انتظر أردوغان، ترقّب، ووضع أمله في الهجوم الأمريكي. لأوّل مرة منذ فترة طويلة، ظهر مؤشر على أنّ خطاب أردوغان وحكومته المضادّ لسوريا سيحظى بدعم عسكري دولي هام، وهو دعم كان سيقلّص الفجوة بين التوق التركي الشديد لإسقاط الأسد والعجز عن فعل ذلك.
في الأيام التي بدا فيها الهجوم الأمريكي تحصيل حاصل، حرص المتحدثون باسم الحكومة التركية على نقل رسالة واضحة للأمريكيين. لا تكتفي تركيا بهجوم محدود أو موضعي. فهي معنيّة بعملية واسعة تؤدي إلى إسقاط الأسد.
ولكن في النهاية، لم يحدث أي هجوم، لا محدود، ولا واسع. تلقى الأتراك الاتفاق الأمريكي الروسي بمشاعر مختلطة. كانت خيبة الأمل واضحة، وعبّر عنها علنًا نائب رئيس الحكومة التركية، بولنت أرينتش، الذي عبّر عن أسفه للقرار الأمريكي بالامتناع عن الهجوم، داعيًا إيّاه خطأً.
بالإضافة إلى ذلك، تعبّر الحكومة التركية عن ارتيابها حيال جدية نوايا الأسد بتطبيق الاتفاق. وتدّعي تركيا أنّ الأسد لم ينفّذ التزاماتٍ سابقة طيلة فترة الحرب الأهلية السورية، لذا لا يجب توقّع انتهاجه سلوكًا مغايرًا هذه المرة. فضلًا عن ذلك، يقول الأتراك، مكّن الاتّفاق الأسد من ربح الوقت، مواصلة الإمساك بدفة القيادة، وذبح المزيد من أبناء شعبه.
وشدّد مسؤولون أتراك، على رأسهم أردوغان، أنّ الاتّفاق لا يحلّ الأزمة في سوريا ولا يوقف سفك الدماء فيها، الذي لا ينتج معظمه عن سلاح كيميائي. “على النظام السوري أن يدفع ثمن جرائمه ضدّ الإنسانية”، كرّر أردوغان في خطاب ألقاه في 11 أيلول.
لكنّ تركيا وجدت أيضًا بصيص أمل في الاتفاق الأمريكي – الروسي. فمنذ سنوات، تدعو تركيا إلى تجريد الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل. لذا، رأت تركيا الاتفاق بخصوص تفكيك السلاح الكيميائي السوري خطوةً في الاتّجاه الصحيح، رغم أنها لا تحلّ الأزمة في سوريا، فهي تدعم سياسة تدعو إليها تركيا، كما تعزّز مصالح هامّةً لها.
لذلك، تطلب تركيا من الغرب بلورة برنامج واضح لاحتمال عدم تنفيذ الأسد الاتفاق الأمريكي – الروسي، وتوضيح ماهيّة العقوبات الجوهرية التي سيفرضها المجتمع الدولي على النظام السوري في حال خرق الاتفاق، من الآن. وقد تصدرت هذه المطالب اللقاءَ الذي عُقد في باريس في 16 أيلول بين وزراء خارجية الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، وتركيا.
لكنّ الدبلوماسيةَ شيْءٌ، والواقعَ شيءٌ آخر. ففيما يجري القادة الأتراك محادثات مع نظرائهم الغربيين، فعلى أرض الواقع – يستمر الوضع بين سوريا وتركيا بالتدهوُر. فقد أسقط الجيش التركي مروحية سورية اخترقت الأجواء التركية. لم يمرّ يومان، حتى انفجرت سيارة مفخخة على معبر حدودي بين سوريا وتركيا، ما أدّى إلى مقتل سبعة أشخاص.
يؤدي تدهور العلاقات هذا إلى زيادة مأزق أردوغان حيال كيفية التصرف في الشأن السوري، إذ أزيحت إمكانية هجوم أمريكي عن الطاولة. يحظى أردوغان بدعم أمريكي للردود العسكرية التي يقوم بها على التحرش السوري. ربما ثمة من يأمل في الولايات المتحدة أن تقوم تركيا، في نهاية الأمر، بمهاجمة سوريا.
