تحتفل مجموعة تضم الآلاف من الشباب في القاهرة، في الشهر القادم، بالذكرى السنوية الأولى لإقامة منظمة اجتماعية غير مألوفة في المشهد الحضري المصري. وتحوّل الأمر الذي بدأ كمبادرة فردية غير جادة لبعض الهواة، بسرعة إلى جسم تطوعي بارز يضم العشرات من الأعضاء الذين يستطيعون تحفيز الآلاف للخروج من منازلهم إلى شوارع القاهرة.
وتلقى المبادرة دعمًا ومساندة واهتمامًا ملحوظًا في أوساط المجتمع المصري ووسائل الإعلام المصرية. أطلقت هذه المجموعة على نفسها اسم “عدائي القاهرة” (Cairo Runners). والتقى أعضاء هذه المبادرة الشبابية، في العام الماضي، كل يوم جمعة من أيام الأسبوع صباحًا من أجل الجري معًا في شوارع المدينة. ولا تهدف هذه المجموعة إلى المحافظة على أجسام رياضية فحسب، بل إن الإقبال على هذه المبادرة الشبابية هو أساسًا نتيجة لتوجه جديد يهدف إلى حياة حضرية مختلفة، يسعى إليها شباب القاهرة.
بادر إبراهيم صفوت إلى القيام بلقاءات الركض في شوارع القاهرة، واستوحى فكرته من فكرة مشابهة في باريس. وكان يهدف صفوت ومجموعة من الأصدقاء عملت معه إلى النجاح في جذب العشرات من الأشخاص من أجل المشاركة في الركض لمسافة 22 كيلومترًا، أي تنظيم نصف ماراثون في شوارع القاهرة. ولكن بعد تنظيم مبادرة الجري الأولى، والتي تم تنظيمها في حي الزمالك وهو أحد الأحياء الراقية في القاهرة، في شهر كانون أول من العام 2012، تغلغلت هذه المبادرة إلى جميع شوارع وأحياء القاهرة.
تعرف عشرات الآلاف من الأشخاص على مبادرة “عدائي القاهرة” من خلال صفحات التواصل الاجتماعي وأصبح عدد المشاركين يزداد تدريجيًا، من عشرات إلى مئات. والفكرة بسيطة للغاية: يبادر المنظمون، قبل أسبوع من كل لقاء، إلى نشر خارطة تبين المسار الذي سيسلكه المشاركون بالإضافة إلى التعليمات الخاصة ومعلومات عامة حول أسلوب الحياة الرياضي. تتم إقامة مواقع لشرب الماء، خلال اللقاءات، ويتم أيضًا تحديد المصادر بواسطة لافتات ومتطوعين يقومون بتوجيه المشاركين في المفارق والمحاور. وساهمت الأجواء الجيدة خلال اللقاءات، على مدار عدة أشهر، في ازدياد عدد المشاركين. فشارك في شهر أيار من العام الجاري وفي نصف الماراثون الذي تم تنظيمه، حوالي 2000 عداء في هذا السباق برعاية فرع “نايك” في مصر وشركة “كوكا كولا”.
لكن لا تنتهي ولا تتوقف هذه المبادرة عند هذا الحد، فقد استغل القائمون على هذه المبادرة التغطية والاهتمام اللذين حصلوا عليهما من أجل محاولة التأثير على الشباب ومحاربة ظواهر مرفوضة. وهنالك ظاهرتان مزعجتان تحديدًا، الأولى، التحرش الجنسي حيث تم نشر شعارات مناهضة لهذه الظاهرة.
يُشار إلى أن ظاهرة التحرش الجنسي المنتشرة في شوارع القاهرة منذ تراجع تواجد العناصر الشرطية منذ شهر كانون الثاني عام 2011، قد تحوّلت إلى إحدى الظواهر التي تساهم في تقييد حرية تحرك المرأة. وكانت هناك مشاركة واضحة وظاهرة للنساء في تدريبات الركض ضمن هذه المبادرة، بعضهن يلبسن الحجاب والبعض الآخر دونه.
ويحرص القائمون على هذه المبادرة على تأكيد رفض ظاهرة التحرش الجنسي وتعهدوا بالمساعدة في تقديم شكاوى للشرطة ضد كل من يشتبه بقيامه بالتحرش الجنسي خلال التدريبات. يحرص المبادرون، إضافة إلى ذلك، إلى هذه الفعالية التأكيد على أهمية المحافظة على نظافة المدينة. وأطلق هؤلاء العديد من الشعارات التي ترفض إلقاء النفايات، وشددوا على أهمية محافظة كل شخص على النظافة وعدم إلقاء القمامة على الأرض والتخلص من هذه العادة السيئة. وأنه يتوجب على كل شخص أن يبدأ بنفسه وأن يحرص على عدم إلقاء أي شيء على الأرض وهذا سيساهم في تغيير مهم في محيطه.
ويضطر القائمون والمشاركون في مبادرة “عدائي القاهرة” إلى التعامل مع تحديات كان يمكن أن تتسبب في إبقاء الكثيرين منا في منازلهم. فالظروف والشروط التي من الواجب توفرها لإقامة لقاءات جري وركض في مدينة مثل القاهرة، وبشكل خاص خلال العام الأخير، لم تكن متوفرة وقائمة. ويدرك كل شخص قام بزيارة القاهرة في الفترة الأخيرة تمامًا، أن شوارع القاهرة ليست مكانًا مناسبًا للمشاة وسائقي الدراجات الهوائية. وتعتبر مثل هذه النشاطات نادرة جدًا في شوارع القاهرة المزدحمة. كما ويسيطر الغبار والتلوث على الأجواء في القاهرة ويصعبّان مهمة القيام بأي نشاط رياضي في الشوارع. كما أن الأرصفة ضيقة في أغلب الأماكن، وهي غير موجودة في بعض الأماكن، كما أن ممرات المشاة غير موجودة بشكل كاف وحق الأولوية للمركبات دائمًا .
وتنطلق لقاءات الجري التي تتم دون الاستعانة بالشرطة لإغلاق الطرق، في ساعات الصباح الأولى، من أجل الامتناع قدر المستطاع عن الالتقاء بالحركة النشطة للسيارات والمركبات. ويحرص المشاركون في الجري غالبًا، على ارتداء سترة عاكسة وعلى الركض ضمن مجموعات حتى يكون بالإمكان ملاحظة تواجدهم على الشارع.
بادر المنظمون في النصف الأول من العام الجاري وبسبب التظاهرات التي كانت تتم في المدينة، إلى إقامة لقاءات الركض في مناطق بعيدة عن وسط المدينة حتى يكون بإمكانهم القيام بنشاطهم بشكل آمن. وقام المنظمون، في شهر رمضان، بوضع حلول خلاقة بالنسبة للصائمين، حيث كان يتم تنظيم النشاطات الرياضية قبل ساعة واحدة من موعد الإفطار.
اندلعت في المدينة أحداث عنيفة، بعد انتهاء شهر الصيام، ترافقت مع إقصاء الرئيس مرسي. حيث اضطرت مبادرة “عدائي القاهرة” إلى تجميد نشاطها لمدة شهرين. وتم الحرص خلال تلك الفترة على مواصلة نشر المعلومات حول أسلوب الحياة الصحي والتغذية وذلك باستخدام شبكات التواصل الاجتماعي. واجه المنظمون بعد عودتهم إلى ممارسة نشاطاتهم، وذلك في شهر أيلول من العام الجاري، أجواءً مليئة بالتوتر في المدينة وبادروا إلى نشر شعارات تقول: “نحن عداؤو القاهرة نؤمن بالاحترام المتبادل تجاه التوجهات والمواقف السياسية المختلفة”، ولا نرغب في رؤية أي إشارات سياسية أو أي شعارات تتحدث عن دعم المجلس العسكري أو جماعة الإخوان المسلمين.
وطالب المنظمون كل من يرغب بالمشاركة في النشاطات التي ينظمها “عداؤو القاهرة” بعدم إحضار أي إشارات تدل على توجهات سياسية. وأن أي شخص لا يلتزم بذلك لن يكون مرحبًا به. ورغم حالة التوتر التي تجتاح المدينة في الأشهر الأخيرة، إلا أن رسالة المنظمين قد تم استيعابها. وتؤكد مشاركة المئات في إعادة انطلاق هذه الفعاليات والنشاطات، أن العديد من الأشخاص يرغبون في ترك السياسة وراءهم والاستمتاع بساعات من النشاطات الاجتماعية والمرح.
هذه المبادرة ليست الوحيدة، وعلينا أن نستوعب ظاهرة “عدائي القاهرة” في إطار التغيير الذي طرأ على سكان القاهرة، وعلى رأسهم الشباب، منذ ثورة شهر كانون الثاني من العام 2011. وأثار التواجد الحاشد في ميادين القاهرة وشوارعها خلال العامين الأخيرين تساؤلات حول من يمتلك الشوارع والميادين العامة وما هو النشاط الذي يجب أن يقام في تلك الأماكن.
ومنذ إقصاء مبارك وإلغاء قانون الطوارئ الذي حكم نظام مبارك بواسطته، وفي أعقاب تراجع التواجد الشرطي في الشوارع والفوضى السائدة في المدينة، أصبحت هناك حالة من الفراغ الذي امتلئ بأساليب وأشكال مختلفة. بالإضافة إلى الظواهر السلبية كالسيطرة على الساحات والأماكن العامة من جانب الباعة المتجولين والمباني غير القانونية، فقد كان هناك من يحاول أن يعزز الواقع الحضري في المدينة.
