ساهمت عوامل متنوعة في اندلاع الثورة الشعبية في سوريا ودول عربية أخرى، ولكن أحد العوامل المركزية بشكل خاصّ، إن لم يكن العامل الرئيسي، هو السعي إلى حياة كريمة وتحسين الحالة الاقتصادية. لقد اعتمدت الأنظمة العربية الجمهورية التي تأسست في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي على سياسات اقتصادية شعبوية وفّرت ظروف معيشة أساسية من خلال الدعم الحكومي للسلع الأساسية، الخدمات العامة على المستوى الأساسي والوظائف في القطاع العام الضخم.
بدءًا من الثمانينيات، أجبرت الصعوبات الاقتصادية الأنظمة العربية على تقليص سياسات الرفاه واعتماد سياسات ليبرالية جديدة تضمّنت الخصخصة وخفض الدعم الحكومي والخدمات التي وفرتها الدولة لمواطنيها. بسبب الفساد الكبير، تمّت خصخصة الخدمات بشكل يفيد فقط المقرّبين من السلطة. وأدى اعتماد السياسات الليبرالية الجديدة إلى نموّ اقتصادي، ولكن المتمتّعين من ثماره كانت طبقة ضيّقة من النخبة وأبناء الطبقة المتوسطة العليا. إنّ عدم المساواة بين المواطن العادي وبين المقرّبين من السلطة، والذين كانوا في الحالة السورية في معظمهم من أقارب الأسد أو المسؤولين في حزب البعث، أصبح بارزا بشكل خاصّ. في عهد الأسد الابن تزايدت اتجاهات التحرّر الاقتصادي بشكل أكبر، بالإضافة إلى تقليص الدعم الحكومي والخصخصة، كما حدث أيضا في ظلّ حكم زعماء شباب آخرين في الشرق الأوسط.
لقد أضرّت السياسات الليبرالية الجديدة، بشكل طبيعي، ولا سيما بالطبقات الضعيفة التي كانت تميل إلى العيش في المناطق الريفية في الأطراف السورية. عام 2005 ضرب سوريا قحطٌ استمرّ لخمس سنوات. تسبب النظام في أزمة في قطاع الزراعة والمراعي ويبدو أنّه كان السبب الرئيسي لها بسبب السياسات طويلة الأمد والفاشلة لإدارة الموارد المائية في البلاد، نقل الأراضي الأكثر خصوبة إلى المقرّبين من النظام، مصادرة الأراضي من أيدي أصحابها البدو وخفض الدعم الحكومي في القطاع الزراعي في ذروة الأزمة عام 2008. انكمش القطاع الزراعي بشكل ملحوظ؛ فقد 800,000 شخص مصدر معيشتهم واضطروا إلى مغادرة منازلهم في شرق سوريا والهجرة إلى الأحياء الفقيرة في ضواحي المدن مثل دمشق، درعا وحمص.
في آذار عام 2011 وصل “الربيع العربي” إلى درعا. وسرعان ما امتدّت المظاهرات إلى دمشق وضواحيها، إلى الأحياء الفقيرة في حمص وبعد ذلك إلى سائر سوريا. شكّل العمال، الفلاحون، العاطلون عن العمل والفقراء العمود الفقري للثورة، وكما انضمت أحياء الطبقة الوسطى السنية في دمشق، حمص ومدينة اللاذقية أيضًا إلى المظاهرات. كانت قيادة الاحتجاجات والناشطون الأبرز في معظمهم من الشبات المتعلّمين، من أبناء الطبقة الوسطى. بقيت النخبة السنّية منقسمة حتى اليوم: بعضها يمنح دعما اقتصاديا كبيرا للثوار والمواطنين الذين يعيشون تحت حكمهم، في حين أنّ آخرين ظلّوا يدعمون النظام الذي رعاهم. ونفر كثيرون آخرون سواء من النظام الوحشي أو من الثوار الإسلاميين.
لم ينضمّ جميع أبناء الطبقات الضعيفة إلى الثورة. رغم أنّ معظم أبناء طائفة النظام، العلويون، قد عانوا هم أيضا من آثار السياسات الليبرالية الجديدة والقحط، فلم تنضم غالبيّتهم إلى الثورة. وذلك بفضل الدعاية المكثّفة لنظام الأسد والتي هدفت إلى عرض الثورة، منذ أيامها الأولى، كمؤامرة أجنبية وثورة دينية، سنية ومضادة للعلويين بطبيعتها.
