قبل عدة سنوات، حين بدأت بزياراتي المتكررة للقاهرة، رافقني السؤال الأبدي في كل سفرة سافرتها، من إسرائيليين وغير إسرائيليين معا، إن كنت أعرّف عن نفسي في مصر كإسرائيلي وكيف يتعاملون مع إسرائيليتي. اعتدت أن أسافر مرتين في السنة، وأحيانا أمكث شهرا كاملا. نعم، قلت دائما إني من إسرائيل. كان سهلا عليّ نسبيا. بعربيتي المصرية من البيت، أثرت فضول المصريين الذين يحادثونني والذين طلبوا أن يعرفوا كيف أتكلم اللهجة المحلية. كان منهم من ظنّ بداية أنني عميل موساد أو من هذا القبيل. بل وحدث أحيانا أن اتهمتني بذلك صحفية مصرية اتهاما صريحا في مقابلة مفبركة أجرتها معي ونشرتها في صحيفة “اليوم السابع”. لكن هذه الحالات كانت قليلة. قليلة جدا إذ أعدّد كل واحدة منها. على الأغلب، تعريف نفسي كابن ليهود مصريين لفت انتباه الناس الذين قابلتهم أكثر من هويتي الإسرائيلية، وعامة، كان يرافق ذلك الابتسامةُ والتحية الشائعة في مصر جدا “نوّرت مصر”.
ومع ذلك، كان يكفيني تجربة غير سارة واحدة كي تعكّر كل صفاء التجارب السابقة، مهما كانت جميلة ومؤثرة . هذا هائل، فكرت في نفسي في ختام إحدى الزيارات. مكثت شهرا كاملا في مصر، قابلت على الأقل 10أناسا مختلفين كل يوم- في البقالة، الصالون، أكشاك الكتب، المقاهي، في كل مكان تقريبا- حين سألوني من أين أنا وكيف أتحدث عربية مصرية بهذه الطلاقة. كانت كل الردود تشرح الصدر، دافئة وعلى الأقل تثير الاهتمام. وها هي، تكفي تجربة واحدة، قال فيها بائع صغير لي في حانوت صغير إنه لا يحب الإسرائيليين، كي تحتل مكان كبيرا وقاسيا في من قلبي، وربما ستصبغ كل مكوثي في القاهرة بألوانها الرمادية الغامّة.
العرض العالمي للعالم العربي ينشغل كثيرا بالمشاكل والنزاعات- من نزاع حول الحدود، مخزون النفط ومصادر المياه إلى تفاصيل لبس النساء- وأقل من ذلك، بشكل بارز، في الحياة اليومية، في الثقافة العربية الشعبية، في التوجهات الاجتماعية المختلفة (وأحيانا متضاربة)، في التوجهات الليبرالية، وبالطبع بالفن، الفن المعماري، الشعر والأدب
ولم أكتشف شيئًا جديدًا باستنتاجي المزعج هذا. إذ يُعرف كم تنغرز التجارب الصعبة في وعينا وأنفسنا انغرازا قويا مؤثرا أكثر من التجارب الإيجابية. أحيانا، يتطلب الأمر منا سنوات حتى نتمكن من التأقلم معها. لكن بعودتي إلى البلاد ثانية، لم أستطع مشاهدة الإعلام الإسرائيلي والعالمي بنفس النظرة التي كنت أشاهده منذ سنين مضت. وبالطبع ليس فيما يتعلق بعرض العالم العربي. حروب، عمليات إرهابية، اعتقالات، إعدامات (وقتها علنية، واليوم مصورة)، قتل على خلفية شرف العائلة، ختان النساء، التهميش الديني، قطع أيدي السارقين، اختطافات، رهائن، وهلم جرا بما حوَت الجرّة. صبغ هؤلاء العالم من حولي بلون رتيب متجهم لا يوازي التنوع الواسع الذي رأيته سابقا، هناك في القاهرة. طبعا أجريت أبحاث بخصوص تغطية العالم العربي في الإعلام العالمي، وأعترف بأنني لم أهتم يوما بفحصها. من الواضح لي، على أيّة حال، أن العرض العالمي للعالم العربي ينشغل كثيرا بالمشاكل والنزاعات- من نزاع حول الحدود، مخزون النفط ومصادر المياه إلى تفاصيل لبس النساء- وأقل من ذلك، بشكل بارز، في الحياة اليومية، في الثقافة العربية الشعبية، في التوجهات الاجتماعية المختلفة (وأحيانا متضاربة)، في التوجهات الليبرالية، وبالطبع بالفن، الفن المعماري، الشعر والأدب وإلخ. قطع الرؤوس، على ما يبدو، ما زال يجمع الكثيرين. مرة في الساحة، اليوم على الشاشة.
