لم يتخيل منظمو الذكرى الإسرائيلية الفلسطينية أنه سيشارك نحو سبعة آلاف إسرائيليّ في الذكرى. ولكن يبدو أنهم سيرسلون باقات أزهار احتفالا بالإنجاز الكبير إلى عدوهم وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان، الذي حاول حظر مشاركة الفلسطينيين في المراسم، وأثار جدلا إعلاميا أدى إلى أن يشارك أكبر عدد من المشاركين في السنوات الـ 13 الماضية.
رغم الانتقادات الكبيرة التي أعرب عنها الإسرائيلييون ضد المراسم، ورغم تجاهل الفلسطينيين التام لهذه المعارضة تقريبا، قررنا حضور هذه المراسم وسماع آراء بعض المشاركين من العائلات الثكلى ومعرفة كيف ينجح أبناؤها في التغلب على الفجوة بين العدو المسؤول عن خسارة أعزائهم، وبين العائلات التي تشعر بألم وتعيش ثكلا شبيها.
رغم أني وصلت إلى المراسم ساعتين قبل بدئها، تلقيت تحذيرات في خيمة الصحافيين أنه قد تسود ضجة في المنطقة ويُفضل أن أجد مكانا ملائما أكثر لإجرءا المقابلات. ولكن مقابل الخيمة تقع المنصة التي يجري فيها المشاركون الاستعدادات الأخيرة، وأطلق المُتظاهرون من ورائها هتافات ضد إجراء المراسم. أثارت هذه المراسم ضجة كبيرة ومتواصلة. لا يولي الطاقم المسؤول عن إجرائها اهتماما للمعارضات والانتقادات التي تسمع ضدها منذ سنوات.
“خائنون” قال متظاهر عبر مكبّر الصوت، ولكن لم يقل رامي إلحنان، ابن 68 عاما، الذي قُتلت ابنته في سن 14 عاما أثناء عملية إرهابية شيئا. “لا نحظى بمعاملة خاصة بصفتنا عائلات ثكلى”، أوضح. في السنتَين الماضيتَين بدأ إلحنان يشغل منصب المدير العامّ الإسرائيلي لمنتدى العائلات الثكلى، ويتعاون مع المدير العامّ الفلسطيني، مازن فرج.
يتحدث إلحنان بشكل مباشر وواضح . “نحن لا نتعانق، ولا نتباد القبل، ولا نأكل الحمص معا، ولكن نحارب الوضع الذي يسيطر فيه شعب على شعب آخر. ونؤمن أنه إذا حققنا التسوية، فسننجح في مهمتنا”، أوضح وأضاف: “يجمعنا عامل مشترك وهو معرفة أن الاحتلال أدى إلى وفاة أولادنا وأن هناك حاجة إلى حل النزاع عبر التحدث والتسوية وليس العنف”، هكذا وصف النشاطات المشتركة بين العائلات الثكلى من كلا الجانبين.
لم يؤمن إلحنان دائما بالتوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين. فهو يصف نفسه بصفته كان متهكما، لم يؤمن بالأمل والحلم بمستقبل مشترك، حتى فقد أغلى ما عنده. “الكارثة التي تعرضت لها، واللقاء مع العائلات الثكلى الفلسطينية أديا إلى تغييري تغييرا جذريا”، أوضح. “التقيت والدة فلسطينية كانت تتقلد صورة ابنها الذي كان عمره 6 سنوات عند وفاته، كما كانت زوجتي تتقلد قطعة مخروط عليها اسم ابنتنا سمدار، وقد تغييرت حياتي كليا بعد هذا اللقاء. كانت المرحلة التي مررت بها مميزة. فبعد أن اكتشفت الجانب الإنساني لدى الجانب الآخر، بدأت بخوض مرحلة طويلة من تقرير المصير مجددا، بصفتي إسرائيليا، يهوديا، وإنسانا”.
