسطيني عبد القادر الحسيني، هو أن يقرأه الأحفاد والأجيال القادمة، على أمل أن يكون للكاتب دور في فهم تاريخ الجانب الآخر (الفلسطيني) وحضارته، ويساهم في التقارب وتعزيز السلام.
روبنشتاين زاول لأكثر من 40 عاما مهنة الصحافة، واختص بتغطية العالم العربي والشؤون الفلسطينية في صحف إسرائيلية مرموقة، وحصل على عمله المهني وإخلاصه على أرقى جائزة يمكن لإعلامي إسرائيلي أن يحصل عليها، وهي جائزة “سوكولوف”. وفي الحديث معه، يوضح أنه لا يعد نفسه محللا لشؤون العرب، وإنما صحافي ينقل الواقع الفلسطيني كما هو، “فالعرب ليسوا بحاجة إلى تحليلي. يمكنهم أن يحللوا وضعهم بنفسهم” حسب قوله.
والبارز في كتاب روبنشتاين الذي يقع في 373 صفحة هو المجهود الكبير الذي بذله لجمع الشهادات من عائلات فلسطينية في القدس والضفة لنسج قصة قائد جيش “الجهاد المقدس” الفلسطيني، عبد القادر الحسيني، والنتيجة هي كتاب يعالج شخصية عبد القادر بعمق وبتفاصيل واسعة.
وفي حين يركز روبنشتاين على شخصية عبد القادر، يتطرق كتابه إلى شخصيات فلسطينية مؤثرة برزت في الفترة ما قبل 1948، مثل حديثه عن الحاج أمين الحسيني، عم عبد القادر، وذكره لشخصيات من “المعارضة الفلسطينية”، أي المعسكر الذي عارض نهج آل الحسيني، آل النشاشيبي، مثل: راغب النشاشيبي، رجل الأعمال المقدسي.
ويسرد الكتاب ثلاثة أحداث وقعت خلال 48 ساعة من عام 1948 وأدت إلى حسم المعركة بين اليهود والفلسطينيين حسب روبنشتاين وهي: معركة القسطل، ومجزرة دير ياسين، وهزيمة جيش الإنقاذ في شمال إسرائيل، تحديدا في معركة “مشمار هعميك”.
وبالنسبة للقارئ الإسرائيلي، لن يكون أمرا مبالغا الجزم أن كتاب روبنشتاين بمثابة موسوعة مصغرة للأحداث الفلسطينية والشخصيات البارزة منذ ثورة عام 1936 إلى نكبة 1948. فالكاتب يمر على أحداث وشخصيات عديدة أصبحت منسية منها مثلا معركة “الخضر” عام 1936، التي نشبت بين المجاهدين الفلسطينيين وبين قوات تابعة للجيش البريطاني وقُتل فيها القائد السوري سعيد العاص، الذي جاء إلى البلاد ليساند الثوار الفلسطينيين. وفي نفس الواقعة برز اسم عبد القادر الحسيني فذاع صيته كبطل فلسطيني.
وكذلك يكشف الكتاب التوتر الذي ساد بين القيادة العربية والقيادة الفلسطينية إبان عام 1948، فيكتب: وصل عبد القادر إلى دمشق قبل أسبوع من سقوطه في القسطل، هناك طلب من قيادة جيش الإنقاذ أسلحة وذخيرة، إلا أنه لقي من مندوبي الدول العربية معاملة مستهترة. ففي حين رأى عبد القادر أن العرب سكان فلسطين هم الأولى في الدفاع عنها، قلل مندوبو الدول العربية من قدرته وقدرة قواته على القتال.
ويقول روبنشتاين إن همه في الكتابة هو الجانب الإنساني، أي سرد قصة عبد القادر الحسيني الإنسان، ونقل تفاصيل حياته دون الحكم عليه أو الكتابة عنه من باب “اعرف العدو”. فالكتاب الذي يبدأ من نهاية نضال عبد القادر، وسقوطه في معركة القسطل بالقرب من القدس، يكشف في الفصول القادمة سيرة القائد وفي نفس الوقت يتطرق إلى الأحداث الدراماتيكية التي أدت إلى النكبة الفلسطينية بنظر العرب والفلسطينيين.
إليكم الحوار الذي دار مع روبنشتاين وتطرق إلى المجتمع الفلسطيني في الراهن..
ماذا الذي يشدك إلى بحث المتجمع الفلسطيني؟
منذ طفولتي تحدثت اللغة العربية. في نظري اللغة هي الأداة الأهم لمعرفة الآخر. ومن ثم درست أدب اللغة العربية ودراسات الشرق الأوسط في الجامعة. يهمني جدا التعرف إلى جيراننا، هذا الشعب الذي يعيش معنا في هذه البلاد. لا أعد نفسي محللا للشؤون العربية، العرب ليسوا بحاجة إلي لتحليل أوضاعهم. أنا صحفي، يهمني نقل الواقع كما هو.
التعامل الإسرائيلي مع قضايا العرب يتسم بالتعميم. يتحدثون عن العرب ككتلة واحدة. أنا أفضل النظرة الإنسانية، والتعامل مع الأفراد بدل التعميم. بالنسبة لي قصة الفرد أهم.
أنت تكتب كاتبا عن النكبة في عيون العرب..
نعم. كتابي موجه للقارئ الإسرائيلي. أشعر أن مسؤولتي هي نقل الرواية الفلسطينية للأحداث التي أدت إلى النكبة كي يعرفها لإسرائيليين. حاولت عبر الكتاب أن أساهم في إرساء التفاهم بين الشعبين. ما يهمني هو عرض الجانب الإنساني في القصة وليس كشف العدو.
