كانت قصة محمد حلمي منسية وغير معروفة طيلة السنوات التي مضت. ولكن وُجدت مؤخرا رسائل أرسلتها في الخمسينيات والستينيات شابة يهودية إلى مجلس الشيوخ في برلين، وتتحدث فيها كيف أنقذ الطبيب اليهودي حياتها وحياة أسرتها. بعد الكشف عنها، أصبح حلمي أول عربي يحظى بالاعتراف كأحد “أنصار الشعب اليهودي”، وهو لقب شرف تمنحه منظمة “ياد فاشيم” للأفراد من غير اليهود الذين أنقذوا يهودا في فترة الهولوكوست.
الطبيب المصري من برلين
وُلد الدكتور محمد حلمي في الخرطوم، السودان، عام 1901، لوالدين مصريين. سافر حلمي عام 1922 إلى ألمانيا ليتعلّم الطب ومنذ ذلك الحين عاش في برلين. بعد أن أنهى دراسته عمل مساعدا في مستشفى على اسم Robert-Koch وقد حظي فيه باعتراف كبير من مسؤوليه.
ومع ذلك، بما أن حلمي وفقا للقوانين العنصرية لم يُعتبر من العرق الآري، وإنما كان “حاميا” (من ذرية حام، الابن الثاني للنبي نوح)، شكّل ذلك عائقا أمام تقدّمه المهني. وصلت هذه الحقيقة، بالإضافة إلى موقفه النقدي المعلن تجاه رؤساء النظام النازي، إلى أسماع رجال الغيستابو (“شرطة الدولة السرية” في ألمانيا النازية)، وفي عام 1937 أقيل من عمله في المستشفى، وحُظر عليه العمل في أي مستشفى عام بل وحُظر عليه التزوج من خطيبته الألمانية. في العام 1939، اعتُقل حلمي إضافة إلى مواطنين مصريين آخرين، ولكن أطلِق سراحه بعد نحو عام لأنه كان يعاني من مشاكل صحية.
حلمي يسعى إلى إنقاذ اليهود
رغم أن النظام قد اضطهد حلمي، فقد أعرب عن انتقاده المعلن تجاهه بل وخاطر بحياته بهدف إنقاذ أصدقائه اليهود. عندما بدأ ترحيل اليهود من برلين، كانت آنا غوتمان من أسرة بوروس، من أفراد العائلة والبالغة من العمر 21 عاما، بحاجة إلى مكان للاختباء. فقدّم لها حلمي مأوى في مقصورة كان يملكها في حيّ بوخ (Buch) في برلين، وكانت كملاذ آمن لها حتى نهاية الحرب.
في أوقات الخطر، عندما كان يخضع حلمي للتحقيق الشرطي، حرص على إخفائها في أماكن أكثر أمانا. ومع زوال الخطر كان يُعيدها إلى مقصورته. هكذا كتبت آنا غوتمان بعد الحرب:
“صديق أسرتنا الطيب، الدكتور حلمي… أخفاني في مقصورته في برلين Buch، منذ 10 آذار عام 1942 وحتى انتهاء القتال. منذ العام 1942، لم أكن على علاقة مع العالم الخارجي. كان يعلم رجال الغيستابو أنّ الدكتور حلمي هو طبيب أسرتنا. وقد علموا أيضا عن مقصورته في Buch ببرلين.
لقد نجح حملي في التهرب من جميع تحقيقاتهم. في حالات عديدة كان الدكتور حلمي يخبئني خلال فترات الخطر لدى معارفه، وكنت أتنكر وكأنني ابنة أخيه من درسدن لعدة أيام. بعد زوال الخطر، كنت أعود إلى المقصورة… كل ما فعله الدكتور حلمي من أجلي كان نابعا من لطفه، لذلك أعبر عن امتناني له إلى الأبد”.
تعاون عربي – ألماني لإنقاذ اليهود
كان يهتم حلمي بوالدة آنا، جولي، وزوجها من الزواج الثاني، جورج ويهر (Wehr)، وجدّتها سسيليا رودنيك أيضًا. طوال فترة الاختباء وفّر الدكتور حلمي للمختبئين الخدمات الطبية التي كانوا بحاجة إليها وزوّدهم بالأدوية. لقد حرص على إخفاء سسيليا رودنيك في منزل فريدا شترومان.
على مدى أكثر من عام أخفت فريدا الجدة سسيليا، وهي المرأة الأكبر سنّا من بين مجموعة الناجين، وتشاركتا معا في تناول الطعام الذي كان بالإمكان شرائه فقط بواسطة بطاقات الطعام. حدثت إحدى لحظات الخطر الكبرى عام 1944، عندما تم القبض على الزوجين Wehr وخلال التحقيق معهما كُشف أنّ حلمي ساعدهما وأنّه يخفي آنا. لذلك نقل حلمي آنا فورا إلى منزل فريدا شترومان، وفقط بواسطة سعة حيلته نجح في التهرب من العقوبة. وقد نجا أفراد الأسرة الأربعة بمساعدة الدكتور محمد حلمي وفريدا شترومان وشجاعتهما. وقد بقي الدكتور حلمي في برلين وتزوج من خطيبته. وتوفي عام 1982. وتوفيت المنقذة فريدا شترومان عام 1962.
الخاتمة
بعد الحرب هاجرت آنا وأفراد أسرتها إلى الولايات المتحدة، ولكنهم لم ينسوا أبدا منقذيهم. في الخمسينيات وبداية الستينيات أرسلوا رسائل شكر حارّة إلى مجلس شيوخ برلين على عمل منقذيهم. وُجدت هذه الرسائل في أرشيف في برلين ونُقِلت مؤخرا إلى قسم “أنصار الشعب اليهودي” في ياد فاشيم، وتقرر الاعتراف بحلمي وفريدا شترومان باعتبارهما “أنصار الشعب اليهودي”. حلمي هو أول عربي يحظى بلقب الشرف هذا.