هزّت نداءات “الموت لإسرائيل” الصادرة من حوالي 15 ألفَ مُتظاهرٍ غاضبٍ، شوارعَ عَمّان في شهر آب الماضي. تمّ تنظيم هذه المُظاهرة، التي كان هدفها تصريحَ المُساندة لحماس باقتتالها ضدّ إسرائيل، على يد حركة “الإخوان المسلمين” في الأردن، التي استخدمتها كوسيلة لسحق الملك ونظامِه القائم. أثارت مرةً أخرى أحداثُ الشهر الأخير التساؤلَ: هل تتجه الحركة الأردنية نحو طريق أكثرَ عنفًا من شأنه أن يُضعضعَ ثبات المملكة، أم أنها تقيم هناك حربا محلّية تفتقر للسلطة الحقيقية؟
على ضوء الأحداث المأساويّة على حدودها مع سوريا والعراق، بقيت جارتنا الشرقيّة صامدة نسبيّا على طول الأعوام الأخيرة، بل حتى العقود الأخيرة. يتمّ حكمُ الدولة، منذ إقامتها، على يد النظام الملكيّ الهاشميّ، ومذ عام 1999 يحكم الدولة الملكُ عبد الله الثاني. باستثناء المؤسسة الملكيّة، يرتكز الحكم على قوانين مجلس النواب (البرلمان) الذي يشمل المجلس الأعلى للقضاء الذي يُموَّل ممثّلوه على يد الملك، والمجلس الأدنى الذي يُنتخب ممثّلوه من قِبل الشعب. يتكوّن سكان الأردن من مواطنين “أصليّين” للدولة، ومن سكان فلسطينيّين نزحوا عن أرض إسرائيل بإجبار منها في عامَيْ 1948 و- 1967. نسبة الفلسطينيّين الدقيقة في الدولة هي قضية مثيرة للجدل وتختلف فيها الآراء، وتتراوح التقديرات بحوالي 60 بالمئة.
في بداية حركة الإخوان المسلمين في الأردن في سنوات الخمسينات، قد ارتكزت العلاقات بينها وبين النظام على أسس إيجابيّة أكثر. وفّرت المملكة حصانة سياسيّة في العديد من المرات لأعضاء الحركة الذين اضطُهدوا في مصر في عهد جمال عبد الناصر، في حين ناهضَ “الإخوان” بالمُقابل مُحاولاتِ الرئيس المصري بتقويض الحكم الهشّ للملك الشاب حسين بن طلال.
وكجزء من العلاقات المتينة مع النظام، سُمِحَ للحركة بممارسة أنشطتها الاجتماعيّة والتربويّة بصورة قانونيّة، حتّى عندما دُفعت جميع المنظمات السياسيّة إلى خارج القانون عام 1957. بدأ النظر إلى الإخوان المسلمين وتوجّه الإسلام السياسيّ، الذين كانوا في القيادة، على أنهم تهديد جليل فقط في بداية سنوات التسعينات، في الزمن الذي سمَحَ فيه النظام لأوّل مرة المُشاركة السياسيّةَ في نطاق المجلس الأدنى لمجلس النواب. أقامت الحركة، التي نعمَت باستقلال ذاتي تنظيميّ لسنوات طويلة، حزبَ “جبهة العمل السياسيّ”، وسُرعان ما سادت وسيطرت على المجلس الأدنى. ومنذ تلك الأيام، اتّسع الصدعُ بين الحركة والنظام، حيث تعمل الحركة مرارًا وتكرارًا ساعيةً لتحقيق إصلاحات ذات طابع إسلاميّ أكبر للدولة العلمانيّة، لكنّها حُذّرت من عدم تجاوز الحدود الرفيعة بين المُشاركة السياسيّة والتهديد ضد استقرار النظام.
أثناء العقد الأول من سنوات الـ 2000، أدّت تغييرات داخليّة بقيادة الحركة إلى نهج أكثر صرامةً ضد النظام، الأمر الذي انعكس في مقاطعة انتخابات عام 2007، وانضمام قوى أخرى في المملكة بِنِداء هجوميّ من أجل إحداث الإصلاحات السياسيّة والدستوريّة المُعتبَرة. ازدادت ثقة “الإخوان” بأنفسهم أكثرَ عام 2012 إثرَ الأحداث المحلّيّة التي جرت.
أيقظ اندلاعُ الحرب بين المواطنينَ في سوريا عمليات الفصيلة السورية التابعة للحركة داخل أراضي الدولة، وذلك بعد سنوات من الاغتراب والمنفى. والأهم من ذلك، ضاعف وصول الحركة التاريخي للحكم في مصر قوّتَها وهيبتها إلى أبعد الحدود. أدّت هذه التطورات، التي دعمت الجماعة الأردنيّة، إلى أنْ تعمل بصورة لاذعة أكثر مما سبق. وعلاوة على ذلك، تدخّلت فصائل الحركة المُختلفة الموجودة في عواصم دول عربيّة، خاصة في القاهرة والدوحة، بصورة مُباشرة في السياسة الأردنيّة. ومثال على ذلك، إقالة عبد المجيد ذنيبات، قائد سياسيّ أردنيّ وعضو مجلس الشيوخ، في كانون الثاني عام 2012 على يد الملك. في هذه المرحلة، تعاونت الحركة مع قادة القبائل وتابعي المُعارضة العلمانيّة على إنشاء مُظاهرات كثيرة ضد سياسة الملك الاقتصادية-الاجتماعيّة المُختلّة.
