لا تُثير العشرُ سنوات التي مرّت على موت ياسر عرفات لدى الإسرائيليّين توقًا شديدًا، وخاصة لشخصية الرئيس. لم تكن السنوات التي يقود فيها خليفتُه، محمود عباس، المعسكر، الذي ما زالَ مُرتبطا ووليفا للحركة الوطنيّة الفلسطينيّة – بينما خرجت حماس بصورة شبه نهائيّة عن سيطرة وتأثير السلطة – بالضرورة أسهلَ لكلا الشعبين. لكن على الأقل، لوحظَ في هذه الفترة هبوطٌ بحدّة العنف في الضفة الغربيّة وفي نطاق أراضي الخط الأخضر، والذي يُمكن عزو قسم منه لعبّاس، الذي يبتعد عن الإرهاب بشكل عامّ.
يُثير عبّاس غضبَ حكومة نتنياهو إثرَ خطاباته التي امتلأت بالرثاء والانفعال القوميّ المُفرط في الأسابيع الأخيرة، على خلفيّة الأزمة في القدس. وُجّهت صور الغضب أيضا إزاء التعازي والإشادات التي قدّمها مكتب الرئيس لعائلة الإرهابيّ الذي حاولَ تهديد حياة يهودا غليك والذي أُرديَ قتيلا على يد وحدة “اليمام”. لكن بتهجُّم رئيس الحكومة ووزرائه على الرئيس الفلسطينيّ هذا الأسبوع، وبالتُّهم التي ألقوْها عليه كمسئول عن الهجمات والعمليّات التخريبيّة في العاصمة، تم بطريقة ما تناسي الحقيقة بأنّ السلطة ما زالت تبذل جهودا جليلة لكبح انتشار عمليّات العنف في الضّفة.
بأي حال، لا منطقَ بالمُقارنة بين المعيار أو النموذج المُضاعَف الذي يُبديه عبّاس الآن وبين سُلوك ربّ آباء النظام، عرفات. لم يكنّ عبّاس إرهابيّا أبدا بذاته. والادعاء بأنّه يُحفّز بشكل مُباشر للإرهاب هو أيضا من الصعب تأكيده.
مع ذلك، فإنّ الرئيس الفلسطينيّ الحاليّ يُعبّر عن دعمه مرارًا بما يُسمّيه “المُقاومة الشعبيّة السلميّة”. هذا هو ما يُسمّى بنموذج بلعين، الذي اتّبعه ونّفذه الفلسطينيّون بنجاح في الميدان الدوليّ. في حين أنّ الفجوة المُتعمّدة بتعريف الضوابط المقبولة للطرفين –ما هي المقاومة الشعبيّة المشروعة؟ ما هو الإرهاب؟- هو أحد النقاط المحوريّة لإحداث الانقسامات والنزاع. إذ أنّ الإسرائيليّين صارمون أما الفلسطينيّون فينظرن إليه بتساهل. حيث أنّه من وجهة نظر الجمهور الإسرائيلي، فإنّ رميَ حجر هو عمل إرهابيّ أيضا. بينما بالنسبة لمُعظم الفلسطينيّين، فإنّ إطلاق النار على جنديّ هو وسيلة لمُقاومة مشروعة.
يُمكن تقسيم علاقة الإسرائيليّين بعرفات إلى ثلاث فترات رئيسيّة: منذ إنشاء حركة فتح في سنوات الستينات وحتى توقيع اتفاقيّة أوسلو عام 1993، فترة أوسلو حتى أيلول عام 2000، والسنوات الأربع بين نشوب الانتفاضة الثانية وموت الرئيس في تشرين الثاني 2004. في الحقبة الأولى، التي تخللت سنوات خطف الطائرات، مجزرة الطريق الساحلي وحرب لبنان الأولى، كان عرفات أبغض الأعداء. ووفق كلام مناحم بيجن، فقد كان عرفات قائدَ منظمّة القتَلة المُلقّبة بمنظّمة التحرير الفلسطينيّة، والرجلَ ذا الوجه المليء بالشعر. مثّلت سنوات أوسلو لبرهة من الزمن بصيصَ أمل للإصلاح والترضية. حتّى أنّه، في بدايتها، عُرضَت تقريبًا شخصية عرفات بنوع من التحبيب في برنامج الـ”حرتسوفيم”.
لكن هذا التفاؤلَ سرعان ما تبخّر مع دخان الهجمات والعمليات الانتحاريّة على الحافلات إلى جانب عمليّات نفق الحائط الغربيّ، مذ منتصف سنوات التسعينات فصاعدًا. وقد فقدت الأمور توازنها بشكل نهائيّ عقبَ فشل قمة كامب ديفيد، زيارة أرئيل شارون جبل الهيكل وهجمات التفجيرات الانتحاريّة. ومن ذات النهاية المُضطربة يتمّ استرجاع صورتين لذاكرتنا: تجاهُل عرفات دفعَ إيهود باراك غير الودّيّ لباب مؤتمر السلام، ومظهر الرئيس عرفات المُحاصَر في مُقاطعة رام الله، المُطوّقة بالدّبّابات.
