في أحد لقاءاتي الكثيرة مع أشخاص ونشطاء اجتماعيين في إسرائيل، التقيت مؤخرا بشيخ استثنائي يعمل في إسرائيل بلا كلل لتعزيز رسالة المحبة والسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين وبين مواطني إسرائيل اليهود والعرب.
في كل مقابلة يقدّمها لوسائل الإعلام تقريبا يكرّر الآية القرآنية، كشعار: “لا إكراه في الدين” (سورة البقرة، الآية 256). في زيارة التعزية الأخيرة التي أجراها في القدس، بعد المذبحة الفظيعة في الكنيس في هار نوف (والتي قُتل خلالها 4 مصلّين يهود) بدا متفائلا أكثر من أيّ وقت مضى، بأنّ السلام سيسود وبأنّ يد المحبّة أقوى من يد أولئك الذين يسعون إلى تقويضها.
الطائفة الأحمدية ليست حركة باطنية في الإسلام، وإنما يبلغ تعداد أفرادها عشرات الملايين من المؤمنين والذين يعيشون في 170 دولة
كان الحوار بين الشعوب في السنوات العشر الأخيرة عنيفا. فقد الكثير من الناس الأمل في الأخوة بين الطوائف وبين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبطريقة أو بأخرى يبدو هذا الشيخ كما لو كان يقاتل وحيدا، مع ابتسامة عريضة امتدّت على وجهه، يقاتل من أجل محاربة التفسير المتطرف للقرآن وأحاديث النبي، يقاتل من أجل بناء الحوار بين الأديان ولا يتوقف للحظة.
خرجت للقائه في حيفا، في أعلى الجبل في حيّ الكبابير. كان هدف اللقاء مع الشيخ محمد شريف، رئيس الطائفة الأحمدية في إسرائيل، هو محاولة فهم ما يحرّكه، هل حقّا مفاهيم المحبّة والسلام موجودة في الإسلام، وما هو الخطأ الذي حدث، وكيف تعيش الطائفة الأحمدية في إسرائيل.
ما الخطأ الذي حدث في الإسلام؟
سماحة الخليفة الخامس، ميرزا مسرور أحمد (AFP)
“أزعم أنّ الإسلام بدأ يُفسّر كدين عنيف مع تحوّله إلى عبادة أصنام. ألقي اللوم على العديد من المفسّرين المسلمين في العالم الإسلامي، والذين حوّلوا الحجر للعبادة، وقدّسوا النصوص والطقوس والأماكن الدينية أكثر من حياة الإنسان”، هكذا بدأ الشيخ شريف المحادثة بيننا. لم أفهم ماذا قصد وطلبت منه شرح كلامه. “هل تعلم على سبيل المثال أنّ كلمة سيف لا تظهر ولو مرة واحدة في القرآن؟ هل تعرف الآية “ولا تعتدوا إنّ الله لا يحبّ المعتدين”. أعارض تماما الكثير من المفسّرين الإسلاميين الذين يدفعون الشباب إلى التطرّف وتشويه المفاهيم الدينية، مفاهيم وأساسيات الإسلام، التي تحوّلت إلى مفاهيم الخوف، الإرهاب والرعب. لم يأتِ مؤسس المعتقد الأحمدي (ميرزا غلام أحمد) بدين جديد إلى العالم، فقد كان مسلما. لقد سعى إلى التأكيد على خصائص الأخوة والسلام الموجودة في القرآن والإسلام. لا يمكن تجاهل آيات قرآنية مثل “لا إكراه في الدين”. لا ينبغي أن يكون هناك إكراه ديني كما تقول الآية: “وقل الحق من ربّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”.
نحن الأحمديون والمسلمون عموما نؤمن بطريق السلام والمحبّة بين الشعوب. هناك اتّجاه مقزّز بين الفقهاء المسلمين الذين فقدوا الطريق واستخدموا الإسلام لأغراض سياسية إجرامية من أجل تعزيز أجندة معيّنة والتي لا تتّفق مع ما أعرفه وأحبّه في الإسلام”.
من هم الأحمديون؟
مسجد الطائفة الأحمدية في قرية الكبابير في مدينة حيفا إسرائيل (Noam Moskowitz)
الطائفة الأحمدية ليست حركة باطنية في الإسلام، وإنما يبلغ تعداد أفرادها عشرات الملايين من المؤمنين والذين يعيشون في 170 دولة، معظمهم في جنوب شرق آسيا وغرب أفريقيا. يقع المركز العالمي للطائفة في لندن.
“لم يدخل النبي محمد (صلعم) أبواب مكة بواسطة سيفه ولم يقطع رأس معارضيه الذين أهدروا دمه وقتلوا أبناء عائلته والعديد من صحابته خلال سنوات طويلة”
الطائفة الأحمدية هي حركة إصلاحية عالمية جديدة. تأسست عام 1889 في مدينة قاديان في الهند. ادعى مؤسّسها، ميرزا غلام أحمد، أنّه النبي المصحّح والموعود والذي انتظر دعاة الأديان المختلفة ظهوره تحت أسماء وألقاب عديدة. يعتقد الأحمديون بأنّهم يمثّلون الوجه الحقيقي للإسلام، الإسلام كطريقة حياة عالمية، المتسامح، والذي يدعو إلى محبّة الناس واحترام الآخر ويرى دعاة هذا الدين أنفسهم مسلمين بكل معنى الكلمة وبأنّ الإسلام هو دين عالمي ويهدف إلى خدمة الإنسانية.
في هذا الشأن يجب أن نقول إنّ المسلمين من التيار التقليدي يتعاملون مع الأحمديين باعتبارهم “غير مسلمين”، وذلك بشكل أساسيّ بسبب إيمانهم بأنّ النبي محمد ليس آخر الأنبياء في سلسلة الأنبياء الطويلة. يؤمن المسلمون الأحمديون بأن ميرزا غلام أحمد هو الإمام المهدي والمسيح الموعود، بينما يرفض ذلك عامة المسلمين مصرحين بأن ميرزا غلام أحمد لم يكن مصداقا لنبوءات الإمام المهدي وأن لقب المسيح أعطي لعيسى وليس لأحد غيره، لذلك يعتبرونه مدعيا كاذبا للنبوة. فضلا عن ذلك، فقد اجتمع عام 1970 نحو 140 من كبار علماء الدين المسلمين وقرّروا بأنّ “القاديانية أو الأحمدية: حركة تخريبية ضد الإسلام والعالم الإسلامي، والتي تدعي زورا وخداعا أنها طائفة إسلامية، والتي تختفي بستار الإسلام ومن أجل مصالح دنيوية تسعى وتخطط لتدمير أسس الإسلام ”.
داعش، السلفية والجهاد
شيخ الطائفة الأحمدية في إسرائيل، السيد محمد شريف (Noam Moskowitz)
أنت تعلم أن العالم ينظر اليوم إلى الإسلام ويخاف ويكره ما يمثّله. ما رأيك بذلك؟
لم تردع كلماتي الشيخ وابتسم مجدّدا بابتسامته وبدأ يشرح لي تعاليمه وما جاء في القرآن. “خذ داعش كمثال، أولئك الذين يدمّرون الكنُس والكنائس باسم الإسلام. أولئك الذين يقتلون المسيحيين واليزيديين الذين لا يدخلون الإسلام. هل برأيك هم يعملون وفقا لهذه الآية التي قرأتها لك؟ “لا إكراه في الدين”. سأعطيك مثالا آخر. يكتب العديد من المفسّرين اليوم بأنّه في الدول الإسلامية “لا يجوز بناء الكنُس أو الكنائس أو الحفاظ عليها”. هل تعتقد أنّ هؤلاء الفقهاء يعملون وفقا للقرآن؟ هذا ما يقوله القرآن في هذا الموضوع: “الذين أُخرجوا من ديارهم إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهُدّمت صوامع وبيع ومساجد يُذكر فيها اسم الله كثيرًا”. أنت تدرك أنه يوجد هنا استخدام للأقوال المقدّسة لصالح الصراعات السياسية الظلامية”.
