في نهاية عام 1941 أدرك النازيون أنّ طريقة القتل في حُفر القتل ليست فعّالة بما فيه الكفاية: إنها بطيئة ومكلفة جدّا، وفي بعض الأحيان شعر الجنود الألمان الذين شاركوا فيها بعبء نفسي. لذلك بدأ الألمان بدراسة طرق قتل أكثر فعالية.
معسكرات التركيز والعمل
حتى المرحلة التي بدأ فيها النازيون بالإبادة الجماعية الموجّهة لليهود، سُجن معارضو النظام، الشيوعيون، أسرى الحرب، غير الاجتماعيين وفي مراحل متأخرة أكثر كان اليهود أيضًا، في معسكرات الاعتقال. أقيم المعسكر الأول منذ عام 1933 مع صعود النازيين إلى الحكم، في داخاو قرب ميونيخ.
بعد اندلاع الحرب، فرض الألمان أعمال السخرة على اليهود، البولنديين ولاحقا على المواطنين في جميع البلدان التي تم احتلالها. ومن أجل ذلك فقد أقيمت المئات من معسكرات العمل. وحوّلت ألمانيا النازية اليهود إلى عبيد وسجنتهم في شبكة متفرعة من معسكرات أعمال السخرة التي امتدّت في أنحاء أوروبا كلها. وقد استُغِل اليهود لأغراض الحرب لدى النازيين، ولكن في أثناء ذلك شكّلت أعمال السخرة عديمة الرحمة وسيلة أخرى لإبادتهم. بالمجمل، فقد تمّ جلب أكثر من 14 مليون عامل بالسخرة للعمل في ألمانيا وأضيف إليهم 2.5 مليون من أسرى الحرب.
عمل في معسكرات التركيز والعمل اليهود الذين كانوا على حافّة المجاعة، وفي ظروف غير إنسانية. تم افتتاح كل يوم بترتيب اضطرّ فيه الأسرى إلى الوقوف صامتين دون التحرك، وفي بعض الأحيان على مدى ساعات طويلة في ساحة الترتيبات، في ظروف قاسية من البرد، المطر والثلج. بعد ذلك كان الأسرى يباشرون ببدء العمل، فكانوا يعملون بكدح ويتعرّضون للعنف الشديد والتعسّف، ينتظرون وجبة هزيلة، والتي كانت تتألف غالبا من حساء مخفّف من الخضروات الفاسدة والقليل من الخبز الذي لم يكن كافيا للرجل، ومن ثم يعودون إلى المعسكر، إلى الترتيبات المسائية، وهكذا دواليك.
في أثناء الحرب أقيمت عشرات معسكرات الاعتقال والمئات من معسكرات العمل الأخرى. توفي الكثير من الأسرى نتيجة المجاعة، الأوبئة، العنف وظروف العمل القاسية. عندما بدأ الألمان بالتصفية الجماعية المنظّمة لليهود، بدأوا بإخلاء الأسرى من معسكرات الاعتقال والعمل إلى معسكرات الإبادة.
الإبادة الجماعية بواسطة الغاز
تمت التجربة الأولى للقتل بغاز زيكلون في معسكر الاعتقال أوشفيتز بين 3-5 أيلول عام 1941. أجريتْ “التجربة” على أسرى حرب روس وأسرى بولنديين، ماتوا جميعهم خلالها. تم تنفيذ القتل بواسطة هذا الغاز بشكل ممنهج منذ بداية عام 1942 وحتى تشرين الثاني عام 1944 في معسكر الإبادة أوشفيتز-بيركينو. تم قتل أكثر من 1,200,000 يهودي بهذه الطريقة وعشرات آلاف الضحايا الآخرين.
كان معسكر الإبادة الأول هو معسكر خيلمنو في بولندا، والذي أقيم في بداية كانون الأول عام 1941. في خيلمنو تم تنفيذ القتل بواسطة “شاحنات غاز”: تمت تعرية اليهود الذين طُردوا إليه، ومن ثم أُخذت أغراضهم وتم إصعادهم إلى الشاحنات التي كانت أنبوبتها العادمة موصولة بصندوق الشاحنة محكم الإغلاق. ومن ثم أغلقت أبواب الشاحنات وبدأت بالسفر إلى مكان الدفن في الغابة المجاورة. بواسطة ثلاث شاحنات غاز فقط قُتل في خيلمنو ما يقارب 300,000 يهودي ونحو 5,000 من الغجر. نجا ثلاثة يهود فقط من معسكر الإبادة هذا.
بعد أن وُضعت خطوط العمل للقتل في مؤتمر وانسي، أقام الألمان معسكرات إبادة أخرى. في آذار عام 1942 أقيمت ثلاثة معسكرات أخرى على الحدود الشرقية من الحكومة العامّة وقرب سكك الحديد: بلزاك، سوبيبور، تريبلينكا، والتي خُصّصت لإبادة اليهود الذين عاشوا في الغيتوات في بولندا ووسط أوروبا. تمت إبادة جميع اليهود الذين أُرسلوا إلى المعسكرات تقريبا بواسطة غرف الغاز، دون انتقاء. أرسِل الرجال، النساء، الأطفال والشيوخ، إلى الموت خنقًا بشكل مباشر. تم إبقاء فرق صغيرة على قيد الحياة لتعمل كـ “سوندركوماندو” – وهي وحدات صغيرة كانت مهمّتها التخلّص من جثث ضحايا غرف الغاز. في ربيع عام 1943 بدأ حرق الجثث من أجل التغطية على آثر القتل. في هذه المعسكرات الثلاثة فقط قُتل نحو 1,700,000 يهودي، معظمهم من بولندا.
