في نهاية الأسبوع الماضي، تقرّر أن يكون اسم الميدان الذي سيستقبل القادمين من أبواب المدينة الفلسطينية الجديدة على اسم المدينة نفسها: ميدان “روابي”. وكان مئة ألف من زوار صفحة المشروع في موقع الفيس بوك هم من اتخذوا قرار هذه التسمية واستبعدوا التسميات الأخرى التي كانت مقترحة مثل: “الزيتونة” و”الكروم”، وهم محتلنون أسبوعيًا بتقدم عملية البناء. هذا التصويت، الأول بين ثلاث عمليات تصويت، وهو جزء من البناء التسويقي المتقن الذي يجعله أكثر بريقًا من مجرد مشروع هندسي، وذلك من خلال الموقع الإلكتروني على شبكة الإنترنت، وصفحة فيس بوك ومجموعة متنوعة من التغطيات الإعلامية. من المفترض أن تكون روابي، كما يقول شعارها، مكانًا لـ “السكن، العمل والحياة”، طريقة جديدة للعيش نحو الدولة الفلسطينية المستقبلية. وإذا كان الأمر كذلك، فإنّ هناك وظيفة مهمة لاختيار الأسماء التي تكسب المدينة أهمية في تحديد طبيعتها المستقبلية.
إضافة إلى الجوانب الديموغرافية والسياسية، علينا أن نفهم بناء المدينة الجديدة على خلفية التاريخ العمراني الفلسطيني منذ 1948. لقد فرقت الحرب شريحة النخبة المدنية الفلسطينية، بما في ذلك القدس، يافا، حيفا، الرملة وطبريا. وفي إسرائيل، تحوَلت الأقليات العربية من السكان الذين بقوا في المدن أو نقلوا إليها كلاجئين، إلى أقلية ذات مستوى متواضع. وبالإضافة إلى ذلك، لم تجذب المدن اليهودية بعد عام 1948 إليها العرب القرويين، مما أدى إلى دخول الخدمات المدنية إلى داخل القرى وإلى زيادة هائلة في عدد سكانها. وقد اعتبرت دولة إسرائيل مع الوقت بعض هذه القرى مدنًا، رغم أنها كانت تفتقد أي طابع اجتماعي أو اقتصادي مدني. هكذا تكونت القرى العربية داخل إسرائيل بشكلها الحالي بحيث تكون نوعًا من القرية المدنية أو المدينة القروية.
إحدى المزاعم المنتشرة ضد سياسة الحكومة الإسرائيلية تجاه السكان العرب هي أنها تعتمد اتجاها واضحًا لـ “عدم التمدن”، أو منع عملية التمدين “الطبيعي” الذي يطبق على سكان الدولة اليهود. وكذلك الأمر في مناطق الضفة الغربية بعد عام 1948 كانت هناك عقبتان في طريق تطور البيئة والمجتمع المدني. كانت العقبة الأولى هي شريحة اللاجئين الكبيرة التي اعتمدت تدريجيًا على المدن الكبرى. أما العقبة الثانية فكانت سياسة الإهمال المتعمد من جانب الحكومة الهاشمية، التي سيطرت على الضفة الغربية بين عامي 1948 و 1967، والتي كانت تهدف إلى إضعاف مدن الضفة وتقوية مدن شرقي الأردن. وهكذا، منذ عام 1948، وقفت الصعوبات والعراقيل أمام عمليات التمدن والتنمية الحضرية الفلسطينية، سواء في إسرائيل أو في الضفة الغربية.
وقد تبلور هذا الفهم في السنوات الأخيرة، وعلى أساسه تنمو في الخطاب الفلسطيني الرؤية في تغيير رواية اللجوء التي تطالب بالعودة إلى الديار في القرية، وإلى شجرة الليمون في البستان. لقد أدت التجربة “القروية” الحالية ومحاولة إضفاء الرومانسية على الماضي الفلسطيني، كما يقال، إلى بناء ذاكرة يكون بحسبها المجتمع الفلسطيني مجتمعًا قرويًا فقط، حيث تم في الواقع نسيان الحياة المدنية أو تناسيها.