تفسير فريضة الصلاة في كتب أطفال الصف السادس في المدارس الإسرائيلية (Noam Moskowitz)
تذكّر الشيخ خلال حديثنا بمثال حيّ عن تفسير قاصر للآيات القرآنية والذي يزيّن كتب تعليم الدين، تحديدا في نظام التعليم العربي في إسرائيل. توجّه إلى المكتبة وسحب كتابا لتعليم الإسلام للصف السادس وأظهر لي كيف يتم تفسير أوامر الصلاة وأي تعامل قد يتلقّاه أولئك الذين لا يعتادون على إقامتها. “انظر مكتوب هنا بشكل واضح “فتارك الصلاة جحودًا وإنكارًا لفريضتها كافر يُقتل شرعًا”. تدرك فجأة أن الطفل في الصف السادس الذي يحرص على إقامة تعاليم الدين، قد ينهض في يوم من الأيام ليقوم بعمل فظيع لصديقه أو لشقيقه أو لابن عمه الذي لا يصلّي. ألقي اللوم على المفسّرين والعديد من علماء الدين المسلمين الذين يعطون تفسيرات متطرّفة لكل آية محتملة”.
وما رأيك بداعش؟
المجتمع الأحمدي في قرية الكبابير، حيفا (Noam Moskowitz)
“إنّهم أشخاص مساكين. في نهاية المطاف هم يتعلّمون في الجامعات والكليات الدينية وهناك مفسّرون سلفيّون ووهابيّون متطرّفون يُدخلون إلى رؤوسهم رؤى متطرّفة من الكراهية والتمرّد، مثل “دار الحرب ودار الإسلام”، والجهاد بواسطة السيف. لا يوجد في الإسلام إكراه ديني أبدأ، وكل من يفسّره بشكل آخر مخطئ ومُضلِّل. لم يدخل محمد أبواب مكة بواسطة سيفه ولم يقطع رأس معارضيه الذين أهدروا دمه وقتلوا أبناء عائلته والعديد من صحابته خلال سنوات طويلة”.
“لن يستطيع الإسرائيليون أن يسكنوا في سلام طالما لم يسكن جيرانهم الفلسطينيون بسلام”
يقف العالم اليوم على قدميه عندما يسمع كلمة جهاد. الدلالة المباشرة هي الإضرار بالأبرياء وقتلهم، حافلات تتفجّر، إطلاق الرصاص على هيئات تحرير الصحف وقطع الرؤوس في الميادين أمام أنظار الجميع. “المفاهيم المُقررة في القرآن وحديث النبي بخصوص الجهاد محدّدة جدّا، وهي جهد أعلى. ليس هناك في القرآن استخدام واحد لكلمة جهاد تأتي في حالة حرب أو قتال. جاء في القرآن “وجاهدهم به جهادًا كبيرًا”. وكيف يتم هذا الجهاد؟ بالشكل التالي: “ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ”. هذه الآيات واضحة جدا. يطلب منّا الله أن نجادل أولئك الذين يقفون ضدّنا وأن نبيّن لهم خطأهم بنيّة صادقة”.
حرصت الجماعة الأحمدية على ترجمة القرآن الكريم الى 70 لغة (Noam Moskowitz)
لم تتوقف كلمات الشيخ اللائمة عن الخروج من فمه “الصيغة التي يجب أن تقود الحوار المتجدّد حول الإسلام برأيي هي وفقًا للآية “ولا تستوي الحسنة ولا السيّئة”. يوجد هنا كلمات عتاب بأنّ الأعمال الجيدة لا تساوي أبدا الأعمال السيئة وأن الإنسان بينه وبين نفسه وبينه وبين الآخر الذي يقف أمامه، سواء كان مسيحيا، يهوديا أو بوذيا، يعرف ما هو العمل الإجرامي وما هو العمل الجيّد”.
حياة المجتمع الأحمدي في الكبابير
استهلكت المحادثة بيني وبين الشيخ عدّة ساعات، وطوال الوقت كان ظاهرا عليّ الرغبة في التعرف أكثر فأكثر على وجهة نظر الأحمديين. بعد صلاة الظهر خرجنا أنا والشيخ بجولة قصيرة في حيّ الكبابير، وهو مقرّ 2000 من أبناء الطائفة الأحمدية في أعلى الجبل بحيفا.
المجتمع الأحمدي في قرية الكبابير، حيفا (Noam Moskowitz)
يظهر في الأسفل المنظر الرائع للبحر المتوسّط وفي الأعلى منازل أبناء الطائفة. شرح لي الشيخ قليلا عن حياة المجتمع، وأراني المقبرة المحلّية التي دُفن فيها جدّه وأسلافه. صعدنا والتقينا بشبان خلال يوم عملهم في منجرة. فرح الجميع في رؤية الأمير محمد شريف، رئيس طائفتهم، ولوّح الجميع له بأيديهم من بعيد ورحّبوا بنا بتحيّة السلام عليكم.
“أبناء الطائفة هنا في الكبابير يعتنون بأنفسهم. قمنا بأنفسنا بتمويل بناء المسجد الجديد. بنينا قربه مركز ضيافة وبيت دعوة، وحرصنا على تجنيد وزارة التربية الإسرائيلية لإقامة مدرسة لأطفال الطائفة. يتبرّع أبناء الطائفة بين 6.25% إلى 10% من دخلهم الشهري”.
المجتمع الأحمدي في قرية الكبابير، حيفا (Noam Moskowitz)
ذهبنا في زيارة قصيرة إلى المدرسة. لم أزر أبدا مدرسة هادئة جدا ونظيفة مثل المدرسة التي يتعلم فيها أبناء الطائفة. صعدنا إلى أحد الصفوف لأخذ انطباع. “السلام عليكم”، رحّب بنا الأطفال. كانوا متفاجئين من الزيارة غير المتوقعة ومن المصوّر الذي رافقنا، والذي بدأ بتصوير مجرى الدرس. “نحن حريصون على منح أطفالنا قيم التسامُح والإنسانية ليس بينهم وبين أنفسهم فقط أو بينهم وبين الآخرين. نحن حريصون أيضًا على إكسابهم قيم الحفاظ على البيئة الخضراء. الله هو ربّ العالمين ليس فقط ربّ البشر، ولذلك فنحن حريصون على رعاية البيئة الخضراء حول منازلنا وحول المدرسة”.
في نهاية الجولة، وصلنا إلى منزل الشيخ المتواضع. تظهر من غرفة الجلوس في منزله إطلالة خلّابة لخليج حيفا. أشار إلى الأراضي في أسفل الجبل وقال “كانت تلك جميعا في يوم من الأيام أراضي الطائفة الأحمدية في حيفا. تمّت مصادرة أجزاء واسعة منها من قبل البريطانيين ومن قبل إسرائيل لإقامة ثكنات والمقبرة التي تراها في الأسفل”. سألته فورًا “أنت تفهم أن نهجك في السلام والأخوة يمكنه أن يُخادِع. ألا يوجد في نفسك قطرة غضب أو حقد على مصادرة تلك الأراضي؟”. لم تتأخر إجابته وقال “وإذا غضبت، ماذا يفيد ذلك؟ هل يجب أن يكون البديل قتاليّا؟ على ماذا حصّل أولئك الذين أهدروا الدماء غير التطرّف وترسيخ جذور الكراهية. لا أقول إنّه لا ينبغي الحرص على أبناء الطائفة وإنه يجب التنازل عن النضال من أجل المساواة في الحقوق مع المجتمع اليهودي في إسرائيل. ولكنّني فقط أؤمن أنّ هناك طرقًا أخرى للقيام بذلك. هذا تماما ما أعتقده بالمناسبة حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني أيضًا. لن يستطيع الإسرائيليون أن يسكنوا في سلام طالما لم يسكن جيرانهم الفلسطينيون بسلام”.
سيكون ذلك مبتَذَلا إذا قلت إنّه في هذا اليوم شعرت في قرية الكبابير وبمرافقة الشيخ محمد شريف، بأنّني وجدتُ علاجا وإجابات على أسئلة عديدة تخبّطتُ فيها على مدى فترة طويلة حول الإسلام، الجهاد، داعش والتعايش بين الشعوب. ولكن يمكن أن أقول إنّه خلال بضعة ساعات قليلة، في مكان ما في أعلى الجبل بحيفا، انكشفت لي وجهات نظر تصالحية ومُرضية، والتي منحتني القليل من راحة البال والتفاؤل بأنّ هناك طريقة مختلفة في الحياة وزاوية مختلفة للنظر إلى ما يحدث هنا في الشرق الأوسط.
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني