لم يتسن لي أن أكتب في الصحف العربية كثيراً لعدة أسباب، منها أنّ العربية ليست اللغة التي أجيدها بطلاقة لحد الكتابة، ثم أن هناك حاجزًا كبيرًا لدي يجعلني لا أثق كثيراً فيما تنقله الصحف العربية عموماً، باعتبار المواقف العربية السلبية تجاه القضايا السودانية. قطر والسعودية نموذجان. أما بالنسبة للدول والشعوب العربية، فدعمها للسودان يرتبط بالعروبة أو الإسلام. تحدُّثي العربية وانتمائي الإسلامي لا يطمسان هويتي. بُذرت أفريقيٌا، وُلدتُ افريقيٌا، ترعرعتُ افريقيٌا، فأنا أفريقيٌ زنجيٌ.
ثمة شرفاء عرب متحررون يدعمون ثورات البسطاء والحقوق المدنية للشعوب المضطهدة، فلهم المجد والاحترام. ولكن في هذه النافذة قصدتُ أن أعلق قليلا عن تجربتي الشخصية وتسليط الضوء على ما يجري في الساحة السياسية السودانية.
ابتدأت تجربتي كلاجئ سياسي بعد فراري من الإقليم المنكوب، إقليم دارفور السوداني جرّاء التطهير العرقي والإبادة الجماعية ضد الإثنيات الأفريقية بغرض طمس الهوية الأفريقية، واستبدالها بهوية عربية إسلامية وتأسيس بؤرة للإرهاب لزعزعة أمن العالم واستقراره.
في منتصف العام 2002 بدأ النظام الاستبدادي في الخرطوم بتجييش المجموعات العربية وحشدها ضد السكان الأصليين ذوي الأصول الأفريقية. وكان ذلك بهدف إحداث شرخ، وفتك النسيج الاجتماعي بين المكونات الدارفورية المتعايشة سلمياً والمتصاهرة. وهنا أريد أن أوضح نقطة في غاية الأهمية للقرّاء، وهي أنه ليست لدينا مشكلة مع الإثنيات العربية كأعراق، فكان التصاهر والتزاوج — أخت أمي متزوجة لعربي فأنجبت حسناً وحسيناً سارة ومبارك وآخرين لا أعرفهم.

أنا أؤمن أن العرب في السودان أصبحوا جزءًا من التركيبة السكانية للوطن الكبير. فنحن نحتاجهم وهم يحتاجوننا والأهم من كل هذا هو أن الوطن يحتاجنا جميعاً أو بالأحرى لا يوجد هناك “نحن وهم”.
الاضطهاد المنهجي الذي يمارسه الحزب الحاكم “المؤتمر الوطني” أو اللا وطني للدقة، أجبر العديد و”المحظوظين” من أبناء وطني إلى الفرار بحثاً عن الملاذ الآمن، بدءًا بالكهوف وقمم الجبال مرورًا باللجوء إلى بلدان أخرى. وهناك من فقدوا حياتهم إمّا قصفًا بالأسلحة الروسية والصينية وإمّا ابتلعتهم أسماك القِرش في البحر المتوسط. أما الذين ما زالوا يكافحون داخل البلاد فهم إمّا معتقلون أو عرضة للاغتيال السياسي، والأبنوسي عاصم عمر نموذجا.
عاصم عمر الذي أدين بجريمة قتل ينعدم فيها اأحد أهم أركان قيام الجريمة، وهو جثمان المقتول — كل مبتدئ في القانون يعرف ذلك. أتساءل مستغرباً: كيف تثبت جريمة قتل دون وجود جثمان المقتول؟ أي قانون هذا وأي عدل؟ إن محكمة عاصم لا تهدف إلى تحقيق العدالة، ولا لمنع الجريمة، إنما كانت لأن عاصم افريقيٌ زنجيٌ حر. محاكمته تمثل امتدادا للقمع والاضطهاد على أساس العرق والرأي السياسي، وإلاّ لماذا لا نرى محاكمة رؤوس الدولة؟ ابتداءً من رئيسها المطلوب لدى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي لإرتكابه جرائم حرب، وتطهير عرقي وإبادة جماعية؟ قضية عاصم هي امتحان حقيقي للشعب السوداني، ولأسفي كما قال صديقي فإن المشكلة السودانية لا تكمن في عمر البشير ونظامه وإنما المشكلة هي في “عمر البشير المجتمع”، فإذا انتهينا من “البشير الرئيس” يبقى “البشير المجتمع”. كيف لنا أن نعيش في بلد كهذا؟ لجؤنا هو نتاج طبيعي لذاك الواقع.
