كان عُقبة بنُ نافع أحدَ القادة العسكريين البارزين في مستهلّ الحقبة الإسلامية، إذ قاد جيش الإسلام حين غزا شمال إفريقيا في سبعينات وثمانينات القرن السابع. اشتُهر عُقبة بشجاعته، فضلًا عن مهارته في استخدام السيف، وكان قدوةً تُحتذى لجنوده وضبّاطه في تقنيّة فصل رؤوس مُقاتِلي الشعوب المغزوّة عن أكتافهم. منحته بطولته هذه مكانة شرف في قائمة أبطال الإسلام.
منذ نحو عامَين، تنشط مجموعة جهاديّين في المناطق الحدودية بين تونس وليبيا، إذ تستهدف بين الفينة والأخرى آليّات تستخدمها القوى الأمنية التونسيّة. وقد وقع ضحايا تونسيّون كُثر في هذه المعركة المستمرّة. تدعو المجموعة نفسها “كتيبة عُقبة بن نافع”. جدول الأعمال الجهاديّ للمجموعة معروف منذ بدأ عملُها، شأنه شأن قدرتها على تجنيد المُقاتلين، التزوّد بأسلحة متنوّعة، وفرض الرعب على مناطق شاسعة. من الشائع نسب الكتيبة إلى مجموعة جهاديّة كبيرة ومعروفة، “القاعدة في المغرب الإسلامي” – فرع القاعدة في شمال إفريقيا.
لكنّ سؤالًا طُرح مؤخرا يتعلق بولاء الكتيبة، إذ انتشرت أنباء أنّ قيادتها تميل إلى مبايعة الخليفة أبي بكر البغدادي، زعيم “الدولة الإسلامية” (داعش). وتكتسي هذه المسألة أهمية خاصّة إثر الانقسام المتواصل بين القاعدة وزعيمها أيمن الظواهري من جهة، وبين “الدولة الإسلامية” وزعيمها البغدادي من جهة أخرى.
زعيم القاعدة أيمن الظواهري (SITE INTELLIGENCE GROUP / AFP)
تجدُّد التحالُف الكردي – الإيرانيّ
يطرح الهجوم الغربي على “الدولة الإسلامية” بقوّة كبيرة مسألة الانقسام منذ إنشاء “داعش” عام 2004 كفرع للقاعدة في العراق. فالآن، في ظلّ الهجوم الغربي، تعلو أصوات تدعو التنظيمَين الجهاديَّين السنيَّين إلى الاتّحاد في وجه هجوم الكفّار.
من الجدير ذكرُه أنّ إحدى القوى التي تحارِب “الدولة الإسلامية” هي قوّات البشمركة الكرديّة. مُني هذه القوّات ببعض الهزائم في حربها ضدّ “الجيش الإسلامي” التابع لداعش في الأشهر الأخيرة، لكنّ محاربيها حقّقوا انتصاراتٍ ميدانيّة في الأيام الأخيرة، بفضل سلاح جديد وفتّاك – لا سيّما الصواريخ المضادّة للدبّابات، التي وصلت من إيران.
يُثير هذا الواقع الاهتمام إذ إنّ إيران دولة شيعيّة، فيما البشمركة جيش سنيّ، لكنّ الجانبَين كلَيهما ينظران حاليًّا إلى الخطر المشترك، ويتعاونان في هذه المرحلة. من المحتمَل جدًّا، أن يكون أحد في الغرب، وربما في واشنطن أيضًا، قد “شجّع” إيران على تزويد الأكراد بسلاح متقدّم، على أساس أنّه حين يأتي وقت النقاش في الملفّ النووي الإيراني، ستُذكَر المشاركة في الحرب على “الدولة الإسلامية” (داعش) لصالح الإيرانيين.
مقاتل من قوات البشمركة الكرديّة (AFP)
توغُّل متوقَّع من الحُدود إلى مراكز المُدن
كما ذُكر آنفًا، افتُتحت الآن جبهة على الحُدود التونسيّة. فقد اكتشف وزير الداخلية، لُطفي بن جدّو، أنّ القاعدة أوعزت إلى رجالها في شمال إفريقيا بالقضاء على كلّ من تخوّل له نفسه جلب فكرة “الدولة الإسلامية” إلى تلك المنطقة، التي كانت حتّى الآن ضمن منطقة نفوذ القاعدة دون أيّ مُنافس. يذكَر هذا الاكتشاف السامعين بالصراع الدموي الدائر على الأراضي السورية بين “الدولة الإسلامية” و”جبهة النصرة”، صراع ضحاياه هم أيضًا المواطنون البسطاء الذين يسعى كلّ طرف – بوسائله العنيفة – أن يجتذبهم إلى جانبه. وتخشى الحكومة التونسية، وكذلك داعمو الحركات الجهاديّة، حدوث صراع مشابه على الأراضي التونسية يؤدي إلى مجازر جماعيّة كما يجري في سورية، وليس فقط في المناطق الحدودية – شرقًا على حدود ليبيا وغربًا على حدود الجزائر، بل أيضًا في الأحياء الفقيرة في ضواحي المُدن، وهي أحياء يُعتبَر سكّانها متديّنين جدًّا.
من أبرز أسماء داعمي القاعدة في تلك المنطقة اسما الجزائري عبد المالك درودكال، والتونسي لقمان أبو صخر. ويسرهّما حاليًّا أنّ تنظيم “الدولة الإسلامية” لم يُعلَن عنه بشكل رسميّ في تونس بعد، لكنّ ثمة مؤشّرات على تعاظُم وجود أشخاص يميلون إلى ذلك التنظيم. ويظهر الأمر في مواقع التواصُل الاجتماعيّ، على شكل مديح وفخر بأعمال “الدولة الإسلامية” في سورية والعراق، وتضامُن معها، مع أهدافها، ومع الوسائل التي تستخدمها.
لكنّ الخطر الملموس أكثر في تونس يتجلّى في مئات التونسيين الذي عادوا من حقل الجهاد في سورية والعراق، بعد أن اكتسبوا خبرة كبيرة في وسائل الإرهاب والذبح، وبعد أن اجتازوا تدريبات مكثّفة في المخيّمات الجهادية في ليبيا. فإذا انضمّ هؤلاء إلى “كتيبة عُقبة بن نافع”، يُمسون الفرع التونسي لتنظيم “الدولة الإسلامية”. وقد يكون ذلك حدث فعلًا، إذ شاعت أنباء أنّ الكتيبة باعت الخليفة أبا بكر البغدادي، ودعته إلى “التقدُّم، اجتياز الحدود، وتحطيم عروش الطغاة الكافرين في كلّ مكان”.
جيش الدولة الإسلامية (AFP)
ألفا إرهابي، ربعهم قادمون مِن سوريّة
تُطارِد الدولة في تونس الكتيبةَ منذ بدأت العمل في المناطق الجبلية على الحُدود التونسية – الجزائرية، لا سيّما في جبل الشعانبي، بعد أن نجحت الكتيبة في قَتل عشرات الجنود والشرطيين. وتكتسب ملاحقة التنظيم أهمية مضاعَفة إثر تخطيط الحكومة إجراء انتخابات برلمانيّة ورئاسية خلال شهرَي تشرين الأول وتشرين الثاني هذا العام.
تُعتبَر حرب تونس على الجهاديّين صراع حياة أو موت، خصوصًا في ظلّ ما يجري في سورية والعراق. العام الماضي، جرى اعتقال أكثر من ألفَي إرهابي، وفق ادّعاء وزير الداخلية التونسيّ، نحو ربعهم عائدون من الجهاد في سورية والعراق. حسب ادعائه، ثمّة حضور مكثّف للأجهزة الأمنية التونسية بين السكّان، وقد اكتشف رجالُها محاولات تنفيذ عمليات إرهابية في البلاد خلال عيد الأضحى، الذي يُحتفَل به حاليًّا. فقد نفّذت القوى الأمنية اعتقالات جماعيّة بين المشتبَه فيهم في أحياء الفقر في المُدن، التي تشكّل خلايا إرهابية نائمة.
لكنّ المشكلة الأساسية في تونس هي كون حدودها مع ليبيا والجزائر موجودة على الخريطة فقط، وهي مناطق جبليّة لا أفضلية فيها للآليّات العسكرية على الحمير، البغال، أو الأشخاص المحُمّلين بالسلاح والذخيرة، الذين يسيرون آمِنين في سُبل ضيّقة، ملتوية، وشديدة الانحدار، “بين الجبال وبين الصُّخور”. وهناك مثال سيناء، حيث يعجز الجيش المصري عن السيطرة على الجهاديّين.
ليس النظام في تونس دكتاتوريًّا، بل يجري خوض اللعبة السياسية الديمقراطية إلى حدّ بعيد، إذ تشارك الأحزاب، التي بعضها ذات طابع علماني ليبراليّ، وبعضها الآخَر دينيّ إسلاميّ. كما أنّ كثيرين من السياسيين فاسِدون. لذلك، تُعتبَر المنظومة هشّة، ولم تفارق الأزمات السياسية البلاد منذ الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي في كانون الثاني 2011.
الاقتصاد التونسيّ غير مستقرّ، وثمة قطاعات عديدة تشعر أنّ الديموقراطية لم تحسّن وضعها الشخصيّ والاقتصاديّ. لا يزال الجمهور العلماني يؤيّد الدولة إلى حدّ بعيد، فيما الشرائح التي تميل إلى الإسلام أقرب إلى قبول الحلّ الإسلاميّ لمشاكل المجتمَع والدولة. تأخذ الفجوة بين الحلّ الإسلامي وبين جدول أعمال القاعدة والدولة الإسلامية في التقلُّص كلّما تواصلت الأزمات السياسية التي تعاني منها تونس دون التوصُّل إلى حلول.
صورة زين العابدين بن علي, الرئيس السابق لتونس, في القمامة (Wikipedia)
حُقوق مقاتِل داعش
لا يُعلَم في هذه المرحلة إن كان في وسع الغرب أن يُساعد النظام التونسي، بما يتعدّى الدعم الاستخباريّ السريّ حول التجمّعات والمجموعات الجهاديّة، إذ إنّ أيّ دعم غربي علَنيّ من شأنه هزّ الشرعية المحدودة للنظام في نظر الأولياء للإسلام. لكن من الجليّ أنّه إذا أخفق النظام التونسيّ في الصراع ضدّ الجهاديين، سيُدفَع الغرب إلى الفوضى الإرهابية، كما غرق في المستنقع في العراق وسورية.
الخطر المنظور من تونس على أوروبا أقرب بكثير من الناحية الجغرافيّة، إذ يمكن لسفينة إرهابيين مُسلَّحين اجتياز المسافة بين تونس وإيطاليا بحرًا خلال ليلة واحدة. سيحدث التدخُّل الأوروبي في تونس في مرحلةٍ أبكر بكثير من التدخُّل في سورية والعراق، ولذا يمكن أن يكون الميدان التونسي أكثر قابلية للاشتعال حتّى من سورية والعراق.
ثمّة آثار للانتشار المتوقَّع للحرب على “الدولة الإسلامية” من الناحية القانونية. فقد آن الأوان لإعادة صياغة قواعد الحرب والمعاهدات الدولية التي يستند إليها القضاء الدولي المتعلّق بإدارة النزاعات. وُضعت هذه القواعد حين كان الحديث عن جيوش ودُول، ولكنها لا تنطبق على الحرب الحاليّة، التي تجد فيها الدولة العصرية نفسها تحارب ميليشيات تعمل بمنهجيّات مستوحاة من القرن السابع.
ليست مفاهيم مثل “إبعاد الحرب عن المدنيين”، “حقوق الإنسان للمحاربين”، و”التعامُل مع الأسرى”، جرى التوصل إليها في أوروبا بعد الحربَين العالميّتَين، ذات معنى اليوم. فمعظم الحروب التي خيضت في السنوات العشرين الأخيرة كانت ضدّ تنظيمات لا يعني لها القضاء الدوليّ شيئًا. وتقتصر مهامّ هذه الميليشيات على شلّ قوى الجيوش النظاميّة التي تُضطرّ إلى محاربة مقاتلين يرتدون ملابس مدنيّة يختبئون في مناطق ذات كثافة سكانية مرتفعة بهدف استخدام السكّان دُروعًا بشرية ضدّ الهيئات العسكريّة الحديثة.
في تونس، قد تكون المفاهيم الغربيّة المتعلّقة بإدارة الحرب بين أوائل ضحايا المعركة.
نُشرت هذه المقالة لأول مرة في موقع ميدا
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني