في نهاية كانون الأول عام 2010، انتهت بطريقة قاسية ومفاجئة حياة أحد الأشخاص الأكثر إثارة وإعجابًا وحبًا في إسرائيل. دخل لاعب الكرة آفي كوهين إلى تاريخ الرياضة الإسرائيلية حين أصبح عام 1979 الإسرائيلي الأول الذي يتم اختياره للعب في فرقة كرة قدم إنجليزية، وانضم إلى صفوف نادي ليفربول الأسطوري. بل وفي عام 1981 احتفل كوهين مع فريقه بالفوز في بطولة أوروبا، وفيما بعد انتقل ليلعب في نادي جلاسكو رينجرز الاسكتلندي.
في ذلك اليوم الشتائي في تل أبيب، بعد سنوات من اعتزال كوهين لكرة القدم، أصيب بجروح قاتلة في حادثة شاحنة، ومكث فاقدا للوعي في المستشفى لمدة تسعة أيام. وقد أثار موت كوهين في إسرائيل نقاشًا مختلفًا كليًا عن المجالات التي انشغل بها في حياته، وتناول ضرورة التبرع بالأعضاء في إسرائيل.
خلال حياته، وقع كوهين على “بطاقة إيدي”، وهي بطاقة تشير إلى أن كلّ من يحملها يرغب بالتبرع بأعضائه من أجل إنقاذ حياة الآخرين، في حالة موته موتًا فجائيًا. لذلك يمكننا أن نخمن، أن كوهين كان يرغب أن يتم استخدام أعضائه لهذا الهدف الهام. ولكن مجموعة من رجال الدين الذين حضروا إلى المستشفى في الساعات التي كان كوهين فيها مصابًا بالموت الدماغي، أقنعت عائلة لاعب كرة القدم سابقًا، بعدم الموافقة على التبرع بأعضائه، مدعية أن هذا الأمر سوف يفقد الأمل في عودته إلى الحياة في حال حصول أعجوبة. قررت عائلة كوهين أخيرًا بأنها لا تريد التبرع بأعضائه.
جنازة اللاعب افي كوهين (MARKOWICZ GIDEON /FLASH90)
ثار الجدل في إسرائيل: “أقنعت مجموعة من الأحبار المشعوذين عائلة كوهين بانتظار أعجوبة لم تكن لتتحقق، وأن ثلاثة أشخاص على الأقل سيموتون إثر هذا القرار”، هكذا كُتب في أحد أقسام الرياضة في إسرائيل. ومن ناحية أخرى، صرحت أرملة كوهين بأنها لم تكن ترغب بالتبرع بأعضائه، وليس بالضرورة لأسباب دينية، قالت: “كان واضحًا لي بأنه لم يكن هناك أمل. ونقلت رسالة واضحة جدًا بأنني لست مستعدة. ينبغي أن يبقى آفي كاملا، جميلا كما كان في حياته كلها”، هذا ما شرحته لصحيفة “يديعوت أحرونوت”.
رجل واحد يموت، ويحظى سبعة أشخاص بحياة جديدة
ينتظر حاليًا أكثر من ألف شخص اجتياز عملية زرع الأعضاء في إسرائيل، ويتوفى الكثير منهم خلال فترة انتظار الحصول على الأعضاء. معظم المرضى ينتظرون اجتياز زرع كلية. يحظى 20% فقط بزراعة كلية جديدة، ويموت نصفهم خلال السنة الأولى من الانتظار. فيما لو كانت توافق زوجة كوهين على التبرع بأعضاء زوجها بدلا من أن يكون “كاملا، جميلا كما كان في حياته كلها”، كان من المحتمل إنقاذ حياة الأشخاص الآخرين. وفقا لجمعية “إيدي”، التي تصدر بطاقة إيدي وتشجع على التبرع بالأعضاء في إسرائيل، فإنّ متبرعًا واحدًا يمكنه أن ينقذ حياة سبعة مرضى ويحسن النظر لدى شخصين آخرَين.
في عام 2012 وافق 50% فقط من العائلات التي طُلب منها التبرع بأعضاء ذويها. إنّ معدّل الرفض في إسرائيل هو من بين المعدلات الأعلى في الغرب، مقارنة بفرنسا (32%)، إيطاليا (31%)، الولايات المتحدة (22%)، إسبانيا (16.8%)، إيرلندا (8.2%) وهنغاريا (4.3%). ويبدو أن سبب ذلك هو ديني تحديدًا.
جدل ديني وأخلاقي
يتفق الجميع على أنه أخلاقيًا، تقع على الإنسان مسؤولية تجاه أعضائه حتى بعد وفاته. ومما يصعّب أمر التبرع بالأعضاء هو الحقيقة الطبية، التي لا تتيح التبرع بالأعضاء مثل القلب، الرئتين، الكبد وقرنية العين إلا في حالة تعرض المتبرع لموت دماغي، وشريطة أن قلبه لا زال ينبض. وتتساءل الشريعة اليهودية: هل حكم الموت الدماغي شبيه بحكم الموت الاعتيادي؟ إن كانت الإجابة لا، فإنّ التبرع بالأعضاء يعتبر خطيئة. وإن كانت الإجابة بالإيجاب، فالتبرع بالأعضاء فضيلة كبيرة.
يعتقد معظم الأحبار اليهود أنه ما دام قلب الإنسان ينبض، حتى وإن كان بواسطة العلاج الاصطناعي، يُمنع استخدام أحد أعضائه من أجل إنقاذ حياة إنسان آخر. ولكن المصادر التي اعتمد عليها الأحبار حين قرروا أن توقف القلب فقط، وليس توقف عمل الدماغ، هو المهيّمن؛ تستند إلى معلومات طبية كانت صحيحة في العصور الوسطى، ويرفضون الأخذ بعين الاعتبار المعلومات التي يقدمها الطبّ الحديث.
وقد أفتى الحاخام عوفاديا يوسف، الذي توفي قبل أسابيع قليلة، في هذه القضية بأحكام جاء فيها أن حياة اليهودي تختلف قيمتها عن حياة غير اليهود؛ وقد نشر على موقع الإنترنت الخاص به، أنه حتى وإنْ كان يجري الحديث عن ميّت يهودي قد وافق على التبرع بأعضائه، فيُفضل أخذ القرنية من شخص غير يهودي “من أجل ألا نهتك قدسية المتوفي”. وقد أفتى حاخامات آخرون بعدم جواز الموافقة على التبرع بالأعضاء خشية أن يتم التبرع بالأعضاء لشخص غير يهودي.
وهناك حجة أخرى يطرحها بعض رجال الدين وهي الخوف من يوم القيامة. وهو يوم الافتداء والخلاص، ويعود جميع الموتى فيه إلى الحياة، كيف سيقومون بعملهم دون أعضائهم التي تبرعوا بها للآخرين؟ هكذا سُئلت وزيرة الصحة، ياعيل جيرمن، حول كيفية مواجهة وضع نبوي كهذا، ونقلت على لسان البروفيسور آفي ربينوبيتش: “إذا أعاد الله الروح للموتى وأقيم الجميع؛ فمن المؤكد أن تعود كذلك الأعضاء الناقصة”.
من جهة أخرى، فإن الحاخامات اليهوديات المتديّنات ينظرون إلى التبرع بالأعضاء فضيلة كبيرة. فبحسب ادعائهم، مقابل الحاجة الدينية في الحفاظ على قدسية جثة الميت، فإن هناك واجًبا دينًيا في إنقاذ الحياة ولذلك يُسمح به بل هو واجب. ويؤيد حاخامات منتمون إلى منظمة “تساهار” – معروفة في كونها أكثر لبرالية – التبرع بالأعضاء حتى وإن كان من جسد يهودي إلى جسد شخص غير يهودي.
نهَبُ الحياة للتعايش
بخلاف موقف رجال الدين الذين يولون اهتمامًا أولا لدين الإنسان، فإن الطب لا يعمل بموجب هذا التوجه. جرى حدث فريد من نوعه في هذا العام في مستشفى رامبام: عائلتان، عربية ويهودية، تبادلتا التبرع بالكلى. تبرعت رشا، زوجة مريض عربي يدعى محمد أقرط، يعاني من الإصابة بالكلى، بكليتها لدافيد بن يئير اليهودي، وبالمقابل؛ تبرع ابن بن يئير بكليته لمحمد.
وبحسب أقوال الدكتور راوي رمضان، مدير وحدة متابعة المرضى الذين اجتازوا زرع الكلى، فإنه حين تم طرح اقتراح الزرع المتبادل، لم يتردد الأشخاص الأربعة للحظة. وشرح قائلا: “يريد الناس دائمًا أن يشعروا بشكل أفضل وأن يتعالجوا، فكم بالحري عندما يجري الحديث عن البقاء على قيد الحياة”. وقال: “بالنسبة لهم ليس مهمًا من يحصل على العضو الذي يتبرعون به. فهم يعتبرون أنهم قد تبرعوا لفرد من أفراد عائلتهم، وبفضل هذا التبرع أنقذوا حياته”.
حدث آخر أكثر مثيرًا للاهتمام هو قصة أحمد خطيب، الطفل ابن الثالثة عشرة من قرية قباطيا، والذي قتل برصاص الجيش الإسرائيلي في جنين عام 2005. شاهد الجنود أحمد وهو يحمل مسدس لعبة، وظنوا خطأ أنه رجل مسلح. وقد اعترفت إسرائيل بأنه كان خطأ جسيمًا، وتم البلاغ أن رئيس الوزراء الأسبق أريئيل شارون قد دعا والد أحمد إلى مكتبه من أجل أن يقدم له الاعتذار.
اسماعيل الخطيب (AFP)
رغم المأساة، فإن عائلة أحمد لم تتردد حين دعيت للتبرع بأعضائه، وأنقذت بذلك حياة سماح رياض غضبان، وهي طفلة درزية من قرية البقيعة. “كلتانا الآن أمهات سماح”، هكذا قالت يسرى أم الطفلة التي تم إنقاذ حياتها إلى أم أحمد. بالإضافة إلى ذلك، تم زرع فصّ كبد من جسم أحمد في جسم طفلة عمرها نصف سنة في نفس المستشفى وفص آخر في جسم امرأة عمرها 66 عامًا في مستشفى “بلينسون”. وتم زرع رئتيه في جسم فتاة عمرها 14 عامًا، وزرعت كليتاه، مساء، في جسد طفل عمره خمس سنوات وطفلة عمرها أربع سنوات.
ما الذي أدى بوالديه، اللذين كانا يكابدان حزنا عميقا، أن يقوما بهذه الخطوة المثيرة للجدل؟ قال عم أحمد، مصطفى محاميد: “نحن عائلة تقف ضد سفك الدماء وتعمل كل الوقت من أجل السلام، لذلك، ورغم المأساة الصعبة قررنا التبرع بأعضائه من أجل التقريب بين الشعوب على أمل أن يساعد ذلك في عملية السلام”. كانت هذه هي الطريقة لتتغلب العائلة على المأساة التي تعيشها، ولتحويل المصيبة التي حلت بها إلى أعجوبة لدى أشخاص آخرين.
مواطنو إسرائيل المعنيّون بالتوقيع على بطاقة “إيدي” مدعوون لإجراء ذلك عن طريق هذا الرابط باللغة العربية:
http://www.itc.gov.il/arb/index.html
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني