إحدى مميّزات الجنس البشري هي أنه دائما يقف منتصبا على رجلين. ميزة أخرى هي أنّ عينيه ترتفع دائما إلى الأعلى، تسعى للوصول إلى مكان أعلى، بعيدا عن الأرض وقريبا أكثر إلى السماء.
البناء المرتفع ليس مجرّد مسألة عملية وإنما هو أيضًا عمل يعبّر عن التوق الإنساني للاقتراب من السماء، ويمكننا أن نجد مباني مرتفعة على مرّ التاريخ وفي أماكن مختلفة من العالم والتي تحكي لنا عن التقنيات المختلفة التي استخدمها الإنسان من أجل بناء درج إلى السماء.
هرم الجيزة: 4,000 عام
على مدى أكثر من 4,000 عام، كان المبنى الأطول في العالم هو هرم الجيزة الذي ارتفع بطول 146 مترا. في الواقع، فإنّ هذا الهرم قديم جدا إلى درجة أنّه فقد أكثر من تسعة أمتار من ارتفاعه فقط بسبب تآكله بفعل عوامل الطبيعة.
من بنى الأهرام الضخمة في عهد الفراعنة؟ كيف نجحوا في فترة قديمة جدا كهذه أن يشيّدوا مباني ضخمة كهذه دون أدوات الرفع الحديثة؟
أحد التفسيرات، يحظى بشعبية بين النقاد الاجتماعيين والأشخاص الذين يؤمنون بما جاء في التوراة، هو اشتمال عدد غير محدود من العبيد. في المقابل، تم إنكار مشاركة العبيد في العمل من قبل دراسات أخرى والتي أظهرت أنّ الأهرام كما يبدو قد بنيت من قبل عمال أحرار وليس بأيدي العبيد.
هناك لوحة جدارية تعود إلى نحو 4000 عام تم اكتشافها في قبل أحد الحكام المصريين في عهد الفراعنة، يمكن أن نتعلم منها الكثير عن التقنية التي استخدمها المصريون.
يمكننا أن نرى في اللوحة تمثالا كبيرا محمولا على زلاجة من الخشب. يجرّ الزلاجة 172 شخصا وفي مقدّمة الزلاجة يمكننا أن نشاهد رجلا يسكب الماء أمامها. وهناك نظرية حديثة نسبيّا تفسّر استخدام المياه: فقد رطّبت المياه التراب وقللت الاحتكاك بين قاعدة الزلاجة والأرض. وليس هذا عملا سهلا أو سريعا ولكن بالنسبة لمصر، فسوى هذه التقنية المبتكرة في ذلك العهد، كان هناك موردان مهمّان: الكثير من الأيدي العاملة والكثير جدّا من الوقت.
كاتدرائية لنكولن: 1349-1549
في القرون الوسطى، كانت المباني الأطول في العالم كاتدرائيات مختلفة بنيت في أوروبا.
خلال أكثر من مائتي عام، حتى عام 1549، كان المبنى الأطول في العالم هو كاتدرائية لنكولن في شمال غرب إنجلترا. انتصبت الكاتدرائية على ارتفاع يصل إلى نحو 160 مترًا وخلّفت الأهرامات وراءها. ومع ذلك، من الجدير ذكره أنّه بينما احتاج بناء هرم الجيزة الكبير نحو 20 عاما، فقد تطلّب بناء هذه الكاتدرائية أكثر من 200 عام. عام 1549 انهار أعلى برج في الكاتدرائية وفقدت لقب المبنى الأطول في العالم، ولكنها كانت لا تزال المبنى الأطول في أوروبا.
كانت الكاتدرائية أكثر من مجرد مكان للصلاة، فقد كانت تعبيرا حقيقيا عن مدينة الله، للقدوس، للسماء نفسها، داخل البلاد. كانت أكثر من مجرد درج للسماء، فقد كانت السماء نفسها، هنا في عالم البشر. تمّ بناؤها وفقا لقواعد لاهوتية، وأفكار روحانية ووفقا للتصور الديني للمسيحيين في القرون الوسطى. التقنية، الهندسة والمعمار كانت تهدف إلى خدمة تلك الأفكار والتعبير الحقيقي عنها بالحجر والخشب والزجاج.
