النظرية العرقية

حرق كنيس يهودي في سيغان، ألمانيا النازية، خلال أحداث "ليلة البلور" عام 1938 (أرشيف ياد فاشيم)
حرق كنيس يهودي في سيغان، ألمانيا النازية، خلال أحداث "ليلة البلور" عام 1938 (أرشيف ياد فاشيم)

“ليلة البلّور”.. أقسى موجة عنصرية عرفتها أوروبا

أحد الأحداث الأكثر شُهرةً في تاريخ الهولوكوست هو "ليلة البلّور" (بالألمانية: ‎‏‏Kristallnacht‏). ما هو معنى الاسم، ولمَ شكّل هذا الحدث نقطة تحوّل في علاقة ألمانيا النازية باليهود، وأدّى إلى تفاقُم سياستها التوسعية الخارجية وتسارُع الإعدادات للحرب؟

28 نوفمبر 2015 | 12:08

منذ بداية العهد النازي في ألمانيا، بدأت الإساءة إلى اليهود مُحاوَلةً من النازيين للتضييق عليهم حتّى يهاجروا من البلد. سُنَّ “قانون الموظَّفين” بعد شهر من تولّي هتلر السلطة، وكان يهدف إلى طرد اليهود من وظائف عامّة عديدة أعالوا منها أنفسهم في مجالات كالتربية، الفنون، والصحافة. كان قانون الموظَّفين أحد الإجراءات الأولى لمحاولة جعل وظائف اليهود، أملاكهم، بيوتهم – في الواقع كلّ ممتلكاتهم ووسائل معيشتهم – “آريّة” تمامًا (تحت سلطة الألمان “ذوي العِرق النقيّ”).

كان هذا جُزءًا من الخطوات التي أراد النازيون منها تهجير اليهود من ألمانيا. فقد سُنَّت في أيلول 1935 قوانين “نيرنبرغ” – قوانين عنصرية نصّت على أنّ اليهودي لا يمكنه أن يكون مُواطِنًا ألمانيًّا، وهكذا سُلب كلّ اليهود الألمان جنسيتهم وحقّهم في حماية القانون. وكما ذُكر آنِفًا، حاول النازيون عبر هذه الخطوات أن يدفعوا اليهود إلى حافة اليأس ويُكرهوهم على مغادرة ألمانيا. لكنّ ثلث يهود ألمانيا فقط هاجروا منها خلال السنوات الخمس التي تلت تولي النازيين مقادير السلطة، أي بين 1933 و 1938.

آن أوان أوّل عمل عُنف مُنظَّم للنظام النازي ضدّ اليهود: هجمات رعاع في كلّ أرجاء البلاد حدثت في تشرين الثاني 1938 في أحداث “ليلة البلّور”.

كنيس يهودي مدمّر في وايسلوخ، ألمانيا النازية، في أعقاب أحداث "ليلة البلور" عام 1938 (أرشيف ياد فاشيم)
كنيس يهودي مدمّر في وايسلوخ، ألمانيا النازية، في أعقاب أحداث “ليلة البلور” عام 1938 (أرشيف ياد فاشيم)

أحد الأحداث الأكثر شُهرةً في تاريخ الهولوكوست هو “ليلة البلّور” (بالألمانية: ‎‏‏Kristallnacht‏)، التي تُدعى أيضًا “مجزرة تشرين الثاني”، إذ كانت ليلة أعمال شغَب ضدّ اليهود في ألمانيا. ما هو معنى الاسم، ولمَ شكّل هذا الحدث نقطة تحوّل في علاقة ألمانيا النازية باليهود، وأدّى إلى تفاقُم سياستها التوسعية الخارجية وتسارُع الإعدادات للحرب؟

لم تكن هذه المرّة الأولى التي تجري فيها اعتداءات عنيفة على اليهود في ألمانيا، لكنّ ما حدث في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني كان مختلفًا بشكل جليّ. فخلال ساعات معدودة، أُحرِقت آلاف أماكن العمل، بيوت العبادة، والمؤسسات اليهودية، سُلبت، وهدمت. راح العشرات ضحايا فيما أُرسِل عشرات الألوف إلى معسكرات الاعتقال.

نالت هذه الأحداث لقب “ليلة البلّور” في وقت لاحق، بسبب انتشار شظايا زجاج واجهات عرض المحالّ التجارية التي كان يملكها يهود.

كانت هذه الليلة القاسية ذروة عملية استمرت طيلة العام 1938، الذي نظر إليه النازيون بصفته “عام الحسم”، سواء في السياسة حيال اليهود، أو في التوسّع الألماني في أوروبا والاستعداد للحرب.