لحسن حظي، لست وحدي أفكر كذلك. يتأثر ملايين العرب بالصورة المنحازة التي كونتها عنهم وسائل الإعلام الغربية على مدى التاريخ، ولا سيما عملية 11 أيلول الإرهابية، وذلك من غير أن يضطروا لاجتياز الفحص الأمني في مطارات بن غوريون أو JFK. لمن يعيش في العالم العربي ويتلقى الإعلام الغربي، تكفيه نشرة أخبار واحدة كي يدرك كيف يرتسم عالمه في الخارج. والصورة، بتصريح مكبوت، غير محمودة قطعا.
هكذا أحس أيضا الإخوان من دبي، أحمد وراشد بن شبيب، المبادران، والمصدران للمجلة الدورية كل شهرين ”Brownbook”. في تطرقه إلى دبي، قال راشد في مقابلة معه، إن المشكلة مع وكالات الأنباء الغربية أنها تعرض صورة مشوّهة: “إنها تتركز فيما هو مألوف. إنها ترسل لدبي مراسلا ليوم أو يومين، الذي ينظر إلى الجزء الأسوأ في موضوع ما ويقوم بعرضه”. من ناحية تجارية، يقول الراشد، هذا معروف. وهذا أيضا موجود. نعم هناك مشاكل. لكن، حسب تعبيره، كل الأمور الأخرى، الجميلة، التي تعرضها دبي لا تحظى بالتغطية: العروض الفنية، معارض التصميم والأزياء، المهندسون المعماريون الموهوبون وغيرها. كان هذا الحافز الذي وقف وراء مبادرتهما، والذي جعل في النهاية بعض المشاريع ترى النور.
وُلد التوأمان بن شبيب، اللذان الآن بالكاد يبلغان ثلاثين عاما، في دبي لعائلة ميسورة. كان جدهما وزير الاتّصالات الأول للإمارات العربية المتحدة وأبوهما يعمل كمطوّر تجاري. لكن يبدو أن تأثير أمهما فيهما لم يكن أقل شأنا. لقد قالا في مقابلة معهما إن خلفيتهما الثقافية التي نشآ فيها أثرت فيهما، لأن أمهما اهتمت أن يكونا دائما منخرطين في إطار أية شبكة اجتماعيّة كانت- عن طريق المدرسة الصيفية، التعليم الجامعي، أو المؤسّسات الثقافية الأخرى- من خلال الاستثمار في تطوير اهتمامهما بالمتاحف والشؤون الثقافية عامة. هذا، حسب تعبير أحمد، مما غرس فيهما روح المبادرة وقدرة التعبير.
بعد إنهائهما علم الاقتصاد في بوسطون ولندن، وعملا في مجال المصارف لمدة قصيرة، وفرا بعض المال كي يعودا لبلادهما لتنفيذ مشروع المبادرة الأول لهما سنة 2006: خدمة الإرساليات في الشبكة، الأولى من نوعها في الإمارات العربية المتحدة، التي تعمل 24 ساعة، وتسمى Brownbag على ما يبدو على اسم كيس الورق البني للحوانيت في الولايات المتحدة. كان هذا المشروع الأول من نوعه في الإمارات العربية والأول لهما كمبادرين تجاريين. حسب تعبيرهما، لقد حدثت فيه بعض الأغلاط، وهذا حسنٌ. لم يكن هذا الوقتَ الملائم لمشروع كهذا لينجح، لكنه بالتأكيد قد أدى بالمشاريع التي ستأتي بعدُ إلى أن تنجح.
طلبت بعض الشركات التجارية التي تعرّفت على القدرة في مشروع الأخوين نشر نفسها في موقع الإرساليات. تحت ذلك، عرض الإخوان على هذه الشركات لا أن تنشر عن نفسها في الموقع بل عن طريق ملصقات يصدرونها وتصل مع كل إرسالية. كانت الفكرة أن تطبع ملصقات صغيرة مع لمحات عن الفن المحلي، الثقافة الحالية، التصميم وأسلوب الحياة. بعد سنة من ذلك، يصبح الملصق الصغير والساذج أحد أكثر المجلات جمالا واستثمارا في العالم العربي “Brownbook”.
https://www.youtube.com/watch?v=HF_6aCBUT6g
تُباع اليوم “Brownbook” بعشرات آلاف النسخ وحول العالم: بيروت، باريس، لندن، الدار البيضاء، نيويورك، طوكيو وغيرها. يعتبرها محرروها باختصار “كدليل مدني للشرق الأوسط”. لكنها حقا أكثر من ذلك. هذه مجلة تتركز في الفن، التصميم، أسلوب الحياة، والثقافة عامّةً، في الشرق الأوسط، شمال إفريقية، والعالم الإسلامي عموما. تجعل بنية المجلة، من ورق لامع سميك، تجربة القراءة بها حقا شبيهة بقراءة كتاب أكثر من كونها مجلة، والأقسام فيها جذابة: بدءا من النساء والشخصيات المميزة، مرورًا بِالمواضيع الرئيسية المختارة في كل عدد، وانتهاء بدليل تجوّل مصغر لإحدى المدن أو المناطق الأكثر جذبا في المنطقة.