اللجوء إلى إسرائيل

ورد مصطلح اللجوء لأول مرة إبّان الحرب العالمية الثانية 1945. وكان تعريفه مختصر جدا ليشمل ضحايا النازية فقط، ولتوالي الكوارث والحروب، وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة آنذاك على إعادة صياغة المصطلح ليصبح اللاجئون هم: “الذين يستحقون الحماية نتيجة للإضطهاد (persecution) بسبب العرق أو الدين أو الجنسية أو الانتماء إلى فئة اجتماعية معينة أو رأي سياسي”.
أثار اللجوء السياسي، تحديداً إلى إسرائيل، ضجة صاخبة. منهم من وصفنا بالخونة ومنهم من قال “هؤلاء عملاء لإسرائيل لأنهم يعتبروننا عربًا ومسلمين. انتقدوا لجوءنا إلى إسرائيل، ولكنهم صمتوا عند ترحيل وقتل السودانيين في مصر والأردن، هؤلاء تنقصهم الجرأة في أن يتحدثوا عن المجازر والملاحقة التي يتعرض لها هامش الشعب من دارفور، جبال النوبة، والأنقسنا في جنوب النيل الأزرق.
عادةً ما نُسْأَل عن موقفنا عن القضية الفلسطينية والتطبيع. كمدافع عن حقوق الانسان ليس من اهتمامي أن أعبر عن المشكلة السياسية في إسرائيل أو فلسطين فلدي ما يكفيني وأكثر وموقفي دائماً ثابت — أتألم كثيراً لمعانة المدنيين العزل أينما وجدوا، فلسطينيين كانوا أم إسرائيليين، صوماليين أم بورميين. أتحدث دائماً عن العدالة والمساواة. أتحدث عن العنصرية في كل مكان حتى في إسرائيل، وفي المقابل أنا ممتن لإسرائيل لحمايتي وحضني رغم تجربتي وأمثالي في البحث عن الحرية والاستقرار.
لنا تجارب أقل ما نصفها بالقاسية مع مصر والأردن، لا تكفي المساحة لسردها. لا اقصد بكلماتي هذه النيل من العرب أو التمجيد لإسرائيل، ولكن هي تجربتي ورأيي. وهنا لا بد من التوقف قليلاً عما يدور الآن في الساحة السياسية السودانية والعربية فيما يتعلق بمسألة التطبيع التي أثارها وزير الاستثمار السوداني، مبارك الفاضل. تصريحات مبارك الفاضل وردود فعل الشارع السوداني يدل على تطور ملحوظ نحو التحررية والتقدمية (liberalism & progressiveness). مبارك الفاضل هو من البرجوازيين أبناء المركز الذين ساهموا في خلق وتعميق جراح الشعب السوداني. استفزني كثيراً حينما قال “أبناء دارفور يعيشون في إسرائيل فأين تكمن المشكلة؟”.
السودانيون في إسرائيل ليسوا فقط من دارفور، وإنما من كل بقاع الدولة السودانية بأكملها، الذين اشتد بهم الاستبداد والبطش ولَم يكن أمامهم خيار، سوى الفرار.
التطبيع مع اسرائيل حتمي وضروري وسنعزز من ذلك وهنا الفضل يرجع إلى المناضلين من أبناء وطني الموجودين في إسرائيل، أقول لهم افتخروا — فأنتم دهستم الحاجز التاريخي المبني على العاطفة والبغضاء وليس على المنطق والسلام. اذا كان السودان دولة ذات سيادة فنحن السودانيون من نحدد مصالحنا ولا أحد غيرنا. علاقاتنا الدولية لا تبنى على الكراهية لأننا ضحاياها وإنما على التسامح و السلام اللذين نأمل إليهما.
السؤال الآن ليس التطبيع مع إسرائيل، ولكن هل التطبيع مع السودان ممكنٌ السودان ليس دولة بمفهومها القانوني، ليس لها سيادة كمكون أساسي للدولة. مقاطعة السودان وفرض العقوبات الاقتصادية ضرورة ملحة للحفاظ على الأمن والسلم الدوليين. إسرائيل استقبلت ضحايا إبادة جماعية وبالتالي لا يمكنها أن تطبّع مع مرتكبيها — نحن الهامش من نحدد متى ومع من يتم التطبيع، عندئذٍ سنسمح لإسرائيل بفتح سفارتها جنبًا إلى جنب مع السفارة الفلسطينية والأردنية في الخرطوم ونكون وسيطاً للسلام بينها والدول العربية.