برج إيفل: 1889 – 1929
لم يعد منذ زمن أطول مبنى في العالم، فقد كان كذلك فقط لمدى 40 عاما، حتى عام 1929، ولكنه لا يزال واحدا من أكثر المباني شهرة في العالم.
مقارنة مع الكاتدرائيات، فهو إعجاز من العمل بكفاءة، بشكل وجيز وغير مكلف. تم بناء البرج الذي يبلغ طوله 324 مترا خلال عامين فقط، وشارك في بنائه 300 عامل فحسب. تم استخدام الحديد الخفيف بشكل ثوري في بنائه وبأساليب بناء مبتكرة. حرص غوستاف إيفل، المهندس الذي صمّم ووقف وترأس أعمال البناء، على قواعد سلامة صارمة وبفضل ذلك قُتل عامل واحد فقط خلال البناء. كان البناء مبتكرا جدا بحيث ظنّ الكثيرون بأنّه عبارة عن فشل أو كارثة في انتظار الوقوع. بل نشرت إحدى صحف المدينة في أحد الأيام خبرا، صدّقه كثيرون، بأنّ إيفل قد عولج في مستشفى المجانين.
مبنى كرايسلر وإمباير ستيت: 1929-1967
منذ نهاية عام 1929 وحتى عام 1967 كان المبنى الأطول في العالم يقع في مدينة نيو يورك. كان في البداية هو مبنى كرايسلر المزيّن الذي أمسك باللقب خلال أكثر من عام بقليل. بعد ذلك كان هو مبنى الإمباير ستيت، الأقل جمالا ولكن الأكثر ارتفاعا والذي أمسك باللقب من أعلى مائة وثلاثة طوابق وطوله يصل إلى 380 مترا، لا يشمل الهوائي.
اصطدمت به منذ بنائه إحدى الطائرات (في عام 1945 اصطدمت بالمبنى قاذفة قنابل وقتلت 14 شخصا) وحاول أكثر من 30 شخصا – ونجح معظمهم – الانتحار عبر القفز منه. إلى جانب ذلك، فقد أصبح أيقونة ثقافية وظهر في عشرات الأفلام وبرامج التلفزيون. حرمتْه ناطحات سحاب أخرى في أماكن أخرى في العالم من لقب المبنى الأطول في العالم، ولكنه لا يزال المبنى الأطول في نيو يورك.
لقد تمّ تشييد مبنى إمباير ستيت في وقت أصبح فيه التوثيق بالكاميرات مسألة يومية وترك مصوّرو الصحف في ذلك العهد من أجل التاريخ عددا غير قليل من الصور التي تقطع الأنفاس لحرفة بناء ناطحة السحاب تلك. قدّم بناء ناطحة سحاب أخرى، وهي مبنى RCA، للعالم واحدة من أشهر الصور في التاريخ.
في ذروة العمل، عمل أكثر من 3500 عامل على بناء مبنى الإمباير ستيت في آنٍ واحد، وقُتل 6 عمّال خلال البناء. كانت تلك هي سنوات الكساد الكبير ووافق العمال على العمل مقابل رواتب هزيلة في عمل أكثر خطورة، وغالبا دون ضمانات مناسبة. شارك الكثير من المهاجرين في البناء أيضًا، وخصوصا من أوروبا. ولأنّ المبنى كان مرتفعا جدّا، لم يستطع العمال النزول إلى الأسفل في استراحة الغداء؛ لقد أكلوا (وُضع في بضعة طوابق كشك للطعام لمن يرغب بشراء شطيرة أو كعكة) واستراحوا على الهياكل الفولاذية، على مسافة بعيدة أعلى المدينة.
المبنى الأطول في العالم يقع في…
اليوم، المبنى الأطول في العالم هو برج خليفة في دبي. وهو يرتفع على علوّ 828 مترا، وفيه 126 طابقا وكلّف أكثر من مليار ونصف دولار.
ولكن هناك مبنى أطول هو الآن قيد الإنشاء في مدينة جدة الواقعة غرب السعودية. وهو “برج المملكة” الذي من المتوقع أن يتم الانتهاء من بنائه عام 2019. ارتفاعه الدقيق مُحتفظ به كسرّ، ولكن سيكون قريبا من نحو 1000 متر؛ المبنى البشري الأول الذي يصل إلى ارتفاع كيلومتر على الأقل.
السماء هي – كما يبدو – الحدود.