هنالك طريقة واحدة لتمييز الفقراء والمساكين بين ركاب القطار الخفيف في القدس، وهي أكياسهم البلاستيكية. فهم يحملون فيها الفواكه والخضراوات التي اشتروها من السوق، ثياب رخيصة، علب السجائر، دفاتر وكتب دينية. إن المشترك في محنهم وتعبهم خلال اليوم العصيب لراكبي القطار الخفيف، عربًا كانوا أم يهودًا، هو الأكياس.
محطة القطار الخفيف في القدس (Miriam Alster/FLASH90)
منذ افتتاحه عام 2011، يُعتبر القطار الخفيف واحدًا من وسائل النقل الوحيدة في القدس التي تخدم السكان اليهود والعرب بشكل مشترك، ويمر بين الأحياء العربية واليهودية على حد سواء.
بما يخص الحافلات، فهنالك نوعان من أنظمة المواصلات العامة المنفصلة، واحدة للأحياء اليهودية وأخرى للعربية. يستخدم الكثير من العرب خدمات الحافلات الإسرائيلية لتوصلهم من بيوتهم إلى مركز المدينة، فإن خطوط هذه الحافلات لا تدخل إلى أحيائهم.
ولكن القطار الخفيف يختلف في ذلك، فهو يسافر من حي بيت هاكيريم اليهودي، مارًا بمركز المدينة والحد الفاصل بين غرب المدينة وشرقها، مكملًا طريقه إلى حي شعفاط الفلسطيني، ثم عودةً للمنطقة اليهودية في حي بسغات زئيف.
أستقل القطار في المحطة المركزية في القدس متجهًا شرقًا. في ساعات الظهيرة هذه، تختنق المقطورة بالازدحام، يهود متدينون في الغالب. يصعب إيجاد مكان للوقوف براحة وبثبات في حين ينطلق القطار باتجاه شارع التوريم المليء بالعيادات، ويستقبل من يعطس ويسعل من العائدين من زيارة الطبيب. ومن هناك نكمل طريقنا لمحطة سوق محانيه يهودا، ويقل الضجيج كلما قلت عربات المشتريات. ويمكننا الجلوس.
محطة القطار الخفيف في القدس (Nati Shohat/Flash90)
وقدمًا، إلى ساحة “دفيدكا”. دفيدكا هي نوع من القذائف المستخدمة من قبل القوات الإسرائيلية في حرب 1948، وكانت واحدة من أسباب الانتصار اليهودي والهزيمة الفلسطينية. يتعجب العديد من السياح عند سماعهم بأن المقدسيين قد أطلقوا اسم آلة قتل على ساحة، لكن في هذه المنطقة من العالم التي نحيا بها، لا يثير الاسم أي استهجان.
وقدمًا، إلى ساحة “دفيدكا”. دفيدكا هي نوع من القذائف المستخدمة من قبل القوات الإسرائيلية في حرب 1948، وكانت واحدة من أسباب الانتصار اليهودي والهزيمة الفلسطينية
يعج مسار القطار الخفيف في القدس بأسماء كهذه: طريق نركيس، تيمنًا بالجنرال الإسرائيلي عوزي نركيس، الذي قاد احتلال شرقي القدس عام 1967، محطة يكوتيئيل أدم، نسبةً للجنرال الإسرائيلي الذي قُتل على أيدي منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان عام 1982، شارع موشيه ديان في حي بسغات زئيف، على اسم رئيس الأركان ووزير الدفاع في السابق، ومحطة باسم “دورية دوخيفت” واحدة من القوات العليا في الجيش الإسرائيلي، في الجهة الشمالية للحد تقع محطة “سلاح الجو”، وهي فخر للجيش الإسرائيلي، وفي الجهة الجنوبية: جبل هرتسل، حيث تقع المقبرة الوطنية الإسرائيلية، والتي دُفن فيها آلاف الجنود الإسرائيليين الذين قُتلوا خلال 67 عامًا من قيام الدولة.
ساحة “دفيدكا” في القدس (Miriam Alster/FLASH90)
بالنسبة للركاب اليهود، فيبدو الأمر طبيعيًا بأن لا يلاحظوا تميُّز هذه الأسماء. أما بالنسبة للركاب العرب، فيبدو أنهم مشغولون بشؤونهم اليومية، وهم أيضًا لا يلاحظون ذلك.
وكتبت على العديد من الجدران في شعفاط عبارة: “احذروا خطف الأطفال”، تذكيرًا بخطف، قتل وحرق جثة الطفل محمد أبو خضير
أستمع لحديث راكب فلسطيني يجلس خلفي: “انشالله بعد بكرة يجي الشيك 5000 شيكل عشان يغطيه”. ويفقد صبره حين لا يفهم محاوره كلامه: “لا لا، ما الهاش اشي، بدنا نخلص الموضوع ونرتبه. الزلمة قال لي هذا مصاريه، قلت له شو مصاريك، شفت علي كيف”؟ وينزل الرجل في محطة “غفعات هتحموشيت” (موقع آخر من معارك حرب عام 1967) وحينها أتوقف عن سماع الحديث.
“احذروا خطف الأطفال”
نكمل طريقنا، إلى الشارع الرئيسي في حي شعفاط. في ساعات الظهيرة هذه، ذات القطار المزدحم في منطقة المحطة المركزية، قد فرغ تقريبًا ومعظم الركاب الباقين هم سكان شعفاط وبيت حنينا، أو بعض المسنين المقيمين في بسغات زئيف. وكتبت على العديد من الجدران في شعفاط عبارة: “احذروا خطف الأطفال”، تذكيرًا بخطف، قتل وحرق جثة الطفل محمد أبو خضير.
“احذروا خطف الأطفال”
أنزل في محطة شعفاط، وأجد لوحًة تذكاريًة تصور المكان الدقيق حيث خُطف أبو خضير. يبدو المكان مهجورًا، على الرغم من كونه محورًا مركزيًا
أنزل في محطة شعفاط، وأجد لوحًة تذكاريًة تصور المكان الدقيق حيث خُطف أبو خضير. يبدو المكان مهجورًا، على الرغم من كونه محورًا مركزيًا. من الصعب التخيّل كيف باستطاعة ثلاثة من اليهود أن يقوموا بكل سهولة بإيقاف سيارتهم وإدخال الطفل إليها. من الصعب التصوّر حتى كيف لفعل قذر كهذا يمكن أن يحدث.
المحطة التالية، عند مدخل بيت حنينا، مهجورة تمامًا. يقف هنالك اثنان من رجال الأمن المسلحين ويتبادلان الحديث. وأحاول الاستماع لأستوعب شيئًا ما من حديثهما وأفاجأ حين أكتشف أنهما يتحدثان العربية- يبدو أنهما من الدروز أو البدو الذين خدموا في الجيش الإسرائيلي.
وخلافًا لمحطات الأحياء الإسرائيلية، فليست هناك في الأحياء الفلسطينية أية لافتات تعرض الساعة وفي أي وقت سيصل القطار التالي. ويعود السبب في ذلك إلى تدمير المحطات خلال أعمال الشغب التي حدثت في الأشهر الماضية في القدس. فقد قام شبان فلسطينيون بتدميرها كليًا، كسروا اللوحات الزجاجية والشاشات وأضرموا النار في آلات بيع التذاكر. لكن عدا عن هذه العلامات الواضحة، فقد نُسيت علامات العنف تقريبًا.
تخريب محطة القطار الخفيف في القدس (Sliman Khader/FLASH90)
نكمل إلى بسغات زئيف اليهودية. حي بارد، رمادي وممل. ويتشبث الركاب بأكياسهم البلاستيكية، متوجهين إلى بيوتهم على مضض. وأصغي لحديث بين رجلين متديّنين. وكما تبين فإن واحد منهما يكسب لقمة عيشه عن طريق مهاراته الدينية: فهو يسافر لجاليات يهودية في الولايات المتحدة وأوروبا، كمبعوث لهم وزعيم صلاة، في الكُنُس في الأعياد الإسرائيلية. بالإضافة لذلك، فهو يبيع التوراة لليهود في العالم.
وُيثار فضول الصديق: “هل زرت أنحاء العالم حتى الآن أم لا؟” ويجيب تاجر كتب التوراة مبتسمًا: ” لا، حتى الآن لم أزر كل العالم”
يتعجب صديقه كليًا، حين يخبره كيف حول ديانته إلى مصدر رزق: “بعت لهم التوراة، وعدت حاملًا 30 ألف دولار. فهناك تكسب 5000 دولار في ثانية. كنت في العيد الأخير مبعوثًا في لوس أنجلوس، كسبت 10000 دولار في نهاية الأسبوع فقط”. ويحث صديقه على الانضمام لعمله هذا، لكن صديقه يعتذر عن ذلك معللًا بأنه لا يستطيع ترك زوجته وأولاده وراءه. وُيثار فضول صديقه: “هل زرت أنحاء العالم حتى الآن أم لا؟” ويجيب تاجر كتب التوراة الداهية مبتسمًا: ” لا، حتى الآن لم أزر كل العالم”.
القطار الخفيف في القدس (Kobi Gideon / Flash90)
تجلس بجانبي فتاة ترتدي الحجاب، وفي المقعد المقابل تجلس صديقتها. وأصغي لحديثهما، لكني لا أسمع كلمة واحدة. فأفهم بأنهما تتراسلان عبر الهاتف الخلوي، ربما لم ترغبا بتحدث العربية بالقرب من ركاب يهود
ويرجع القطار في الاتجاه المعاكس، ويمتلأ مجددًا. تجلس بجانبي فتاة ترتدي الحجاب، وفي المقعد المقابل تجلس صديقتها. وأصغي لحديثهما، لكني لا أسمع كلمة واحدة. وعلى الرغم من ذلك، تومئ الفتاتان لبعضهما، تضحكان وتشيران بأيديهما. فأفهم بأنهما تتراسلان عبر الهاتف الخلوي، ربما لم ترغبا بتحدث العربية بالقرب من ركاب يهود. وتنزلان بالقرب من باب العامود، وهناك فقط، في المنطقة “الآمنة” تسمحان لنفسهما بتحدث العربية بصوت عالٍ. أمر بجانب البقالات، المطاعم، محلات الخضراوات والملحمة الواقعة قرب باب العامود- وكل الأحاديث تقريبًا تشمل مواضيعًا بأمور مالية أو تجارية أو غيرها.
محطة القطار الخفيف في شعفلط (Kobi Gideon / Flash90)
نكمل باتجاه مركز المدينة، وشركائي في الحديث الآن هما طالب وطالبة جامعة أمريكيان، يهوديان، يقيمان في إسرائيل. فأنا أميزهما نسبةً لحقائب الظهر الأمريكية Columbia و the north face. تقول الطالبة: “بعد الصيف الأخير أشعر بأني إسرائيلية حقًا”، وتضيف: “حين تكون هنا وقت إطلاق صفارات الإنذار، فهذا كل شيء، أنت الآن إسرائيلي”. ويسألها صديقها عن ردة فعل أهلها بخصوص سفرها إلى إسرائيل، وتجيب: “قد تفهمني أبي، فهو أيضًا كان هنا، أما أمي فقد كانت مرعوبة تمامًا. هي جيدة الآن، فهي حقًا بحالة نشوة”.
ويستمر القطار على طول السكة، وهي محور الإرهاب والكراهية إلى حد كبير. بعد زيارتنا للمكان الذي خُطف فيه محمد أبو خضير، نمر الآن على مواقع العديد من الهجمات الانتحارية الأكثر وحشية في العقود الماضية: شارع بن يهودا، شارع الملك جورج، سوق محانيه يهودا. أحصيت بنفسي ما لا يقل عن سبع هجمات، قُتل فيها المئات من الإسرائيليين، والتي وقعت بالقرب من السكة.
القطر الخفيف في القدس (Nati Shohat/Flash90)
وأنزل مجددًا في المحطة المركزية. وعلى بعد عشرة أمتار، تحيط ثلاث شرطيات من حرس الحدود، ذوات شعر أشقر، برجل فلسطيني ويطلبن منه تقديم بطاقة الهوية. ويهودي عجوز منحني الظهر يردد أقوال المرتلين عبر الميكروفون: “أرفع عيني إلى الجبال، من حيث يأتي عوني“.
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني