في أيلول 2011، هبط رئيس الحكومة التركية في القاهرة بكامل المجد والأبهة. واستقبلت الجماهير المصرية الحماسية أردوغان، ملوّحةً بالأعلام التركية، وهاتفةً دعمًا له. وقد شبّهت مجلة تايم ذاك الاستقبال باستقبال نجم روك. استقبال زعيم دولة ترى نفسها قوة عظمى إقليمية، وقدوة يُحتذى بها لدول الربيع العربي.
سنتان مرَّتا، ليصبح أردوغان ضيفًا غير مرغوب فيه في مصر، على الأقل من جانب السلطات. فبعد الإطاحة بمرسي، تفوّه أردوغان ووزراء في حكومته بتصريحات هجومية ضدّ الجيش المصري وسياسته. ووصف أردوغان الإطاحة بمرسي بأنها مسّ بالديموقراطية وخيانة لإرادة الشعب. وقال إنّ تركيا لا يسعها التزام الصمت حيال العنف الذي يُمارَس في مصر.
أثارت هذه الأقوال سُخطًا في مصر. فقد اعتُبرت تدخُّلًا في شؤون مصر الداخلية، وخروجًا عن الأعراف الدبلوماسية. ويتزايد التوتر الدبلوماسي بين الدولتَين، ما أدّى إلى إعلان مصر أنها لن تتيح لأردوغان أن يمرّ في أراضيها للقيام بزيارته المخطّط لها إلى غزة.
فهل هذه عقوبة أم خشبة إنقاذ؟ فمنذ 2011، يترقّب قياديّو حماس ومواطنو غزة زيارة أردوغان. حُدّدت المواعيد، أُسمعت التصريحات، حُدّدت البرامج – ولا زيارة إلى غزة. الأسباب منوَّعة، لكنّ عدم خروج الزيارة إلى حيّز التنفيذ تحوّل إلى رمز للفجوة بين أقوال أردوغان وأفعاله. هذه الفجوة واضحة أيضًا في قضايا أخرى متصلة بالشرق الأوسط، وعلى رأسها سوريا، تشهد على صعوبة تنفيذ السياسة الخارجية الإقليمية التركية.
يزعزع التوتر المتبلور بين مصر وتركيا منذ الإطاحة بمرسي أحد المحاور المثيرة للاهتمام التي بدأت تتبلور في الإقليم جراء أحداث الربيع العربي. فقد بدأت مصر وتركيا – دولتان حليفتان للغرب، حاولتا سابقًا أن تطوّقا الواحدة خطوات الأخرى في صراعهما على المكانة الإقليمية – في عهد مرسي بنسج علاقات تعاون وثيقة بينهما.
فقد بارك أردوغان ارتقاء الإخوان المسلمين السلطة في مصر، إذ رآهم شركاء له. فليس صدفةً أنّ مرسي دُعي إلى تركيا كضيف شرف في مؤتمر حزب العدالة والتنمية، الذي عُقد في أيلول 2012. “نحن بحاجة لمساعدة تركيا”، قال مرسي في خطابه. وكان من الواضح أنّ إنجازات حزب أردوغان كانت ملهِمًا له.
من جهتها، عبّرت تركيا عن سعادتها بتقديم المساعدة، وتعهّدت بتقديم مساعدة اقتصادية هائلة لمصر مرسي. كما وَثَّقَ جيشا البلدَين تعاونهما، وقام أردوغان بزيارة أخرى لمصر في تشرين الثاني 2012 – هذه المرة في سياق عملية “عمود السحاب”، حيث زار وزير الخارجية التركي، أحمد داوود أوغلو، غزة.
ووصف داوود أوغلو التعاون المتبلور بين تركيا ومصر بأنه “محور الديموقراطية”، مضيفًا أنه شراكة استراتيجية. لكن كما انهارت الشراكة الاستراتيجية بين أردوغان والأسد إثر اندلاع الحرب الأهلية السورية، كذلك لم تنجُ الشراكة التركية – المصرية من التغييرات في السلطة في مصر.
صحيح أنّ أردوغان اعتبر مرسي شريكًا وحليفًا، لكنه لم يمتنع عن انتقاد سلوكه في السلطة. فمنذ بداية المشوار، أشار أردوغان إلى الطريق التي يجب أن يسير فيها الإسلام السياسي في مصر، حسب رأيه. ففي زيارته إلى القاهرة عام 2011، أثار أردوغان امتعاض حركة الإخوان المسلمين هناك.
“آمل أن يكون النظام الجديد في مصر علمانيًّا”، قال أردوغان في مقابلة مع التلفزيون المصري. وأضاف أنه رغم كونه مسلمًا، فإنّ الدولة التي يتزعمها هي علمانية. على مصر تبني دستور علماني، أوضح أردوغان حينذاك، وتابع أنّ النموذج التركي يظهر أنّ العلمانية ليست عدوّ الدين.
وكانت خارطة الطريق التي عرضها أردوغان على الإخوان المسلمين المفتاح في نظره ليتمكن حزب ذو طابع ديني من السيطرة على دولة ترى فيها المؤسسة الأمنية وجزء كبير من الشعب الإسلامَ السياسي عدوًّا يجدر التخلّص منه. نجح أردوغان في فعل ذلك في تركيا. لكنّ مرسي لم ينجح في مصر.
رفض الإخوان المسلمون في مصر كلام أردوغان عام 2011، معتبرينه تدخلًا في الشؤون الداخلية المصرية. “لا يمكن استنساخ تجارب دول أخرى في مصر”، ردّ الناطق بلسان الحركة. ولذلك، رُفضت نصائح أردوغان. وكان للخط الذي اختار مرسي انتهاجه دور كبير في الإطاحة به.
ففي سنة حكمه كرئيس، سار مرسي على خطى نجم الدين أربكان – رئيس الحكومة الإسلامي في تركيا الذي أطيح به في إنذار عسكري عام 1997 بعد سنة فقط في السلطة. بدا مرسي رئيسًا ذا أجندة إسلامية واضحة، يعيّن رجال الإخوان المسلمين في مناصب بارزة، ويحاول أن يزعزع بسرعة مكانة المؤسسة العلمانية.
نُظر إلى مرسي على أنه يعمل أكثر لصالح حركة الإخوان المسلمين، وأقل لصالح مصر كلها. وهذه طريقة مختلفة عن تلك التي انتهجها أردوغان في سنواته الأولى كرئيس حكومة تركيا. يشتاق أردوغان لمرسي في هذه الأيام، لكنه يظنّ بالتأكيد أنه لو أصغى الرئيس المصري المعزول إلى نصائحه – لكان مصيره مختلفًا.
* د. نمرود جورن هو رئيس متفيم – المعهد الإسرائيلي للسياسة الخارجية الإقليمية، ومحاضر في قسم دراسات الشرق الأوسط في الجامعة العبرية بالقدس.