حتى شهر حزيران عام 2011 حافظت الثورة على طابعها المدني، غير العنيف، بل حاول المتظاهرون جاهدين إقناع الأقليات بأنّهم يريدون سوريا ديمقراطية وتعددية. ولكن المظاهرات لاقت القمع الشديد من قبل النظام، مما أدى إلى تصعيد الاحتجاجات. خلال عام 2012 بدأ المتظاهرون بحمل السلاح، وانضمّ منشقون من جيش الأسد إليهم، وأصبحت أكاذيب الأسد نبوءة حقّقت ذاتها. في نهاية المطاف كان أبناء الطبقات الضعيفة هم غالبية الثوار في سوريا.
يعيش العمّال، الفلاحون والفقراء، بغالبية ساحقة، في المناطق التي طُرد منها الجيش السوري ومساعديه. أحد النماذج البارزة لذلك هي مدينة حلب المقسّمة بين الغرب، الذي يعيش فيها أبناء الطبقة الوسطى تحت حكم النظام، والأحياء الفقيرة في شرق المدينة التي تحكمها مجموعات الثوار المختلفة. تقع المناطق التي يحكمها الثوار تحت هجمات جوية سورية وروسية (وإن كانت المناطق التي تقع تحت سيطرة داعش تعاني بشكل أقلّ من تلك الهجمات الجوية)، ولذلك فإنّ معظم النازحين واللاجئين يأتون منها.
ينقسم النازحون واللاجئون هم أيضا على أساس طبقي. أبناء الطبقة السورية الوسطى-العليا فقط يمكن أن يسمحوا لأنفسهم بالذهاب إلى أوروبا؛ وقد فرّ معظمهم تحديدا من مناطق مدنية خاضعة لسيطرة النظام، مثل دمشق، بسبب مستوى الحياة المتدهور والرغبة بالفرار من الخدمة العسكرية في جيش الأسد. يذهب أبناء الطبقة الوسطى أيضا إلى البلدان المجاورة لسوريا: تركيا، لبنان والأردن، حيث يعيشون هناك في المدن الكبرى ويندمجون في الاقتصاد المحلّي. يعيش أبناء الطبقة الوسطى الذين أصبحوا فقراء بسبب الحرب في الغالب بالمدن الواقعة على الحدود مع سوريا ويعملون في مهن يدوية كالبناء والزراعة. ويعيش اللاجئون الأكثر فقرا في البلدان التي فيها مخيمات منظّمة للاجئين. أما السوريون الذين ظلّوا يعيشون في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، سواء في منازلهم الأصلية أو كنازحين، فهم في الغالب فقراء جدّا بحيث لا يستطيعون حتى الذهاب إلى الدول المجاورة. ويضاف إلى ثمن السفر إلى الحدود، الذي يعتبر هو أيضا باهظا جدا بالنسبة لبعضهم، في الوقت الراهن دفع المال للمهرّبين، لأنّ جميع البلدان المجاورة قد أغلقت حدودها.
كان أفراد الطبقات الضعيفة في سوريا هم الضحايا الرئيسيين للقضاء على شبكة الأمان الاجتماعي التي وفّرها نظام الأسد لمستحقيها. عندما جرأوا على أن يثوروا على عدم المساواة والفساد الكبير عوقبوا بشدّة – بالقتل الجماعي، بقصف مدنهم وقراهم وتهجيرهم عن منازلهم. كلاجئين وكنازحين فهم مستمرون الآن في المعاناة أكثر من الجميع؛ إذ ليس باستطاعتهم الذهاب إلى دولة تمنحهم فرصا لتحسين مستقبلهم وهم يعيشون في فقر مدقع، سواء في مخيمات اللاجئين في تركيا، أو في وسط القصف في شرق حلب أو في أماكن سكن بدائية في لبنان. سيضطر الجيل النازح والضائع الذي نشأ في مثل هذه الظروف إلى أن يواجه أيضًا صعوبات أكبر من تلك التي واجهها آباؤه.
نشر هذا المقال لأول مرة في منتدى التفكير الإقليمي