للأسف، حتى اليوم معظم التعليقات التي وصلتني عن الكتاب كانت من قراء طاعنين بالعمر، ولم أسمع بعد من قرّاء شباب في الثلاثين والأربعين من العمر.
الكتاب يتناول معركة القسطل وسقوط القدس العربية عام 1948.. واليوم يبدو أن هنالك معركة حول القدس بعد اعتراف ترامب. ما رأيك؟
القدس بالنسبة للفلسطينيين خط أحمر ومطلق، مثل أن “حق العودة” هو خط أحمر بالنسبة للإسرائيليين. مثلما لن يقبل الإسرائيليون عودة الفلسطينيين إلى القرى والمدن التي خرجوا منها لأن ذلك يهدد وجود إسرائيل، لن يقبل الفلسطينيون التنازل عن الأقصى. بالنسبة لهم، لن يقدروا على إنجاز أي شيء من دون سيادة في القدس ومن دون الأٌقصى. أذكر أن رئيس السلطة، أبو مازن، يتحدث دائما عن شرقي القدس، وهذا مهم.
أنت تركز في حديثك على البعد الديني في النضال الفلسطيني في الراهن..
نعم. والسبب أن المجتمع الفلسطيني يقترب أكثر فأكثر من الدين. أذكر أن الفلسطينيين لم ينتفضوا بنفس القوة حين أقدم متطرف أسترالي على حرق المسجد الأٌقصى. لم تنشب يومها حرب كونية. كانت ردود الفعل حينها أكثر اعتدالا من جانب الفلسطينيين، وهذا ليس لأن الفاعل كان مجنونا، بل لأن العلمانيين كانوا أقوى في المتجمع الفلسطيني. هذا الاتجاه لا يقتصر على الفلسطينيين فقط، إنها ظاهرة عالمية. تنطبق كذلك على الإسرائيليين. المجتمع الإسرائيلي يتمسك بالدين أكثر من السابق.
أذكر أنني حين بدأت العمل في الصحافة عام 1967، ووصلت إلى القدس الشرقية، كانت كتب ماركس ولينين تملأ المكاتب. كان الفلسطينيون يقصدون المتاجر لشراء كتاب “معذبون في الأرض”. لم يكن الجو مشحونا بالتطرف الديني مثل اليوم، وإنما بقيم الاشتراكية والماركسية.
هل بوسع أبو مازن أن ينفصل اقتصاديا عن الولايات المتحدة وإسرائيل بعد قرار القدس؟
الاقتصاد الفلسطيني والاقتصاد الإسرائيلي اقتصاد واحد. لا يمكن الفصل بينهما. قوانين الاقتصاد أقوى من كل التهديدات ومن كل التحريض. الفلسطينيون والإسرائيليون بحاجة إلى بعضهم بعضا. للعلم، إسرائيل بحاجة إلى العون المالي الأمريكي للفلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم، لأن هذا العون يمكّن استمرار عمل التنسيق الأمني، والتنسيق يعني أمن إسرائيل.
عنوان الكتاب هو اقتباس لعبد القادر الحسيني حين قال: “إما نحن وإما هم”.. هناك من يقول في الجانب الإسرائيلي أن الفلسطينيين لم يتغيروا وما زالوا يحملون نفس العقلية؟ هل توافق؟
كلا لا أوافق. في كتابي هناك فصل كامل عن “المعارضة الفلسطينية” للخط الذي انتهجه آل الحسيني.. على رأس هذه المعارضة آل نشاشيبي وملك الأردن عبد الله. جزء كبير من الشعب الفلسطيني وافق على خطة التقسيم آنذاك. في الحقيقة، بالنسبة للعالم العربي الممتد من “المحيط الهادر إلى الخليج الثائر” مسألة التنازل عن أراضٍ فلسطينية ليست مسألة كبرى، أما بالنسبة للفلسطينيين التنازل عن رقعة الأرض الصغيرة هذه تعد مسألة مصيرية.
لماذا يختار الفلسطينيون الخروج إلى أيام غضب بدل صنع انتفاضة قوية.. هل يعاني المتجمع الفلسطيني من أزمة فيما يتعلق بالنضال القومي؟
أعتقد أن المجتمع الفلسطيني والمتجمع العربي بشكل عام يحتوي على مكونات قبائلية قوية جدا. المقصود هو الولاء للعائلة والقرية والعشيرة في المجتمع الفلسطيني. وهذا المبنى يجعل فصل المتجمع وتقسيمه إلى مجموعات أسهل، وهذا ما تقوم به إسرائيل. السادات انتقد مرة الدول العربية قائلا: “مصر هي الدولة العربية الوحيدة أما البقية فهم عبارة عن قبائل ترفع أعلاما”.
ماذا عن التضامن الفلسطيني.. كيف تراه في ظل الانقسام بين غزة والضفة؟
في الحقيقة لا يوجد اليوم تضامن فلسطيني. انظر إلى الوضع في غزة. اليهود يقدمون أكثر مما يقدم الفلسطينيون لأهل غزة الذي يعانون ظروفا حياتية قاسية للغاية.
لو افترضنا أن حل الدولتين سيتحقق يوما.. هل تعتقد أن الدولة الفلسطينية قادرة على أن تكون مستقلة وقوية؟
الفرصة الوحيدة لضمان دولة فلسطينية قوية ونجاح فكرة الدولتين هي تطبيق حل في إطار فدرالي مناسب، يضمن تنازل ثنائي. يوجد نماذج مشابه للنموذج الفدرالي: مثل بلجيكيا. طبعا هذا النموذج ليس خاليا من المشاكل وليس مثاليا، لكن على الأٌقل بالإمكان العيش جنبا إلى جنب بدل إطلاق النار والقتال كل الوقت.