لكن كلّما أخذ المحور الذي يحكم زمامَه “الإخوان” في مصر وحلفائهم في قطر بالترسّخِ والتوطّد، تبدأ الحركة الأردنيّة بالتلاشي. لم يكُن الانقلاب العسكريّ في مصر الذي أعاد القوات العسكريّة العلمانيّة للسلطة السببَ الوحيد لذلك. أدى أيضا التحوّل التدريجيّ للثورة السوريّة إلى سفك وحشيّ لدماء المسلمين ذا تأثير يُذكَر على مسرح السياسة الأردنيّة، إذ أدّى أيضا إلى الاشمئزاز والذعر من الحركات الإسلاميّة. قاد هذا الأمر بدوره إلى هبوط حادّ في شعبيّة الحركة. من جانب آخر، خضع كثيرون من المعسكر الإسلاميّ نفسه لتطرّف حادّ كتأثير للزوابع التي حدثت في العالم الإسلاميّ. تتقدّم الحركة السلفيّة في الأردن، كما في أماكن أخرى في العالم، بوتيرة وتسارع أكثر فأكثر. وللتوضيح، من المُقدّر أنّ 500 أردنيًّ قد عبروا الحدود وانضموا للاقتتال في سوريا مع صفوف منظمة “جبهة النصرة” المتطرّفة. كما أنّ مؤسّسَ تنظيم “الدولة الإسلاميّة” – أبا مصعب الزرقاوي، هو مناصر وتابع للسلفيّة الأردنيّة. جاء تأييد هذه الجماعات على حسابِ الفصائل الإسلاميّة الأكثر اعتدالا، ومن بينهم الإخوان المسلمون.
سبب إضافي لضعف الحركة السريع، هو الانقسام الداخليّ فيها بين أبناء الضفة الشرقيّة وأبناء الضفة الغربية – أيّ بين الأردنيّين الأصليّين واللاجئين الفلسطينيّين الذين قطنوا في الدولة والتحقوا بالحركة. تميل الجماعة الفلسطينيّة الموجودة داخل حركة “الإخوان” الأردنيّة، المرتبطة بشكل أكبر مع التوجه الهجومي المتشدّد، إلى تأييد منظمة حماس والصراع الفلسطيني العنيف بإسرائيل. يقوم مجرّد هذا التوجّه بتوسيع الصدع بين الأصوات المُعتدلة والأخرى الأكثر تشدّدا، داخلَ وخارجَ الحركة. وبالإضافة إلى هذا، تُعاني الحركة من اتهامات بصدد الفساد العارم داخلها، ومن قضايا شراء أصوات خلال الانتخابات الداخليّة التي أقيمت قبل نحو عامَيْن. في نهاية عام 2012، أبدى رحيل الغرايبة، أحد رؤساء الحركة سابقًا، مبادرة كانت إحدى أهدافها تجريد الإخوان المسلمين من احتكار الخطاب الإسلاميّ في الدولة. طمحَ الغرايبة بإقامة بديل إسلاميّ تصالحيّ وشامل أكثر، وهذا من أجل إثارة استياء ناشطي الحركة الأصليّة.
حاليّا، تتواجد الحركة على مَفرق طرق حاسم. إذ أنّ قادتها على دراية تامة بضعف تأثيرهم وتعاطف الناس معهم في الشارع الأردنيّ، وحاجتهم إلى حدوث تغيير بموازين القوى لصالحهم. وفي ذات الوقت، هم على دراية بالضعف الذي تُبديه الحركة، وبالعداء نحوها من جانب الملك عبد الله، الذي لقّبهم علنا بـ”ذئب بملابس خروف”. هناك لدى الناس مخاوف من أيّ قمع من قِبل النظام كما جرى في مصر، ويتمسكون بالعهد التاريخيّ بينهم وبين قصر المملكة. مؤخرا، كمحاولة جاهدة من قِبل الحركة لاحتلال قلوب الأردنيّين، حولوا ركوب تيار المناهضة والعداء لإسرائيل على طول حملة “الجرف الصامد”، وبانوا بعشرات الأشخاص في الشوارع في مظاهرة دعم لحماس والشعب الفلسطينيّ. نالت النداءات المُحرّضة في الشوارع دعما وزيادة في الطلب من قِبل المعارضة، من أجل تغيير علاقات الدولة مع إسرائيل. لكنّ النظام الحاليّ، الذي يشعر بثبات واستقرار نسبي أكثر، تجاهلَ هذه الادعاءات دون إعارة أي انتباه لها.
وفق ذلك، تبيّن أنّ صعود حركة “الإخوان” الأردنيّة للبرنامج السياسي اليوم، كأحد الآثار لعملية “الجرف الصامد”، هو مؤقت ولا يرتكز على قوى ذات تأثير على السياسة الأردنيّة. إذ تسير الحركة بين الأمْرَيْن – بين تحدّي النظام، وبين الحفاظ على العلاقات معه خوفا من الملاحقات. علاوة على ذلك، حقيقة كوْن النظام الأردنيّ لم يعمل على قمع تام للحركة في أراضيه بعد، كنظيره المصري الذي قام بذلك قبل زمن ليس ببعيد، تُقيّد إلى صالح المنظمة وضعفها، التي ليس لديها القوة الآن على تنفيذ أي تأثير ملموس على استقرار النظام الأردنيّ.
نُشرت المقالة لأوّل مرة في موقع مجلة “الشرق الأدنى – Near East”.