أقيم مايدانيك في نهاية عام 1941 من أجل استيعاب أسرى الحرب السوفييت واستُخدم أيضًا كمعسكر اعتقال للبولنديين. عام 1942 أقيمت في المعسكر غرف غاز ومحارق وفي ربيع عام 1942 قُتل في المعسكر آلاف اليهود من أصول سلوفاكية، تشيكية، ألمانية وبولندية. عمل هذا المعسكر حتى تحرير منطقة لوبلين من قبل الجيش السوفياتي في تموز عام 1944. قُتل في مايدانيك نحو 78,000 شخص.
أقام الألمان بالمجمل ستّة معسكرات إبادة قُتل فيها نحو 3 ملايين يهودي.
آلة الإبادة الألمانية
في هذه المعسكرات، بلزاك، سوبيبور وتريبلينكا، كانت طريقة القتل مماثلة: إطلاق غاز ثاني أكسيد الكربون المنبعث من محرّكات الديزل إلى داخل الغرف محكمة الإغلاق. توفيت الضحايا التي تم حشرها وهي عارية في غرف الغاز مع المعاناة الهائلة والخانقة، ومن ثم أُلقيتْ جثثها بأيدي رجال السوندركوماندو اليهودي إلى داخل حفر ضخمة وتم إحراقها من أجل إخفاء الأدلة. امتدّت كل عملية القتل لعدّة ساعات فقط واستوعب المعسكر و “عالج” عدّة وفود يوميًّا.
كان معسكر الإبادة الأكبر هو أوشفيتز-بيركينو، الذي كان في نفس الوقت معسكر اعتقال وعمل أيضًا. أقيم معسكر بيركينو، أو أوشفيتز 2، قرب معسكر أوشفيتز. في أوشفيتز 1 كانت هناك غرفة غاز واحدة، وأقيمت في بيركينو عام 1942 غرفتا غاز صغيرتان نسبيا. خلال عام 1943 أقيمت في المعسكر أربع غرف غاز كبيرة. في ذروة القتل كان باستطاعة غرف الغاز قتل نحو 20,000 إنسان في اليوم. تم القتل في غرف الغاز في معسكر أوشفيتز-بيركينو بواسطة غاز زيكلون ب.
بحلول تشرين الثاني عام 1944 كان المعسكر “مصنعًا” للقتل الجماعي واستوعب شاحنات النقل من جميع أرجاء أوروبا. أكثر من 90% من الذين طُردوا إلى هذا المعسكر كانوا يهودا، وتم إرسالهم إلى غرف الغاز فورا. قسم صغير من الذين طُردوا فقط مرّوا بعملية الانتقاء. لدى الدخول إلى المعسكر أجريَ انتقاء للأسرى الذين جاؤوا: تم إيقاف المُحضَرين في صفّين – صفّ للرجال والشبان وصفّ للنساء والأطفال – وأجرى أطبّاء الإس إس هذا الانتقاء. تم تقرير التصنيف وفقا لمظهر الأسرى وأعمارهم وتحدد مصيرهم بشكل عشوائي: للعمل القسري أو الموت. طُلب من المحكوم عليهم بالموت خلع ملابسهم قبل دخولهم إلى غرف الغاز وكانوا يعتقدون بأنهم قد أُرسلوا إلى التطهير. تم إغلاق الأبواب لدى دخولهم وعندها بدأ ضخّ الغاز. بعد قتلهم قُلعتْ أسنانهم الذهبية من أفواههم وقُصت شعور النساء بأيدي رجال السوندركوماندو. القليل من الأسرى “اجتازوا” الانتقاء واختيروا للعمل بالسخرة في المعسكر. مات معظمهم نتيجة للعنف، الجوع، الأمراض والانتقاءات المتكررة. لقد اجتاز جزء من الذين خضعوا إلى زيارة الدكتور منجيل وفريقه، تجارب ساديّة وهم على قيد الحياة، وانتهت غالبًا بالموت المؤلم.
الوصول إلى المعسكرات
تمت عمليات الترحيل إلى المعسكرات بطريقة ثابتة، والتي سُمّيت “العمليات” (Aktion) أو بواسطة قوائم الترحيل: كان هناك أمر محلّي يأمر جميع اليهود في الغيتو، في مدينة معيّنة أو في “معسكر انتقالي”، بالذهاب إلى نقطة تجميع، والتي تكون عادة قرب القطار، وبحوزتهم القليل من الممتلكات. ومَن لم يخضع إلى الأوامر أو لم يستجب إلى وتيرة المشي، أطلقت النار عليه خلال العمليات. تم ضغط المرحّلين في محطّة القطار بشكل جماعي في عربات شحن محكمة الإغلاق، دون فتحات للتهوئة واستمرّ السفر أحيانا لأيام طويلة دون توفير الماء والغذاء، مما أدى إلى حصد أرواح الكثير من الضحايا.
لم يكن يعلم اليهود إلى أين يُرسلون، وغالبا لم يكونوا يعلمون بأنّهم سيُقتلون حتى لحظة الموت نفسها. قيل لبعضهم إنّهم مسافرون إلى معسكرات العمل في أوروبا الشرقية، واعتقد آخرون أنّهم ببساطة سينتقلون للسكن في الشرق. بل إن الألمان شجّعوا اليهود على إرسال رسائل بذلك إلى أقاربهم. عندما بدأت تُذاع الإشاعات عن وجود معسكرات الإبادة رفضت النفس البشرية تصديقها، ولم يعلم معظم اليهود بوجودها حتى وصلوا إليها بأنفسهم.