هذا الأسبوع، احتفل العالم بعيد المرأة العالميّ (في الثامن من آذار). في السنوات الماضية، أصبح هذا العيد تجاريا. إذ تُعرض فيه على النساء مستحضَرات التجميل، الملابس الجديدة احتفالا بيوم المرأة، حماما معدنيا، وهذا “احتفالا بعيدهن”، وغير ذلك.
ينسى الكثيرون معنى هذا اليوم الحقيقي. لم ينتهِ بعد صراع النساء من أجل تحقيق مكانة أفضل في هذا العالم. الإثبات على أقوالي هذه: وضع اللاجئات السوريات، اليمنيات، والليبيات. كون المرأة تعتبر ضعيفة، يمكن استغلالها، ضربها، إهانتها والضحية الكبرى للحروب البشرية الأفظع.
وإذا لم يكن هذا كافيا، فإن التاريخ البشري هو تاريخ ذكوري غالبًا. كُتِب بشكل عام من وجهة نظر الرجال. هناك وصف غالبًا لقصص بطولية ومأساوية، مثل قصص البقاء على قيد الحياة يوميا بشكل عام بحيث تطرقت أكثر إلى الأغلبية والحالات البارزة، وأقل إلى الجوانب الحميمة، المنزلية، أو الشخصية.
مع نشوب الحرب، أصبح جزء من النساء أرامل، فكان عليهن الاهتمام بالعبء العائلي وحدهن
عند النظر إلى مكانة المرأة في المجتمَع في العقود الماضية، من السهل أن نعرف لماذا لا يتحدث الكثير من النساء عن صعوباتهن المميّزة في تلك الفترة الغامضة.
مَن هنّ ملايين النساء المجهولات اللواتي عِشْنَ، توفين أو صمدن في الظروف الصعبة، غير المعروفات على مر التاريخ؟ لقد كان الحديث عن أعمالهن وعن كيف صمدن أثناء الهولوكوست قليلا.
نجحت نساء يهوديات كثيرات في البقاء على قيد الحياة في ظل أتون معسكرات الإبادة، كان الخراب والخسارة جزءين من قصة لم يتم التحدث عنها أو فحصها. قُبَيل محاكمة أدولف آيخمان، بدأت الأكاديمية الإسرائيلية، بالاهتمام أكثر بقصص النساء الشخصية.
معاناة النساء أثناء الهولوكوست
هل تميّزت معاناة النساء أثناء الهولوكوست بطابع خاص؟ طرح باحثون خبيرون بمجال الجندر السؤال في الحوار الأكاديمي، وتشهد الأبحاث المختلفة التي نُشرت أكثر فأكثر أن هناك حقا خصائص مميزة للنساء اليهوديات، كفئة خاصة أثناء الهولوكوست. قد تكون خصائص المعاناة الخاصة نابعة من الاختلاف بين التجربة النسائية والتجربة الرجالية. ثمة إمكانية أخرى هي حقيقة كون المرأة يهودية، قد تملي عليها خصائص مميزة من المعاناة، مقارنة بالنساء غير اليهوديات، في ظل النظام النازي.
مع نشوب الحرب، أصبح جزء من النساء أرامل، فكان عليهن الاهتمام بالعبء العائلي وحدهن. كان ذلك تغييرا كبيرا في المعايير التي كانت متبعة في الحياة العائلية اليهودية قبل الحرب. كان على النساء أن يهتمين بالشؤون المنزلية، تربية الأطفال، واتخاذ قرارات يومية هامة.
تحملت النساء الشابات في الحركات اليهودية السرية، مسؤوليات كانت هامة في النشاطات السرية: كن ينقلن الرسائل، ويجرين اتصالا بين الخلايا في الغيتوهات المختلفة. كان في وسع النساء التنقل بين تركيزات اليهود في المعسكرات المختلفة، من خلال المخاطرة أقل من الرجال. قامت النساء بهذه الوظيفة بجرأة كبيرة، من خلال المخاطرة الكبيرة، عندما كنّ يسرن وحدهن مسافات بعيدة.
حياة النساء في الغيتوهات: النظافة، التمثليات، ووصفات الأطعمة
وفق وصف اليهود لحياتهم في هذه الفترة، كانت هناك محاولة لإدارة حياة طبيعية قدر الإمكان في الغيتو. أقام المقيمون في الغيتوهات تمثليات وعروضا شارك فيها الكثير من النساء. حرصت نساء كثيرات على ترتيب ونظافة الغرف. إضافةً إلى ذلك، يُحكى أن النساء حافظن على النظافة رغم أن هذه المهمة كانت صعبة.
كتبت نساء يوميات وأغاني عبّرن فيها عن ألمهن ومعاناتهن. هناك مثالان مشهوران لنساء نجحن في كتابة يوميات في الهولوكوست وهما آنا فرانك وإتي هلسوم الهولنديات.