هذا المصطلح، الذي وضعه الفيلسوف وعالم الاجتماع هنري لا فبر في نهاية سنوات الـ 60، تمت ترجمته، وبات يُعرف في العالم العربي بـ “الحق في المدينة” إلى جانب “الفراغ العام أو المجال العام”. وبات هذا المصطلح في بؤرة النقاش في المنتديات وحلقات النقاش المختلفة: الأكاديمية وغير الأكاديمية للتخطيط، التصميم والهندسة في القاهرة. وكان حق سكان المدينة في الدستور المصري الجديد من بين الأمور التي تمت مناقشتها في تلك المنتديات. وهي التي ساهمت في خلق حالة من المعرفة والاهتمام بالمشروع الحكومي الذي يطلق عليه اسم “القاهرة 2050”. والذي سيتم العمل في إطاره على إزالة أحياء سكنية تاريخية في المدينة لصالح شق طرق واسعة في القسم الغربي من المدينة. كما تناقش تلك المنتديات وبشكل دائم موضوع توفير السكن للمواطنين الذين يقيمون في مناطق الفقر.
إلى جانب هذه النشاطات، يسلط العديد من مواقع الإنترنت الرائدة في مصر الضوء على نقاشات حول مستقبل المدينة ومكان السكان في الخطط التطويرية القادمة. وتقوم بعض المدوّنات مثل مدونة تضامن، Cairo Observer أو Cairo From Below، بنشر مواقف وأراء حول تطوير المدينة وتحاول الترويج لمبادرات وتصميمات شبابية لمشاريع مقترحة في المدينة، كإغلاق الشوارع أمام السيارات، وعمليات البناء الخضراء، وإقامة الحدائق في المدن وتشجيع استخدام الدراجات الهوائية. تشكّل جميع هذه الاقتراحات جزءًا من الأفكار التي يتم اقتراحها من أجل مستقبل القاهرة.
ولكن هل نحن على وشك أن نشهد حالة من التغيير الحضري؟ من الصعب علينا الإجابة على هذا السؤال. خاصة وأن مصر تواجه صعوبات كبيرة في هذه الأيام، والقاهرة تحتاج إلى وقت طويل قبل أن تتحول إلى أمستردام. لكن من المؤكد أن المصممين والمهندسين والمخططين الشباب سيكون لهم دور مهم في تخطيط شكل القاهرة في المستقبل. كما أن ثمة ظاهرة ملفتة وهي رغبة الشباب في القاهرة بالتعرف بصورة أكبر على تاريخ المدينة، ولهذا السبب يتم تنظيم العديد من الجولات داخل المدينة. هذه المجموعات لا تتجول وتتعرف على الأماكن التاريخية في المدينة الإسلامية القديمة فحسب، بل تتعرف أيضًا على المشاكل التي تواجهها مناطق مختلفة من القاهرة، كمنطقة منشية ناصر في شرق المدينة من جهة والأحياء الغنية وأسلوب الحياة المتطور في بعض مناطق المدينة.
تعمل مجموعة “عداؤو القاهرة” على أساس هذه الروح الجديدة المنبعثة في أوساط الشباب في القاهرة، من النساء والرجال، الذين يرغبون في استغلال الأجواء والمساحات في المدينة من أجل احتياجاتهم ورغباتهم، وحقهم في المدينة. ويحاول المنظمون لهذه المبادرة تعريف المشاركين على أحياء المدينة، وكذلك زرع روح التفاؤل في أوساط المشاركين. وفي ظل عدم وجود متنزهات رئيسية في وسط المدينة (باستثناء كورنيش النيل) فإن ممارسة رياضة الجري في شوارع المدينة تعتبر وسيلة للتأكيد على حقوق المشاة في استخدام الشوارع بشكل آمن. وتشكّل المشاركة الواسعة للنساء في تلك النشاطات حماية من التحرشات الجنسية تجاه النساء اللواتي يلبسن ألبسة رياضية، ومحاولة للتأكيد على ضرورة الاحترام المتبادل.
وترمز مبادرة “عدائي القاهرة” إلى الروح الحضرية الجديدة التي تهب في العاصمة المصرية وتحقق قيم الثورة المصرية بصورة فعلية. ففي الوقت الذي تصعّب فيه الصراعات السياسية مهمة توقع من سيقود مصر في السنوات القادمة، يحاول بعض النشطاء من سكان المدينة ومن وراء الكواليس انتزاع حقوقهم الاجتماعية ومحاولة التأسيس لبيئة حضرية يومية بصورة أفضل.
نشر المقال على موقع Can Think، والمختص في شؤون الشرق الأوسط. ونضيف أن الموقع “Can Think” هو مشروع مستقل، لا يمت بصلة إلى أي جهة سياسية أو اقتصادية، ويعمل بموجب نموذج اشتراكي. الكُتاب والعاملون في الصحيفة هم أكاديميون، يقدمون تحليلات موضوعية من منظور بحثي.