هل أراد عرفات فعلا الوصول لتحقيق السلام أم أنّ عملّياته برمتّها هي مجرّد احتيال؟ فالمُؤرخون والسياسيّون مازالوا يقولون ذلك. من الواضح أنّ الرئيس لم يتخلّ أبدا عن اتّباع وسائل الإرهاب كطريقة لتحقيق أهدافه. حيث أنّه استمر باتباع الإرهاب واستمر بالعلاقات مع حماس في سنوات أوسلو السبع، وخصوصا منذ لحظة اندلاع الانتفاضة. أُدير نقاش حادّ في السنوات المذكورة ضمن وحدات الاستخبارات الإسرائيليّة حول السؤال فيما إذا قام عرفات بإعطاء توجيه لتجديد العنف. نسبت شعبة الاستخبارات في هيئة الأركان العامة، ضمن خط قاده بالأساس رئيس الأبحاث عاموس جلعاد، إلى رئيس مجلس الإدارة قرارا واعيا بالهروب نحو الإرهاب منذ لحظة تعريضه لضغط أمريكي وإسرائيليّ في كامب-ديفيد. أمّا الشاباك، ووفقا لما أورده يوفال دِيسكيِن، فاعتقد أنّ العنف قد اندلع إثر “ارتفاع مياه الصرف الصحيّ في مُخيّم البلاطة”.
بينما كان واضحًا فيما بعد أنّ عرفات قد امتطى هذا النمر، إذ ازدادت الأدلّة حول تدخّله بالعمليات الهجوميّة، حتى وإن كان ذلك بطريقة غير مُباشرة أو بطرق التفافيّة. وحينها أعطى الرئيس الأمريكي، جورج بوش، لعرفات طلاقا نهائيّا عقبَ إحباط إسرائيل عمليّة تهريب الأسلحة لغزّة (التي كانت حينها تحت سيطرة السلطة) عبرَ السفينة “كارين A” التي كانت مُحمّلة بالسلاح في كانون الثاني عام 2002. وفي ذات الشهر اتخذت حركة فتح قرارين فاجعين على ضوء الصراع مع إسرائيل والمُنافسة الداخليّة مع حماس: العودة لتنفيذ هجمات تخريبيّة في مناطق الخط الأخضر وإرسال أفراد لأول مرة من الحركة لتنفيذ عمليات انتحاريّة. ومن هنا كانت الطريق قصيرة نحو حملة “الدرع الواقي”، نحو تطويق منطقة المُقاطعة ونحو سقوط عرفات بذاته.
عندما توفّيَ، بعد عامين ونصف تقريبا، كانت الانتفاضة قد وصلت مُسبقا حينها إلى نهايتها. ويبدو أنّ الحصار المستمرّ على مقرّه قد ساهم في تدهور وضعه الصحيّ. حيث أنّ موته بقيَ لُغزًا. في عام 2005، قُمنا أنا و”أفي يسخاروف” بنشر التقرير الطبّي الذي أُعدّ في فرنسا حول وفاته. أمّا الأطباء الإسرائيليّون والأوروبّيّون الذين دقّقوا بالتقرير والنتائج فقد رفعوا حواجبهم دهشةً. إذ رأوا تقريرا مليئا بالفجوات، التي من شأنها أن تُشير إلى محاولة لإخفاء الوقائع ولتعتيم مُلابسات الوفاة.
حيث طُرحت نظريّات مُختلفة، منها أنّه قد أصيب بالتهاب خطير، مرض بالإيدز أو حتّى أنّه قد تمّ تسميمه. أمّا الفلسطينيّون، إثرَ حُبّهم القوميّ لنظريّات المُؤامرة، قد اعتمدوا التفسير الثالث واتّهموا إسرائيل بقتل الرئيس. ومذ ذلك الحين تنتشر بين الفينة والأخرى ادّعاءات أخرى حول قضية موته. والحقيقة أنّ السلطة، رغم وعودها، لا تنشر نتائج تفصيليّة لتُشير أنّ لديها أي دليل ضد إسرائيل. من الصعب في إسرائيل أن يتمّ الحفاظ على سرّ انفجاريّ كهذا سياسيّا. إذ أنّ إذا كان هذا صحيحا، فعلى شخص ما أن يعترف بذلك.
بالنسبة للفلسطينيّين فإنّ عرفات يُعتبر رمزا يُحتذى به. ويحرص عباس عندما يلتقط صورا على وجود صورة سابقه في الخلفيّة. في الأسبوع المُقبل ستنتهز فتح يوم السنة العاشرة لموت الرئيس في إقامة مسيرات حاشدة كجزء من الأزمة حول القدس. يمكن الفرض بأنّ عرفات لن يُعارض الفكرة.
نشر هذا المقال لأول مرة في موقع “هآرتس“