كتبت نساء يوميات وأغاني عبّرن فيها عن ألمهن ومعاناتهن
إحدى الطرق المميّزة التي اتخذتها النساء تجنبا للإصابة بالجنون هو كتابة وصفات الوجبات. كتبت النساء على أوراق حصلن عليها وصفات وجبات لم يأكلنها ولم يكنّ قادرات على تناولها منذ وقت طويل. بالغت النساء أثناء كتابة المقادير والمواد، وأضافت مواد لم تكن جزءا من الوصفات الأصلية.
كان موضوع إضاءة الشموع بمناسبة يوم السبت، التقليد اليهودي، الذي على كل امرأة القيام به أحد المواضيع التي وردت في شهادات الناجيات من الهولوكوست. وفق تلك الشهادات، اهتمت النساء كثيرا بإضاءة الشموع، كوصية دينية وكخطوة لإرساء حياة “طبيعية” في ظل الوضع الذي كان سائدا.
إعالة العائلة
قبل الحرب، لم تتحمل غالبية النساء مسؤولية إعالة العائلة، وكان الزوج المعيل الأساسي غالبا.
كانت النساء اليهوديات في أوروبا (كذلك كل النساء في العالم) مسؤولات حصريا عن تحضير وجبات العائلة، إذ كان المطبخ مملكة النساء في أوروبا. قضت نساء كثيرات أوقاتهن معا في المطبخ، وكن يتحدثن أثناء تحضير الأطعمة، يخططن للحفلات العائلية، ويتحدثن عن الحياة العائلية. أحد الأسباب لأهمية المطبخ، إضافة إلى تحضير الأطعمة، هو أنه كان فيه فرن وكان يشكل مصدر دفء في أيام البارد القارس.
كان على الكثير من النساء أثناء وجودهن في الغيتوهات إعالة عائلتهن وحدهن، لأن رجال كثيرين قد هربوا، خسروا مكان عملهم، مرضوا أو قُتلوا. بحثت النساء عن فرص التأهيل للأعمال الجديدة، وشغلن مهنا كثيرة.
إذ عملن كطبيبات وممرضات، عاملات في مصانع، وعاملات تنظيف. سافرن بعيدا للوصول إلى أماكن العمل خارج الغيتو. نجحت نساء كثيرات في إعالة أنفسهن حتى حين لم يكن بحوزتهن رخصة عمل. في المقابل، تابعت النساء القيام بأعمال تقليدية مثل العناية بالأسرة إلى جانب العمل.
كان على الكثير من النساء أثناء وجودهن في الغيتوهات إعالة عائلتهن وحدهن، لأن رجال كثيرين قد هربوا، خسروا مكان عملهم، مرضوا أو قُتلوا
كانت الظروف في الغيتوهات صعبة، وعاش اليهود بظروف مكتظة، صعبة، وجوع. باعت النساء أغراضهن مقابل الحصول على الأطعمة، وخاطرن بحياتهن عند خروجهن من الغيتوهات رغبة في الحصول على الأطعمة من أجل عائلتهن ومن أجل التجارة. هناك من وجدن طرائق أصلية للتشارك بالأطعمة القليلة، بين أفراد العائلة من خلال تنازل الأمهات عن الأكل لصحالح أولادهن، وهناك من احتفظن بوجباتهن التي حصلن عليها في العمل لعائلتهن.
عاشت النساء في عزلة عن سائر العائلة بحيث فقدن دورهن كمسؤولات عن الاهتمام بالعائلة. أدى الجوع والقلق من أجل الحصول على الطعام إلى أن يكتب جزء من النساء الوجبات العائلية، وكلما ازداد الجوع أصبح الحديث عن الطعام مركزيا أكثر في الحوار النسائي.
حظر الحمل والولادة في الغيتوهات
في عام 1942، شاعت في الغيتوهات أوامر حظرت الحمل والولادة. ذُكر في هذه الأوامر الموعد الأخير للولادة. حُظر على الأطبّاء، الممرضات، والقابلات تقديم المساعدة للنساء أثناء الولادة بعد الموعد المحدد. لم تكن هناك وسائل لمنع الحمل، لذلك حملت النساء. احتارت النساء الحوامل بين العمل بموجب الأوامر وبين الرغبة في الولادة. كانت عقوبة خرق هذه الأوامر الموت. عُوقبت النساء الحوامل وأبناء عائلتهن.
بسبب نقص الوسائل الطبية الملائمة والظروف السيئة اضطُر الأطبّاء إلى إجراء عمليات الإجهاض وتسريع الولادة بطرق غير آمنة عرّضت حياة النساء والأطفال للخطر؛ أجريت عمليات على الأفران، في غرف مظلمة، في أماكن ضيقة وظروف غير معقّمة. بسبب التعرض للحظر كانت هناك حالات نُقلت فيها النساء قهرا إلى المستشفيات لإجراء إجهاض. في جزء من الغيتوهات هدد مجلس الشيوخ من اليهود (Judenrat) (مؤسّسة يهودية كانت مسؤولة عن الوساطة بين النظام النازي وبين الجالية اليهودية) المُخَالِفات للقانون بإيقاف بطاقة الأطعمة، المس بالعمل، حظر تقديم المساعدة الطبية للمرأة وحتى بتسليم أفراد العائلة إلى شرطة الأمن المسؤولة عن الغيتو.
في أعقاب حظر الحمل والولادة، كان على النساء اتخاذ قرار متابعة الحمل أو إيقافه. كانت هناك نساء أنجزن إجهاضا فورا، كان اصطناعيا أحيانا بعد تردد طويل، وهناك من رفض اجتياز الإجهاض رغم المخاطرة. من بين النساء اللواتي قررن متابعة الحمل كانت نساء قمن بذلك رغبة منهن في متابعة النسل أو رغبة في ولادة الأطفال عوضا عن حالات الموت.
الجنس أثناء المعارك
إن اغتصاب النساء ظاهرة معروفة وشائعة تاريخيا في الحروب، واغتُصِب الكثير – من النساء اليهوديات أيضا – من النساء أثناء الحرب العالمية الثانية. فقد اغتصب الفلاحون البولنديون النساء مقابل تزويد الأطعمة والحماية، ومن قبل جنود الجيش الأحمر الذين حرروهن من المعسكرات، ومن قبل البارتيزانيين الذين حاربوا إلى جانبهم، وحتى من قبل رجال يهود عاشوا ظروفا شبيهة. وأغتُصِبت نساء يهوديات كثيرات، بالطبع على يد النازيين النشطاء في الجيش أو في الإس إس.
مارست النساء الدعارة للحصول على الأكل والبقاء على قيد، وربما هناك نساء تنكرن لنساء مسيحيات من بين العاملات في بيوت الدعارة التي أقامها النازيون من أجل تلبية احتياجات الضباط الكبار في أوشفيتز.
طيلة سنوات، شاعت إشاعات أن الضباط الألمان أقاموا بيت دعارة في معسكر أوشفيتز كان يدعى “بلوك 24”. لم يعثر حتى يومنا هذا على أية مادة أكاديميّة أو شهادات، حول عمل بيت الدعارة. رغم أن الحديث يدور عن أسطورة معروفة، ليس هناك إثبات على وجود بيت الدعارة هذا. لم يمارس النازيون علاقات جنسية مع يهوديات ولم يكن السبب أخلاقيا يهدف إلى منعهم من تدنيس شرف النساء اليهوديات، بل العكس؛ كان على سكان الإس إس الذين شغلوا آلات الإبادة في أوشفيتز الحفاظ على معايير السلوك الشخصية الصارمة؛ فلم يُسمح لهم بتدنيس الجنس الآري المتفوق من خلال إقامة علاقات جنسية مع نساء يهوديات. رغم ذلك، هناك شهادات كثيرة حول اغتصاب همجي نفذه جنود وضباط نازيون. استغلت نساء كثيرات جميلات جنسانيتهن من أجل خداع الضباط والسعي للبقاء على قيد الحياة.
عاشت النساء في عزلة عن سائر العائلة بحيث فقدن دورهن كمسؤولات عن الاهتمام بالعائلة
مقاتلات في حركات المقاومة
رغم ضعف النساء جسمانيا نسبيًّا، قررت نساء كثيرات المقاتلة حتى إذا أدى قرارهن إلى موتهن.
شاركت شابات كن جزءا من حركات شبابية ناشطة قبل الحرب في تنظيمات قتالية مثل “هحالوتس هالوحيم” (الذي أدى إلى انتفاضة غيتو وارسو في أيار عام 1942).
عملت النساء في هذه التنظيمات كمقدمات رعاية، مهرّبات ومنسقات؛ شارك القليل منهن في وظائف قيادية. انتقلت الشابات من غيتو إلى آخر لتهريب الأسلحة، المتفجرات، والصحف التابعة للحركة السرية. كما وساعدن على إدارة العمل التقني، التجسس، العثور على مخابئ، تزييف الهويات، ونشر مواد تربوية. اعتنين بالأشخاص الذين كانوا مخبئين وبالأولاد الذين تمت تخبئتهم أو كانوا أيتاما. بالإضافة إلى ذلك، اهتممن بتوفير جو عائلي، دافئ، واعتنين بالمقاتلين.
شاركت نساء في نشاطات البارتيزانيين (مقاتلون في الحركات السرية ضد الاحتلال النازي في أوروبا).لم تكن المجموعات من غير اليهوديات مرغوبات، وعملت النساء فيها في مجال النظافة أو العناية، أو كن شريكات المقاتلين.
رغم المخاطرة الكبيرة، المنوطة بالمشاركة بتنظيمات المقاومة، انضمت النساء إلى تنظيمات لأسباب مختلفة: الرغبة في الانتقام، النزاع من أجل المستقبل، تقديرا للقياديين المختلفين أو بسبب الضغط الاجتماعي.