حرق كنيس يهودي في أشفوغا، ألمانيا النازية، على محتوياته، خلال أحداث "ليلة البلور" عام 1938 (أرشيف ياد فاشيم)
حرق كنيس يهودي في أشفوغا، ألمانيا النازية، على محتوياته، خلال أحداث “ليلة البلور” عام 1938 (أرشيف ياد فاشيم)

حدثت “ليلة البلّور” بعد عدد من الإجراءات والخطوات الحاسمة: إنشاء معسكرات اعتقال لمُعارضي السياسة النازية؛ تسريع عملية جعل الاقتصاد الألماني “آريًّا”، أي مصادرة ممتلكات اليهود وإقصاؤهم من الحياة الاقتصادية؛ ضمّ النمسا؛ “مؤتمر إيفيان” – الذي اتضح فيه عدم استعداد أية دولة في العالم لاستقبال اللاجئين اليهود؛ القانون الذي ألزم اليهود ذوي الاسم اليهودي الواضح بإضافة الاسمَين “إسرائيل” و “سارة” إلى أسمائهم؛ و”مؤتمر ميونيخ” الذي استجابت فيه فرنسا، إيطاليا، وبريطانيا للطلب الألماني بضمّ إقليم السوديت التابع لجمهورية تشيكوسلوفاكيا إلى ألمانيا.

إنّ أحداث مجزرة “ليلة البلّور” التي تمّت بتوجيه من القيادة تبيّن العلاقة بين الخطوات السياسيّة والعسكريّة للنازيين وبين نشاطاتهم ضدّ اليهود.

في 27 – 28 تشرين الأول/ أكتوبر 1938، بدأت ألمانيا النازية حملة الطرد الجماعي الأولى لليهود. فقد طُرد نحو 17 ألف يهوديّ من رعايا ألمانيا الذين يحملون الجنسيّة البولندية إلى بولندا بقسوة شديدة، إلى منطقة البلدة الحدودية زبونشين. رفض البولنديون استقبال المنفيّين، ليجد الأخيرون أنفسهم بلا مأوى في المنطقة الحدودية.

اعتقال يهود على يد الشرطة النازية خلال أحداث "ليلة البلور" عام 1938 (أرشيف ياد فاشيم)
اعتقال يهود على يد الشرطة النازية خلال أحداث “ليلة البلور” عام 1938 (أرشيف ياد فاشيم)

وصف النازيون أحداث ليلة 9 – 10 تشرين الثاني/ نوفمبر في ألمانيا والنمسا أنها اندفاع تلقائيّ ناتج عن سُخط الألمان كردّ فعل على اغتيال “إرنست فون رات” – دبلوماسي في السفارة الألمانية في باريس، رغم أنّ الأمر كان مُخطَّطًا له مُسبقًا. كان المُعتدي شابًّا يهوديّا يُدعى هرشل غرينشبان، أراد الانتقام لطرد أُسرته. إثر عملية الاغتيال، شرع النظام الألماني في حملة تحريض على اليهود، مشجّعًا الجماهير، عبر قواه الأمنية، على الاعتداء الجماعي عليهم.
خلال الليل، أُحرقت وسُلبت معابد اليهود، متاجرهم، ومحالّهم، وغطّت شظايا الزجاج الشوارع، ممّا منح هذه الليلة لقبها.

قُتل خلال الليل أكثر من 90 يهوديًّا وأُرسل نحو 30 ألف آخرين إلى معسكرات الاعتقال. فُرضت غرامة بمقدار مليار مارك على يهود ألمانيا “لتعويض الأضرار التي حصلت”.

شكّلت “ليلة البلّور” الشرارة الأولى لسلسلة إضافية من الخطوات ضدّ اليهود في الرايخ الثالث، وللإدراك أنّ الألمان يمكنهم أن يستمرّوا في زيادة تطرّف سياستهم هذه إلى جانب سياستهم الدولية.

بعد المجزرة، نُشرت مجموعة أوامر إداريّة وقانونية لترويج هذه الأهداف: استكمال إضفاء الصبغة الآريّة على الدولة، تسريع الهجرة، العزل المطلق لليهود عن باقي السكّان، القضاء على تنظيم “الممثليّة القطرية ليهود ألمانيا”، الذي كان تنظيمًا يتمتع بشبه استقلاليّة، والقضاء على الجاليات اليهوديّة.

إثر “ليلة البلّور”، تسارعت الهجرة اليهوديّة من ألمانيا، النمسا، وتشيكيا، اللتَين جرى ضمّهما إلى ألمانيا نهاية 1938 وبداية 1939. لكنّ القيود الشديدة التي فرضتها دول العالم على استقبال اللاجئين اليهود كانت حجر عثرة أمام هجرة أكبر من ألمانيا، وبعد ذلك الدول الأخرى الواقعة تحت حُكم النازيين.

طرد يهود من ألمانيا خلال أحداث "ليلة البلور" عام 1938 (أرشيف ياد فاشيم)
طرد يهود من ألمانيا خلال أحداث “ليلة البلور” عام 1938 (أرشيف ياد فاشيم)

حظيت “ليلة البلّور” بتغطية إعلامية واسعة في الصحافة العالمية، وأثارت صدمة كبيرة في الدول الغربية. سحب الرئيس الأمريكي روزفلت سفيره من برلين، لكنّ النازيين لم يُبالوا، بل ردّوا بسحب سفيرهم من واشنطن. في الواقع، أدّت أحداث “ليلة البلّور” بالدول الغربية إلى الموافقة على استقبال بعض اللاجئين اليهود الإضافيين، لا سيّما الأولاد.

اقرأوا المزيد: 748 كلمة
عرض أقل
ضحايا المحركة في معسكر أوشفيتز (Wikipedia)
ضحايا المحركة في معسكر أوشفيتز (Wikipedia)

الفصل الأول في تاريخ الهولوكوست.. كراهية اليهود

لم تبدأ ظاهرة معادة السامية مع صعود هتلر والحزب النازي إلى الحكم، لكن لا شك في أنهما كانا المسؤولين عن دفع النظرية العرقية إلى الذروة، فكريا وعمليا

14 نوفمبر 2015 | 13:08

إثر اهتمام قرائنا وطلباتهم، قررت هيئة تحرير “المصدر” إطلاق مشروع مميّز، يحاول تزويد خلفية تاريخية حول “الهولوكوست” للقارئ العربي. ليس الأمر توثيقًا كاملًا أو أكاديميًّا، بل تقارير قصيرة وسهلة القراءة، تهدف إلى توفير معلومات أساسية جدًّا عن “الهولوكوست” – محرقة قُتل فيها ستة ملايين يهودي خلال الحرب العالمية الثانية.

نحن نولي اهتماما كبيرًا لهذا المشروع، وذلك على خلفية ظاهرة إنكار “الهولوكوست” المتفشية للأسف في العالم العربي أيضا. ستصف التقارير الأحداث وفق ترتيب زمني – بدءًا بجذور اللاسامية، وصولا إلى تنفيذ جريمة القتل ضد ستة ملايين يهودي، والتي أطلق عليها الألمان من باب التلطف: “الحل النهائي للمشكلة اليهودية”.

نأمل أن توفر المقالات إجابات على الأسئلة الأساسية وأن تُشجع قراءنا، لا سيما الشباب من بينهم، على الخوض بعمق في الموضوع.

جذور اللاسامية والأيديولوجية النازية

وراء كل عمل هناك فكرة. لا تبدأ جذور فكرة قتل ستة ملايين يهودي في الحرب العالمية الثانية بهتلر أو بالنظرية العرقية، بل يعود مصدرها إلى تعبير خاص عن العنصرية وكراهية الغرباء – اللاسامية. كانت كراهية اليهود التقليدية متجذرة في ألمانيا والبلدان الأوروبية على مدى أجيال كثيرة قبل “الهولوكوست”. عانى اليهود من الكراهية والعداوة واتُّهموا بالنجاسة، الكفر، وكراهية الغريب، حتى قبل اعتناق المسيحية في العالم الأوروبي. بعد انتقال العالم الغربي إلى “المسيحية”، وعلى مر مئات السنين، تحوّلت كراهية اليهود إلى كراهية دينية قوية جدا تستند، من بين أمور أخرى، على نظرات نمطية روّجت لها الكنيسة، فريات دم، كراهية اقتصادية، وكراهية الغرباء. وُصفَ اليهود كقاتلي يسوع المسيح. ولأنّ معظمهم آثروا عدم تغيير دينهم، ولو دفعوا مقابل ذلك ثمنا باهظا، أمسَوا مكروهين وانعدمت الثقة بهم. في القرون الوسطى، حُظر على اليهود العمل في مهن كثيرة. نتيجة لذلك، عمل بعضهم كمرابين، ما زاد من البُغض لهم. على مر القرون، أُذلّ اليهود في أوروبا، طُردوا من مكان سكناهم، وعانوا من المجازر وفريات الدم، كما أُكرهوا على حمل علامات تعريف مميّزة لتصنيفهم عن بقية السكان، وعلى السكن في أحياء منفردة.

نهاية القرن التاسع عشر، ونتيجة تطورات مختلفة كالعلمنة، والتحرر، والمفاهيم “العلمية” ظاهرًا، تغيّر مصطلح اللاسامية، الذي استُخدم لوصف مقاومة اليهود على أساس الاعتقاد الديني المختلف، ليصف مقاومتهم على أساس آخر – العرق. أصبحت كراهية الدين اليهودي كراهية تجاه الشعب اليهودي.

بروتوكولات حكماء صهيون

طبعة لنص "بروتوكولات حكماء صهيون" صدرت في مصر عام 1976. (وكيبيديا)
طبعة لنص “بروتوكولات حكماء صهيون” صدرت في مصر عام 1976. (وكيبيديا)

إحدى الكتابات اللاسامية الأكثر شهرة هي “بروتوكولات حكماء صهيون”، التي نُشرت في صحيفة روسية عام 1903. من المؤكد أن الاسم معروف لدى القارئ العربي، إذ إنها مُترجَمة إلى العربية ومنشورة في الدول العربية، بتشجيع من السلطات، على مدى عقود. تصف البروتوكولات مؤامرة لعصابة يهودية سرية، تُدعى “حكماء صهيون”، للسيطرة على العالم عبر خلق النزاع بين الدول، الإفساد الأخلاقي، والسيطرة الاقتصادية. كان انتشارها وتأثيرها في أوروبا كبيرَين. غنيّ عن البيان أن الأمر ليس توثيقًا حقيقيًّا، بل لا يعدو كونه تزييفًا من قبل الشرطة السرية في روسيا لتسويد سمعة اليهود. عام 1937، أقرت محكمة سويسرية أن المستند لا أساس له من الصحة، غير أن هذه الحقيقة لم تمنع الملايين الذين شاهدوا البروتوكولات من الاعتقاد أنها صحيحة.

يهود ألمانيا قبل الحرب

في ثلاثينيات القرن العشرين، عاش في ألمانيا نحو 500,000 يهودي، كانوا يشكلون أقل من نسبة مئوية واحدة (0.8 في المئة) من إجمالي السكان. معظمهم رأوا أنفسهم وطنيين مخلصين، وذوي صلة من حيث اللغة والثقافة بنمط الحياة الألماني. تفوق الكثير منهم في العلوم، والأدب، والفنون، وكانوا مبادرين ناجحين في مجالات الاقتصاد المختلفة. كان 24 في المئة من الفائزين الألمان بجائزة نوبل من أصل يهودي. بالمقابل، دفعت عمليات تاريخية مثل تغيير الدين، والزواج المختلط (بين اليهود والمسيحيين) وانخفاض بالتكاثر الطبيعي، الكثيرين في ألمانيا وخارجها إلى الاعتقاد أنّ اليهود سيختفون كليًّا من ألمانيا.

للمزيد من المفارقة، نشأت الأيدولوجية النازية داخل ألمانيا تحديدًا، وبين الشعب الألماني الذي طمح اليهود إلى الاندماج فيه.‎ ‎توهّم الكثير من اليهود أنّ دورهم في مجالَي التجارة والصناعة، وإسهامهم في الاقتصاد الألماني، سيردعان النازيين عن إبعادهم كليًّا.‎

وصول النازيين على العرش

يعود سبب وصول هتلر والحزب النازي إلى سدة الحكم إلى أسباب اجتماعية وسياسية نشأت في ألمانيا في الفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى. شعر الكثير من الألمان بالإحباط الشديد بسبب هزيمة ألمانيا في الحرب، وادّعوا أن “طعن سكين في ظهر الأمة” من قبل أعدائها هو سبب الهزيمة. كان اليهود عنوانا مركزيًّا لهذه التهم. كان هناك عنوان آخر وهو الديمقراطية: ادعى معارضو الانصياع لشروط الاستسلام التي حددتها معاهدة “فرساي” أن الديمقراطية لا تُلائم طبيعة ألمانيا، وكان هناك من قال إنّ الديمقراطية متأثرة باليهود. فُسرت شروط معاهدة فرساي للسلام وواجب دفع التعويضات المرتفعة للدول المنتصرة من قبل الألمان كانتقام من قبل المنتصرين.‎

لافتة في ألمانيا مكتوب عليها "ألمانيا خالية من اليهود" (متحف ياد فاشيم)
لافتة في ألمانيا مكتوب عليها “ألمانيا خالية من اليهود” (متحف ياد فاشيم)

أدى كل من الشعور بالإحباط والإذلال بعد الحرب، عدم الاستقرار الاقتصادي، والقلق من زيادة خطر الشيوعية، إلى ظهور مجموعات يمينية متطرفة، بينها الحزب النازي.‎ ‎أثارت الأزمة الاقتصادية العالمية، التي اندلعت عام 1929، الغليان والشعور باليأس.

عام 1919، انضم أدولف هتلر، الذي كان حينها جنديا مُسرّحا أُصيب في الحرب العالمية الأولى، إلى مجموعة هامشية تحوّلت لاحقا إلى الحزب القومي الاشتراكي. ‏‎ ‎سرعان ما أضحى هتلر زعيما للحزب، ليبلور الأسس العنصرية والمعادية للسامية في برنامج عمله. عام 1923، كانت هناك محاولة لإحداث ثورة والسيطرة على الحكم في ميونيخ، ولكنها فشلت. سُجن هتلر وكتب أثناء وجوده في السجن كتابه المعروف “كفاحي” (Mein Kampf)، موضحًا فيه أفكاره حول النظرية العرقية وسيطرة النازية على العالم بأسره. وصف هتلر في الكتاب الذي نُشر في مجلدين، اليهود، كمَن يسعون إلى “تدنيس الجنس الآري”.

استخدام الديمقراطية لإرساء الديكتاتورية

فهم هتلر أنّ عليه النضال من أجل الاستيلاء على الحكم بطرق شرعية وضعتها الديمقراطية تحت تصرفه، ولكنه ومعاونيه أعلنوا جهرًا أنّ الحرية الديمقراطية هي مجرد وسيلة يستخدمونها لبلوغ السلطة.

في انتخابات عامَي 1924 و1928 للرايخستاغ – البرلمان الألماني – حظي الحزب النازي بنسب ضئيلة فقط من أصوات الناخبين، حاصدًا أقلّ من 15 مقعدًا.‎ ‎أمّا في المعركة الانتخابية عام 1930، بعد اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية، فقد أحرز النازيون بشكل مفاجئ 107 مقاعد. وبعد انتخابات تموز 1932 (مع 230 مقعدًا)، أصبح النازيون الكتلة الأكبر والقوة السياسية المُسيطرة. إذا، سيطر النازيون على الحكم بأسلوب ديمقراطي. ألقى الرئيس هيندنبورغ على هتلر مسؤولية تشكيل الحكومة، وبتاريخ 30 كانون الثاني عام 1933 وصل هتلر إلى سدة الحكم.‎‎

ألمان في برلين يقرأون لافتات عن المقاطعة الاقتصادية لليهود (متحف ياد فاشيم)
ألمان في برلين يقرأون لافتات عن المقاطعة الاقتصادية لليهود (متحف ياد فاشيم)

النظرية العرقية النازية وقوانين نيرنبرغ

كما ذُكر آنفًا، فيما كانت اللاسامية ترتكز في الماضي على الكراهية على أساس الدين أو القومية، نشأت في القرن العشرين الكراهية على أساس عِرقي. بكلمات أخرى، تجسدت اليهودية منذ هذه اللحظة بالمميّزات البيولوجية لليهودي. وفق المفهوم العِرقي، فإن الشعب الألماني هو الفرع المختار والأكثر طهارة للجِنس الآري – النوردي (إضافة إلى الشعوب النوردية – الإسكندينافية)، أمّا اليهود فهم عِرق فرعي يسعى دون كلل إلى تشويش النظام في العالم، ويحاول سلب العِرق الأسمى سيطرته وقيادته.

رسم توضيحي يعيّن من هو اليهودي حسب قوانين نيرنبرغ (متحف ياد فاشيم)
رسم توضيحي يعيّن من هو اليهودي حسب قوانين نيرنبرغ (متحف ياد فاشيم)

ادعت الأيديولوجية النازية أنه إذا لم ينتصر الجنس الآري ويبسط سيطرته على وجه الأرض، قد يقود اليهود البشرية إلى التضاؤل والانحلال. عام 1935، بعد صعود النازيين إلى سدة الحكم، تم تشريع “قوانين نيرنبرغ”، التي جعلت اليهود في ألمانيا مواطنين من الدرجة الثانية. يجري الحديث عن قانونَين أساسيَّين، أضيفت إليهما لاحقًا قوانين وأوامر أخرى. نصّ القانون الأول، “قانون المواطنة”، أنّ الألمان فقط أو ذوي “الدم الألماني” يمكنهم أن يكونوا مواطني الرايخ. شكّل هذا القانون الأساس لإخراج اليهود من كل مجالات الحياة في ألمانيا. وكان هناك قانون ثانٍ، “قانون حماية الدم والكرامة الألمانيَّين” الذي حظر، بين أمور أخرى، الزواج أو إقامة علاقات جنسية بين اليهود والألمان.

