من الجدير التشديد على أن هذه ليست دكتاتورية بعد. سلطة القانون، الديموقراطية وفصل السلطات هي ليست بالمصطلحات الغريبة، “الغربية”، أو جاءت بالقوة من خارج تُركيا. إن النضال الجماهيري يستند على هذه الأسس والذي بدأ قبل 200 عام منذ الإصلاحات المعروفة باسم “تنظيمات”. وكذلك الدستور الذي يقضي بفصل السلطات وإجراء انتخابات حُرة، الذي تم سنه في عام 1876، قبل حتى تأسيس الجمهورية الكمالية. وبالفعل علينا أن نتذكر أن إرث الدولة الديمقراطية تقريبًا، (وهو الذي أوصل إلى الحكم، تجدر الإشارة، حزب أردوغان من خلال انتخابات حرة عام 2002)، لا يزال قائمًا. ما زالت المُعارضة السياسية فاعلة ويوجه قادتها انتقادات لاذعة للحاكم. ليست هناك أحكام بالإعدام ولا إعدامات دون محاكمة. لعل في تركيا اليوم نظام حكم سلطوي غابت منه كل الروادع والتوازنات حيث يضع الحاكم السياسات بمفرده ويحدد الأهداف.
تحولت السلطة التشريعية إلى ذراع للنظام الحاكم. يسيطر على البرلمان، منذ عقد من الزمان، حزب واحد يمكنه تمرير أي قانون يرغب به الحاكم. حاول الحاكم تفكيك سلطة القضاء من خلال الإقالات، والنقل القسري لقضاة ونواب عامين إلى مناطق نائية، وتغيير القانون بحيث يكون وزير العدل التابع له على رأس هيئة النواب العامين والقضاة. تم سجن قادة الجيش، غالبيتهم لأسباب لا أساس لها. جهاز الشرطة لاءم نفسه للوضع القائم بعد فصل مئات الضباط ورجال الشرطة من السلك أو نقلهم إلى المدن المحاذية لسوريا. أيضًا تم الدوس على وسائل الإعلام التي بقيت فيها حتى الفترة الأخيرة جُزر قليلة للمعارضة والنقد. لم يعد أحد يجرؤ على انتقاد الحاكم بعد سلسلة اعتقالات مُفبركة، ضرائب خيالية ضد الصحف ومكالمات تحمل تهديدات. حتى الصحف الصادرة باللغة الإنكليزية، التي ظلت حتى الفترة الأخيرة بمثابة واجهة مُنمقة باتجاه الغرب، هي أيضًا تتجه نحو الإغفال.
https://www.youtube.com/watch?v=6ujZpIwdjfo
تحول الحاكم في السنة الأخيرة من رئيس حكومة إلى رئيس. الدستور يُقر بأن الدور الرسمي لرئيس الدولة في تركيا هو تمثيلي فقط ورئيس الحكومة هو رأس النظام السياسي، إلا أن أردوغان لا يقيم وزنًا للقانون الرسمي. أقام أردوغان مجلس وزاري مصغّر في الظل، لتفادي عدم وجود صفة رسمية في جلسات الحكومة، ويُملي على الحكومة ما عليها أن تفعل، وقريبًا سيهتم بطرح قانون يمنحه مكانة رسمية.
ماذا إذا يمكن للمواطنين الفعل بينما تذوب الديموقراطية أمام أعينهم بينما العقاب، في حال توجيه أي انتقادات، يكون السجن لفترات طويلة؟ والأسوأ من ذلك – ما العمل بينما يبدو أن الحاكم فقد رشده على ما يبدو؟
الدلائل على ذلك كثيرة جدًا: سلسلة من التصريحات الجنونية التي تتهم جهات غامضة باستهداف تُركيا عمومًا والحاكم تحديدًا. يلمح أردوغان إلى أن اللوبي اليهودي وإسرائيل هما خلف تلك الجهات، غير أن أذيالهم موجودين عميقًا داخل النظام التركي ويجب تطهيره منهم، ادعاء أن إسرائيل هي التي غيّرت نظام الحكم في مصر؛ وهذا القول جاء بالاعتماد على تصريحات الفيلسوف الفرنسي اليهودي برنار هنري ليفي؛ أن الديمقراطية لا تقاس فقط من خلال صناديق الاقتراع؛ تصريحات هجومية ضد الاتحاد الأوروبي الذي يتهمه أيضًا بأنه السبب وراء المشاكل في تُركيا؛ تصريحاته أن الغرب سعيد بموت أطفال المُسلمين، وبالمقابل عدم اكتراثه التام لمقتل 300 كردي في منجم تركي وقوله إن مثل هذه المآسي شائعة في العالم؛ التصريحات المفاجئة عن وجود مساجد في أمريكا قبل كولومبوس؛ تشييد قصر رئاسي يفوق قيمة البيت الأبيض بعشرات الأضعاف، على محمية طبيعية تاريخية؛ تعيين مُستشار له ادعى بأن مخابرات غربية حاولت اغتيال سيده بواسطة التحريك العقلي (تحريك الأشياء بقوة التفكير)؛ مشاريع ضخمة، فيها جنون عظمة تتضمن شق قناة موازية للبوسفور وإنشاء مسجد جديد، من أكبر المساجد في العالم، على أعلى تلة في إسطنبول؛ اتهام الشاب باركين ألفان، الذي أصيب بقنبلة غاز في رأسه مباشرة، بانتمائه لتنظيم إرهابي. تتطور هذه القائمة من يوم إلى يوم أكثر فأكثر.
هل فقد أردوغان رشده بالفعل؟ يصعب التكهن بذلك اعتمادًا على هذه الدلالات. لا شك أنه يعاني من أزمة نفسية ما، ربما مزيج ما بين الرهاب وجنون العظمة من النوع الشائع لدى الحكام السلطويين. إلا أن هذه التصريحات تُشير إلى رغبة طبيعية بالانتقام – الانتقام ضد التحقيقات والادعاءات والمقالات الصحفية التي أدت إلى كشف أكبر عملية فساد قام بها هو وأولاده؛ الانتقام للكشف المُبكر عن هدفه الحقيقي – إعادة التدين إلى تركيا وإعادة الروح العُثمانية، الأمر الذي أدى إلى انطلاق احتجاجات ضد سياسته؛ انتقام من القوى التي قطعت عليه خطواته نحو الارتباط بالعالم العربي على أساس أن يكون الراعي والمربي والقائد. بدأت كل هذه المُخططات التي تم وضعها وإدارتها بشكل دقيق تفقد قوتها.
https://www.youtube.com/watch?v=nFuBoxqGxE8
بات الكثير من المواطنين الأتراك يُدركون أن أردوغان يقود تُركيا إلى تراجيديا تاريخية ولا يمكن وقفه عند حده تقريبًا. رُبما أول شخص أدرك ذلك هو الرئيس عبد الله غول الذي تقاعد في بيته وينتظر اللحظة التي يطلبونها فيه ليُنقذ الدولة. ولا يزال آخرون يؤمنون بالطريق والنهج الذي وضعه أردوغان وحزبه. إلا أنه إن كان الحديث هو عن جنون أو انتقام رئيس مُتعصب واثق من طريقه سيكون المواطنون الأتراك المتضررين الأساسيين من أمراض الحاكم.
نُشرت هذه المقالة لأول مرة في موقع Can Think