يمكننا أن نفهم مشروع المدينة الجديدة روابي كجزء من محاولة فتح صفحة جديدة في التاريخ المدني الفلسطيني. وبذكاء كبير اختار المبادر إلى المشروع، رجل الأعمال الفلسطيني بشار المصري، ألا يحاول إعادة يافا العربية، أو استنساخ رام الله أو بناء مانهاتن الفلسطينية. وبصفتها مدينة مخطط لها مسبقًا من الألف إلى الياء، فقد استمدّ المصري الإلهام من مدينة موديعين الإسرائيلية، واختار تأسيس مدينة سكنية لأبناء الطبقة الوسطى الحالية، وهي جيل من العائلات الفلسطينية الشابة التي ترى مستقبل أولادها في دولة فلسطينية حديثة.
ومن خلال فهمه بأنّ الأسماء والمصطلحات لا تستمدّ من الواقع فحسب بل تشكل هذا الواقع، سعى المصري إلى أن يضفي على المدينة طابعًا يتمثّل بتسمية أجزاء المدينة. لقد تعلم الفلسطينيون جيدًا من جيرانهم اليهود بأن عملية التسمية هي عمل سياسي بحد ذاته، ولذلك فمن الواجب أن يتم استثمار الفكر فيها.
اختار المصري تحديد مسار خاص. ومن خلال اختيار الاسم النهائي “روابي” (وتعني التلال) استبعد أسماء أخرى مثل “مدينة عرفات” أو “مدينة الجهاد”، وربط بين المدينة كرمز للبنية الجديدة، وبين التضاريس التي تشكل المنطقة. وتمت كذلك تسمية أحياء المدينة بأسماء فريدة، وربما غريبة بعض الشيء، والتي أخذت من لغات سامية قديمة: “مكتمة”، “صوان”، “إكشاف”، “ترصة”. إن اختيار اللغات غير المتداولة – وتحديدًا الأكادية والآرامية – يهدف إلى الرمز للعلاقة بين المدينة والماضي الفلسطيني “الكنعاني”. ويهدف الادعاء الفلسطيني الذي يقول إن أصول الفلسطينيين تعود للكنعانيين إلى دحض الادعاء اليهودي الذي يدعي عن وجود علاقة تاريخية مع أبناء يعقوب (إسرائيل) الذين سكنوا المنطقة، وللتأكيد على أقدمية الفلسطينيين. ويمثّل هذا الادعاء صيغة هجومية، وذلك على ضوء الموقع الجغرافي لمدينة روابي المجاور للمستوطنات: حلميش (نافي تسوف)، عطيرت، عفرة وبيت إيل.
وأطلق على أحياء أخرى في مدينة روابي أسماء “وروار”؛ وهو اسم عربي لطائر محلي، و”دليم”؛ وهو اسم قبيلة عربية مهمة في سوريا والعراق. وتم إعطاء النماذج المختلفة من المباني في مدينة روابي أسماء عربية مثل “مرمر”، “بلور”، “زان” أو “وتر”. وتؤكد الأسماء العربية التي اختيرت ذلك الاتجاه لربط المدينة بالطبيعة التي تحيط بها وللخصائص العربية الأصولية، مع تجنب وجود صلة مباشرة مع رموز الصراع الفلسطيني من العهد السابق. ويبدو على الأقل حتى الآن أن هذه الأسماء مفضلة على ميدان أو شارع “الشهداء” الشائع في مدن أخرى، وعلى الإشارة إلى أحداث وشخصيات من التاريخ الفلسطيني المعاصر.
ومن المقرر حتى نهاية السنة أن تسكن الـ 600 عائلة الأولى في أحياء “الصوان” و”مكتمة” في روابي. وستكون هذه فرصة مهمة لرفع التاريخ المدني الفلسطيني إلى مسار جديد، في الطريق إلى الدولة المستقبلية. ويعتقد بناة مدينة روابي بأنه من أجل حدوث ذلك يجب قطع الصلة بين تجربة السكن في المدينة الجديدة وبين المدن الفلسطينية التقليدية وبينها وبين عالم مصطلحات الصراع المشحون. وستخبرنا الأيام إن كانت المصطلحات “الرقيقة” التي عرفت بها أجزاء المدينة المختلفة ستساعد في إيجاد هوية فلسطينية جديدة.
نشر المقال على موقع Can Think، والمختص في شؤون الشرق الأوسط. ونضيف أن الموقع “Can Think” هو مشروع مستقل، لا يمت بصلة إلى أي جهة سياسية أو اقتصادية، ويعمل بموجب نموذج اشتراكي. الكُتاب والعاملون في الصحيفة هم أكاديميون، يقدمون تحليلات موضوعية من منظور بحثي.