“إن تم القضاء على حماس، سيظهر الأسوأ في المنطقة”- هذا ما أخذه على محمل الشك– مايكل فلين، رئيس وكالة الاستخبارات الذي أنهى عمله في وزارة الدفاع الأمريكية، هذا الشهر. وعندما قال “أسوأ” فقد قصد، وكيف لا، تنظيم داعش، أو “الدولة الإسلامية”، التي تلقي الرعب وتبث الذعر العام والواسع في الأشهر الأخيرة. يتردد صدى مثل هذه الأفكار أيضًا في الحوار الجماهيري والسياسي في إسرائيل، حيث لا يملك أحد إجابة واضحة حول النتيجة النهائية التي يجب على إسرائيل الطموح إليها في ختام القتال في غزة.
فلين ليس وحده، ونهجه حي يرزق في إسرائيل منذ اتفاقيات أوسلو. نذكّر كيف تعالت أصوات في عصر عرفات، حتى قبل حملة “الجدار الواقي”، تهدد بأن التخلص من الرئيس سيؤدي لبديل أسوأ. حينما كانت الحافلات تنفجر كل أسبوع في شوارع المدن المركزية في إسرائيل، ماذا يمكن أن يكون أسوأ؟ شريك أم لا، على الأقل قد ترك أبو مازن طريق الإرهاب وهو بالتأكيد أفضل من عرفات. كما يذكر، كذلك بعد تصفية زعماء حماس في الضفة والقطاع، ومن بينهم الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي، سُمعت فورًا نفس التنبؤات الغاضبة.
صعود الأكثر سوءًا
ما هي التنظيمات التي يحتمل أن تحل محل حماس في غزة في الوقت الحالي؟ منذ الانفصال في 2005 قامت في قطاع غزة ثماني منظمات إسلامية متطرفة. أحدها، مجموعة من السلفيين العنيفين باسم “جيش الإسلام” لكنها أعلنت التحدي لسلطة حماس في 2011. كلها، ومن بينها فتح طبعًا، عرفت حماس كيف تقمعها بليّ الذراع. كل هذه التنظيمات قريبة بصورة أو أخرى لتنظيم القاعدة من ناحية أيديولوجية، بل وتتجاوز حماس من ناحية التطرف.
لكن هذه الصيغة بالذات تقتضي حذرًا واستيضاحًا خاصًا: ماذا يُقصد بأنهم “أكثر تطرفًا”؟ هل هي أخطر من حماس ويمكن لها أن تنفذ عمليات تفجيرية أكثر دموية؟ على ما يبدو، كلّا… ما هو أكثر تطرفًا من هجوم بالصواريخ على مجمّعات سكانية ومحاولات الدخول لبلدات مأهولة؟
هذه التنظيمات أكثر تطرفًا من حماس من ناحية واحدة فقط: فيما تدير حماس بنية سياسية منضوية تحت اضطرارات سياسية، منها وقف إطلاق النار مع إسرائيل، فإن هذه الفصائل لا ترى نفسها مقيّدة بأي اضطرار، وتتمسك باستمرار “المقاومة” العنيفة ضدّ إسرائيل في كل حال وأي ظرف. كل ما يمكن قوله إن هذه الفصائل أكثر “تعنّتا” من حماس.
التنظيم الأبرز الوحيد الذي يمكنه أن يهدد مكانة حماس هو “الجهاد الإسلامي في فلسطين” وذراعه العسكرية “سرايا القدس” التي اشتركت في القتال ضدّ الجيش الإسرائيلي. هذا التنظيم أقدم من حماس- لقد أقيم سنة 1979 على يد فتحي الشقاقي بوحي من الثورة الإسلامية. الجهاد الإسلامي تابع لإيران ومنها يحصل على أغلب تمويله. رغم كونه تنظيمًا سنيًّا، فالجهاد الإسلامي يتمسك بالوحدة بين السنة والشيعة، لأن وحدة كهذه يمكن أن تضر حسب طريقته بإسرائيل والولايات المتحدة.
من الواضح أنه رغم التوتر الطائفي القائم في المنطقة، فإن التبعية لإيران لا تشكل تمامًا نقطة قوة لتنظيم يتنافس مع حماس. في نهاية الأمر، الجهاد الإسلامي هو تنظيم صغير ويفتقد إلى المصادر المادية ليشكل تحديًّا لحماس. كذلك في المجال الديني الداخلي فإن الجهاد الإسلامي هو نوع من الحركة الإسلامية “التقدمية” وهي غير مؤهلة أن تكون “أكثر سوءًا” من حماس.
داعش ليست في الأفق
وماذا بخصوص داعش؟ تفترض المجريات التبسيطية أن التنظيم العنيف سيصل للقطاع وسيشكل تهديدًا على إسرائيل. لكن نظرة بدقة عالية أكثر تظهر أن هذه الإمكانية تبدو ضئيلة.
إحدى مميّزات التنظيمات الإرهابية هي القدرة على العمل وتنفيذ العمليات الإرهابية في مجالها، والذي يعرفه نشطاؤها جيدًا جدًا. أفضلية حماس، حزب الله وداعش أنهم لاعبون محليون، ينشطون في فئاتهم “البيتية”. لذلك، من الصعب جدًا وصف وضع يستطيع به أي تنظيم كان، وحتى إن كان سيأتي من قريب، أن ينفذ عمليات إرهابية ويقاتل الجيش قتالا بمستوى يفوق مما تفعل حماس الآن.
حتى وإن قامت في القطاع خلايا صغيرة تتضامن مع داعش أو مع أيديولوجية تماثلها فلن تكون لديها قدرات شبيهة بقدرات حماس. وطبعًا لا يمكنها أن تكون “أكثر سوءًا”. لا تستطيع الخلايا الصغيرة والمبعثرة أن تدير معركة طويلة تتطلب تنسيقًا وإدارة ميدانيين، الأمرين اللذين تتملكهما حماس.
لكن الأمر الرئيسي الذي يمنع تطور منظمات الجهاد غير المحلية، هو افتقاد القرب الجغرافي، الذي يمكنه أن يتيح نقل معدّات قتالية ومقاتلين بين المقاطعات التي تحت سيطرة داعش وبين القطاع. حتى اليوم، فإن كون غزة محصورةً بين إسرائيل ومصر، فإن المشهد الذي فيه يحتل مقاتلو داعش القطاع بانقضاض بالجيبّات، ليس واردًا في الحسبان أبدًا.
يُظهر القتال في غزة أن حماس قد اجتازت منذ زمن مرحلة “التنظيم الإرهابي” بالمفهوم الذي كانت عليه فتح سنواتِ السبعينات. لقد تحوّلت حماس لجيش نظامي، ذي دافعية عالية وقدرة قتالية أثبتت نفسها. يرجع التهديد الاستراتيجي الذي تشكله حماس لإسرائيل إلى قدراتها العسكرية، ومن بينها قدرة تهديد التفوق التقني الجوي لإسرائيل بواسطة أنفاق الهجوم والإطلاق العمودي.
فإن تنظيم “أسوأ” هو ذلك التنظيم الذي يمكنه أن يضر إسرائيل “بجودة” ومدى أكبر من حماس. لكن كي يحصل على هذه القدرات فعلى التنظيم المنافس أن ينشئ وحدات مدنية، حيث تفوق شبكة الإدارة العسكرية التي لحماس. وحالَتئذٍ أيضًا، ستكون قدرة التنظيم على أن يشكل تهديدًا بارزًا لإسرائيل محدودة جدًا، ومتعلقة بالأساس بطرق رد الجيش، وليس فقط بالتطرف الوعظي في المساجد.
نشر المقال للمرة الأولى في موقع “ميدا”