في هذا الشأن، الأتراك ثابتون. فمنذ بداية الأزمة السورية، أوضحت تركيا أنها ستدعم عملًا عسكريًّا دوليًّا ضدّ سوريا وتشارك فيه، لكنها لن تتصرف بمفردها. تدعم تركيا بثبات قوات المتمردين في سوريا، ويُتوقّع أن تزيد دعمها هذا في المستقبل، لكنها غير معنية بمغامرة عسكرية.
ليس هذا موقفَ أردوغان فحسب، بل معظم الشعب التركي أيضًا. ففي الاستطلاع الدولي السنوي الخاص بـ German Marshall Fund، والذي نُشرت نتائجه في 18 أيلول، يتبين أنّ 72 في المئة من الأتراك يعارضون تدخّل بلادهم عسكريًّا في تركيا. عام 2012، كان 57 في المئة يعارضون تدخلًا كهذا. فكلما تفاقمت الأزمة في سوريا، قلّت رغبة الأتراك في التدخل فيها.
وأظهر الاستطلاع أيضًا أنّ الأتراك يفضّلون الديمقراطية في الشرق الأوسط (57 في المئة) على الاستقرار (28 في المئة). وفيما سوريا بعيدة عن الديمقراطية والاستقرار على حدٍّ سواء، يستمرّ الشأن السوري في التحوّل إلى عامل مركزي أكثر فأكثر في السياسة الداخلية التركية. وهذا صحيح على الأخصّ مع اقتراب المعارك الانتخابية (الانتخابات المحلية، الرئاسية، والعامة) أكثر فأكثر.
وتزداد حدّة المواجهات الكلامية في هذا الشأن بين أردوغان والحزب الرئيسي في المعارضة (حزب الشعب الجمهوري). تدعو المعارضة أردوغان وحزبَه (العدالة والتنمية) محرضَين على الحرب، على ضوء دعمهما عملًا عسكريًّا أمريكيًّا. في العدالة والتنمية، بالمقابل، يتهمون المعارضة بدعم نظام الأسد والجرائم التي يرتكبها. “أين كُنتم حين قُتل 110،000 شخص؟”، هاجم أردوغان معارضيه، وشدّد على أنّ حزبه يدعم المعارضة السورية من صميم قلبه.
منذ مدة، يبحث أردوغان عن شركاء للسياسة التي ينتهجها ضدّ الأسد، ليس في الداخل فحسب، بل في الخارج أيضًا. فمنذ وقت طويل، يسعى إلى فهم هل إسرائيل حليف له في هذا الشأن أم لا. أرخى الغموض الإسرائيلي خلال السنتَين الماضيتَين ستارًا من الضباب، وصعّب ترميم العلاقات الإسرائيلية – التركية. لم تدرِ القيادة التركية إن كانت وإسرائيل تتشاطران مصلحة مشتركة في موضوع هامّ جدًّا هو الشأن السوري، أم إن كانت كلٌّ من الدولتَين على جانب مختلف من المتراس.
وإذا بسفير إسرائيل في الولايات المتحدة مايكل أورن، في مقابلة بمناسبة عيد المظال (سوكوت) مع صحيفة جيروزاليم بوست، يقول فجأةً، بكل وضوح، إنّ إسرائيل معنيّة بسقوط الأسد. وأضاف السفير أنّ إسرائيل كانت في الواقع معنية بذلك منذ بدء الحرب الأهلية السورية، وذلك بسبب علاقات الأسد بإيران.
لا بدّ أنّ أنقرة ستنظر إلى هذه التصريحات باستحسان، رغم النفي الذي سارع إلى نشره مكتبُ رئيس الحكومة. يمكن أن تُستبدَل خيبتا الأمل التركيتان بدايةَ هذا الشهر بآمال في تعاون استراتيجي قديم – جديد مع إسرائيل في مسعى لإسقاط الأسد. ربما يجري الآن دفع جهود إحداث خرق في المفاوضات بين إسرائيل وتركيا بشأن التعويضات لضحايا الأسطول قُدُمًا.