مجلة “Brownbook” هي بلا شك مجلة ثقافية. ثقافة بالمعنى الواسع للكلمة: السائدة والحصرية، العالية والضحلة (إن كان ما زال هنالك داع لاستعمال هذه المصطلحات السخيفة)، الشعبية والخاصة، المطبخية، البصرية والسمعية، السياحية والمحلية، العربية والغربية. وفرة وثراء في المقالات، الأفكار، المبادرات، المتاحف، المعارض، مجالات العمل والإبداع، وبلا كلمة واحدة عن داعش. ليس لأنه غير موجود. بل لأن ذلك أمر نسبي
وهذا ما أراد الإخوان بن رشيد حقا أن يصدراه للعالم. “لقد أردنا الحديث عن المنطقة بطريقة جديدة”، قالا في مُقابلة معهما. “هذه المنطقة ليست فقط ذات صراع سياسي، وليست فقط الوصمة التي وُصمت بها. نعم تتم هنا أمور مثيرة للاهتمام، فهنا أناس يلفتون الانتباه وأناس يغيّرون الأمور، وأردنا أن نضعهم في الصدارة”. ولم يريدا أن يفعلا ذلك فقط أمام عيون الغرب الرامقة، بل بالأصل من أجل سكان المنطقة. كي يرى الناس إلى أي مدى يمكن أن يطمحوا، وليكونوا فخورين بما لديهم لِيَعرضوه. “لا نريد عرض الشرق الأوسط أمام أعين العالم فقط، بل أمام الشرق الأوسط نفسه”.
مثلا، في قسم الشخصيات في الأعداد الأخيرة يمكن الاطلاع على مقالات ومقابلات مع المهندسة المعمارية من البحرين، نورا السايح، مع مصور الأزياء السنغالي عمر فيكتور ضيوف، مع الطاهية وفنانة الطبخ اللبنانية أنيسة الحلو، مع ممثلة ومغنية الـ “البانك (Punk) المغربية شيما بن عشّا، مع مصممة الأزياء الجزائرية نوريا آيرون التي أنشأت محلا في المغرب، أو مع محرري مجلة Rukh للثقافة العربية المعاصرة الصادرة في باريس. من بين المواضيع التي خصصت لها عدة أعداد من المجلة يمكن أن نجد مثلا: مجلة الموسيقى من الكلاسيكية إلى العصرية والبديلة، عددا مخصصا للجزائر عامّةً وتطور كل الجزائر خاصّةً، عددا عن الجاليات العربية في البرازيل عن المميزات والشخصيات الأبرز فيها، عددا عن البيوت والتصميم الداخلي، وغيرها. لكل عدد ألحِقت “جوائز” صغيرة، مثل قاموس صغير للأمازيغية، لغة الأمازيغيين، الذي رافق عدد الجزائر ويشمل صور الحروف وعدة كلمات أساسية وكلمات مفتاحية؛ كراسة صغيرة مع نوتة أغنية “ألف ليلة وليلة” التي لحنها بليغ حمدي، وغنتها أم كلثوم؛ دليل تزلج للعالم الإسلامي الذي يضم مواقع التزلج الأفضل في المغرب، الجزائر، تركيا، لبنان وإيران؛ كراسة تصميم ساعات، حقائب وأدوات زينة، للأخوات حركات اللواتي نشأن بين بيروت والدار البيضاء؛ دليل وجيز للموسيقى البديلة الحالية في العالم العربي؛ وغيرها.
مجلة “Brownbook” هي بلا شك مجلة ثقافية. ثقافة بالمعنى الواسع للكلمة: السائدة والحصرية، العالية والضحلة (إن كان ما زال هنالك داع لاستعمال هذه المصطلحات السخيفة)، الشعبية والخاصة، المطبخية، البصرية والسمعية، السياحية والمحلية، العربية والغربية. وفرة وثراء في المقالات، الأفكار، المبادرات، المتاحف، المعارض، مجالات العمل والإبداع، وبلا كلمة واحدة عن داعش. ليس لأنه غير موجود. بل لأن ذلك أمر نسبي.
نُشر هذا المقال للمرة الأولى في موقع صحيفة “هآرتس”