في الحقيقة، جعلت قوانين نيرنبرغ النظرية العرقية سياسة رسمية لألمانيا، مُشرِّعةً العنصرية. شكّلت القوانين تصعيدًا لخطوات معادية لليهود، اتُّخذت ضد يهود ألمانيا بعد صعود النازيين إلى الحكم، وكانت تهدف إلى عزل وإخراج اليهود من دوائر حياة الألمان.

اقرأوا المزيد: 1128 كلمة
عرض أقل
رسم من كتاب يعود إلى القرن التاسع عشر، شكّل أساسًا لنظرية الأعراق النازية
رسم من كتاب يعود إلى القرن التاسع عشر، شكّل أساسًا لنظرية الأعراق النازية

حين تتغلب العنصرية على العِلم

كانت نظرية الأعراق المبرّر الأيديولوجي لقتل ملايين وإقامة خطط لـ "تحسين العِرق الآريّ"؛ هكذا شوّه النازيون الإنجازات العلميّة لتحقيق خطّتهم الشيطانيّة

لم تجرِ صياغة العنصرية بطريقة واضحةٍ ووقحة أكثر ممّا فعله منظّرو الأعراق النازيون. وُضعت أعمال كاملة لعلماء فقط بهدف البرهان على أن أبناء عِرقٍ ما أسمى من العروق الأخرى، وأنه يمكن تصنيف مدى ذكاء وتفوّق البشر عبر التحدّر العرقي فقط.

من البيّن أنّ الضحايا الرئيسيين لهذه الأيديولوجية المجنونة هم يهود أوروبا، لكن من الممكن أن ندرك بسهولة إلى أيّ حدّ كان ممكنًا أن تكون مجموعات إثنيّة أخرى مثل العرب، الآسيويين، السود، الغجر، أو الهنود ضحايا العنصرية النازية. مهّدت الأيديولوجية العنصرية الطريق لقتل كلّ إنسان لا ينتمي إلى العِرق الألماني – الآري “الأسمى”. ولو احتلّ النازيون الشرق الأوسط، يُحتمَل أنّ عربًا كثيرين، لا اليهود فقط، كانوا سيقعون ضحية لمجازرهم الجماعيّة.

عنصريّة عِلميّة

يبدو اليوم أنّ الفرضيّات التي بُنيت عليها النظرية، التي تُفيد بأنّ المنتمين إلى عروق معيَّنة هم “أدنى” ولا يمكنهم بلوغ إنجازات ذهنيّة وروحانيّة يمكن أن يبلغها فقط بنو العروق “الأسمى”. في يومِنا هذا، في ظلّ تربُّع رئيس من أصول إفريقية – أمريكية على عرش البيت الأبيض في واشنطن وقيادته الأمة الأقوى في العالم، تبدو الفكرة أنّ الناس من عُروق معيّنة عاجزون عن التفكير كنظرائهم من عروق أخرى سخيفة.

لكن في ألمانيا في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، حين كان النازيون يوطّدون سلطتهم، بدت النظريات العرقية علميّة محضة. وقد كان لتلك النظريّة المشوَّهة عددٌ من الأساسات التي ساهمت في تطويرها، وجعلها الأيديولوجية الرسمية لألمانيا.

رسوم من كتاب نازي تشرح فيه النظرية العنصرية النازية
رسوم من كتاب نازي تشرح فيه النظرية العنصرية النازية

أحد جذور هذه النظرية هو “فراسة الدماغ”، نظرية ازدهرت في أوائل القرن التاسع عشر، وادّعت أنّ مبنى الشخصية متّصل بمبنى جمجمة الإنسان.‎ وفق النظرية، ثمة 42 منطقة في الدماغ، كلّ واحدة منها مسؤولة عن خصلة مختلفة في الطباع، ويمكن لقياس الجمجمة أن يحدّد طبيعة الإنسان وذهنه. كانت النظرية شعبيّة ليس في ألمانيا فحسب، بل أيضًا في الولايات المتحدة، واستخدمها علماء الإجرام بشكل أساسيّ.

هكذا قاس النازيون جماجم اليهود، الروس، والسود، وقارنوها بجماجم الألمان ذوي الأصل الآريّ، بهدف الإظهار أنّ ذكاء الألمان أسمى من باقي العروق. وجد العِلم الحديث أنه رغم أنّ بعضًا من أُسس النظرية تبيّن أنه صحيح، فإنّ القدرة على استخلاص استنتاجات من مبنى الجمجمة حول طبيعة الإنسان لا أساسَ لها مطلقًا.

أمّا النظرية الأخرى التي كانت مُلهمًا للنظرية العرقية فهي “النظرية النوردية”، وهي إحدى الصيغ المبكرة للنظرية، قبل النازيين. اعتقدت النظرية أنّ الأوروبيين ينقسمون إلى ثلاثة أعراق ثانوية: العِرق الفرعي “النوردي”، العرق الفرعيّ “الألبيني”، والعرق الفرعي “البحر متوسّطي”، وأنّ العرق “النوردي”، الذي تميّز بلون الشعر الأشقر، العيون الزرقاء أو الخضراء، طول القامة، واتّساع الكتفَين، هو العرق الأسمى والسائد.

ساهم عدد من الفلاسفة البارزين على مرّ التاريخ في هذا الفهم المشوَّه أنّ الرجل الأبيض، أو الألماني، هو مخلوق تسمو قيمته على أبناء عروقٍ أخرى. وأحد أكبر المساهمين في دعم هذه النظرية هو الفرنسي آرثر دو غوبينو، الذي ألّف عام 1853 كتاب “أصل التفاوت بين الأجناس البشرية”، الذي يوصف بأنه أحد أشدّ المؤلفات عنصريةً ومنهجيةً في التاريخ، إذ حدّد أنّ الإنسان الأبيض يقود التاريخ، ويقود تطوُّرَه.

أمّا الفيلسوف الألماني في القرن التاسع عشر، آرثر شوبنهاور، فقد صاغ هذه الموقف بأوضح طريقة، إذ كتب: “إنّ الحضارة والثقافة الأسمى على الإطلاق، باستثناء الهنود القدامى والمصريّين، موجودة حصرًا لدى العروق البيضاء؛ وحتّى بين لدى الشعوب ذات البشرة الداكنة، فإنّ لون المجموعة السائدة أكثر بياضًا من باقي المجموعات”.

من النظرية إلى الأيديولوجية

إثر الحرب العالمية الأولى ويقظة القوميّة الألمانية، أضحت صيغٌ مجرّدة للنظرية شائعة لدى جميع الطبقات في ألمانيا، لا الفلاسفة الألمان فحسب. أراد جموع الألمان، الذين آلمتهم الهزيمة في الحرب العالمية الأولى والوضع الاقتصادي السيء الذي رافقها، تطهير شعبهم من الأعراق الأجنبية، مستخدِمين تلك المعتقدات لتعزيز هويتهم القومية. وقد آمنوا أنه يجب التأكد من عدم تلوّث “العرق الأسمى” بعروق أدنى، لا سيّما اليهود.

حين كتب أدولف هتلر كتابه “كفاحي” أثناء مكوثه في السجن الألماني، استند إلى نظريات نوردية كهذه، أفادت بأنّ اختلاط الشعب الألماني بشعوبٍ “أدنى” هو ظاهرة حقيرة، وأنه يجب الحفاظ على طهارة العرق الألماني – الآريّ. مع صعودِه إلى السلطة في ألمانيا، أضحى هذا الموقف الأيديولوجيّة الألمانية الرسمية، التي طُبّقت ألمانيا وأوروبا كلّها.

اللاعب أولمبي لرياضة الجمباز ألفريد شفارتزمان خلال الألعاب الأولمبية في برلين عام 1936  (CORR / HO / AFP)
اللاعب أولمبي لرياضة الجمباز ألفريد شفارتزمان خلال الألعاب الأولمبية في برلين عام 1936 (CORR / HO / AFP)

كانت “قوانين نيرنبرغ” التي سُنَّت عام 1935 التطبيق الرسمي لتلك الأيديولوجيات العنصرية. جرّاء سنّها، جُرّد جميع الألمان اليهود والغجر من الجنسيّة، ففقدوا مكانتهم القانونية. فضلًا عن ذلك، فرض “قانون حماية الدم الألمانية” عددًا كبيرًا من القيود المُذلّة على اليهود. فقد حظر عليهم التزوّج بالألمان، تشغيل مساعِدات ألمانيات في منازلهم، والجلوس على مقاعد عامّة، فضلًا عن منع معظمهم من الدراسة في الجامعات والعمل في المستشفيات.

وتجسّد كلمات هتلر نفسه عام 1939 بشكل واضح نطاق العنصرية الرسمية لألمانيا والنتائج المترتّبة عنها: “لن تعرف أوروبا السلام حتّى تتخلص من المشكلة اليهودية. إذا نجحت اليهودية… في جرّ الأمم إلى حربٍ عالميّة ثانية، فإنّ النتيجة لن تكون انتصار اليهودية، بل إبادة العرق اليهودي في أوروبا”. وهكذا، أودت أيديولوجيّة هتلر بحياة ستّة ملايين يهودي.

تحسين العِرق الألماني

إلى جانب إلحاق الضرر بشكلٍ ملحوظ باليهود، عمد الألمان إلى اتّخاذ خطوات تهدف إلى تثبيت تفوّقهم العِرقيّ. هدف برنامج دُعي “ينبوع الحياة” الألماني، طبّقه الحزب النازي، إلى “تحسين” العرق الآري عبر مزاوجة رجال ونساء لديهم صفات ألمانية كلاسيكيّة. كان معظم الآباء ضبّاطًا ألمانًا في الـ SS، وحدة الإرهاب الأعلى في الحزب النازي. وكان الهدف تنشئة جيل من الرجال والنساء الأقوياء، الأذكياء، والحِسان ليشكّلوا “نخبة” العرق الألماني.

أدولف هتلر في لقاءٍ مع ضبّاط SS. أراد النازيون بواسطتهم تحسين العرق الألماني (AFP)
أدولف هتلر في لقاءٍ مع ضبّاط SS. أراد النازيون بواسطتهم تحسين العرق الألماني (AFP)

جرى تأكيد هذه النية في تصريح رسميّ صادر عن الحكومة الألمانية، فور اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939، إذ حدّد المهمة الأسمى لـ “ذوات العرق النقيّ” بإنجاب أطفال المقاتِلين الذاهبين إلى القتال. نُقل الأطفال ذوو الأصول الآرية والمميّزات الجسديّة الملائمة لتهتمّ بهم عائلات “طاهرة”، أو مؤسّسات “طاهرة”، كان هدفها تربيتهم وتأهيلهم بصفتهم أبناء العِرق الأسمى. أمّا الأولاد الآخَرون فقد وُضعوا جماعيًّا في منشآت لتنشئتهم وتربيتهم.

عدا ذلك، كلّما ازداد مساحة الأراضي التي احتلّها الألمان خلال الحرب، جرى إنشاء مراكز لخطة “ينبوع الحياة”، بهدف تنشئة الجيل التالي للنسل المحسَّن للعِرق الأعلى في دُوَل خارج ألمانيا أيضًا. في حالات معينة، جرى خطف أطفال كانوا يفون بتلك المقاييس العنصرية ووضعهم في مراكز التربية تلك. ومن المعروف أنّ نحو ثمانية آلاف طفل كهؤلاء جرت تربيتهم في مراكز في ألمانيا، ونحو 8 آلاف آخرين في النروج. وفي دول مثل النمسا، الدنمارك، فرنسا، بلجيكا، وبولندا، أُنشئت مراكز كهذه.

نهاية الأمر

فشل هذا المشروع الطموح والعنصري، بطبيعة الحال. فقد هُزمت ألمانيا في الحرب، ولم يُسجَّل أيّ تغيير جذريّ في التركيبة الديمقراطيّة لأوروبا. عانى آلاف الأولاد الذين جرت تنشئتهم في “مختبَرات التكاثر” النازية من صدمات نفسيّة صعبة، لأنهم كبروا دون معرفة والديهم الحقيقيين. وطالب العديد من الناتجين عن تلك المراكز، لا سيّما أولئك المولودين لأمهات نروجيّات اغتصبهنّ ضبّاط ألمان، تعويضاتٍ من الحكومة الألمانية.

تحوّلت تلك الخطّة الجامحة والعنصرية، التي كان يمكن أن تغيّر وجه العالم، إلى فصلٍ لن يتكرر في التاريخ البشريّ. وهذا ما حلّ أيضًا بالنظرية العنصرية النازية التي اضمحلّت، ولا تجرؤ أية دولة في العالم على إعلانها أيديولوجيّة رسميّة لها. لا تزال العنصرية قائمة في العالم، لكن نأمل أن لا تعود إلى رفع رأسها من جديد بطريقة منظّمة وقاسية كهذه.

اقرأوا المزيد: 1045 كلمة
عرض أقل