وأوضح أن الألم والثكل، يشجعان على ممارسة نشاطات من أجل السلام، ويشكلان مسؤولية تجاه الأجيال القادمة. “وشعرت أنه رغم كوني ضحية، يجب أن تنتهي المعاناة في هذه اللحظة. وأنني لن أستخدم مأساتي لجعل الآخرين ضحايا أيضا. نحن نسعى إلى استغلال الاحترام الهائل المتبادل لدى العائلات الثكلى، ونلاحظ أن هذه العائلات تصغي إلينا”.
لقد خسرت روبي دملين ابنها في الحرب، بعد أن قتله قناص فلسطيني. وأصبحت اليوم المتحدثة باسم العائلات الثكلى. “انضممت إلى منتدى العائلات الثكلى بعد أن قُتِل ابني. بعد أن أخبرتني قوات الجيش عن وفاته. فقلت لها فورا: أرجو ألا تقتلوا أحدا انتقاما لابني. أردت منع تعريض الآخرين للألم الذي أشعر به. أضع قناعا على وجهي وأضحك، ولكن عندما أستيقظ كل يوم صباحا أواجه الألم من جديد. وعند الخلود للنوم ليلا، يكون لون الدموع شبيها لدى الجميع. لهذا يخاف الكثيرون من المراسم التي نجريها لا سيما أننا نثير الأحاسيس، ويصعب على الكثيرين مواجهة هذه الحقيقة”.
وفق أقوال روبي، فقبل أن تخسر ابنها كانت ناشطة من أجل السلام مع الفلسطينيين، وكان ابنها ناشطا أيضا. “كان ابني ناشطا من أجل السلام. لا يفهم الأشخاص المعضلة التي يشعر بها ضابط شاب عندما يعود من الخدمة العسكرية ويقول لا أريد أن أخدم في الأراضي، ولكن ماذا يكون مصير الجنود الذي يعملون تحت إمرتي؟ وكان يوضح أنه نظرا لأن الخدمة العسكرية إلزامية، فسيحترم هذا القرار والجنود أيضا”.
ومع ذلك، وفق أقوالها، فهي تتعرض لتحديات حساسة أثناء النشاطات من أجل دفع الحوار مع الفلسطينيين قدما. “عندما ألقي القبض على الشاب الذي قتل ابني، شعرت بصعوبة كبيرة. ماذا يمر هذا الشاب المعتقل؟ أرسلت رسالة إلى عائلته. بعد ثلاث سنوات أرسل إليّ رسالة أوضح فيها أني مجنونة وطلب مني الابتعاد عن عائلته. كانت القضية معقدة. لقد خاف لأنه كان يُعتبر بطلا فلسطينيا بعد أن قتل عشرة أشخاص. وعرفت من والديه أنه شاهد في صغره كيف قتل الجنود عمه”.
يدفع كل من روبي وإلحنان ثمنا باهظا إزاء دعمهما لمراسم الذكرى المشتركة. يوضح إلحنان أنه يسمع انتقادات قاسية من المقربين منه: “يقول لي أصدقائي إنني أصبحت مجنونا. وقد توقف الكثير من أصدقائي عن التحدث معي، وبالمقابل بدأ أشخاص كثيرون يتحدثون معي. لدي علاقة جيدة مع أشخاص كثيرين. ونحن نلقي محاضرات في أحيان كثيرة في المدارس، وهذه المهمة ليست سهلة. فهذه الخطوة أشبه بخوض جبل بركاني. وإذا أعرب طالب واحد في الصف في النهاية عن رضاه فهذه أعجوبة. عندها أشعر وكأنني أمنع سفك نقطة من الدماء. هناك أهمية كبيرة لنقطة الدماء في اليهودية. ونحن نتلقى ردود فعل رائعة من الشبان”.
ورغم التقارب الذي نشأ بيننا وبين الفلسطينيين في منتدى العائلات الثكلى ومراسم الثكل المشتركة، لا يخفي إلحنان أحاسيسه التي يشعر بها منذ مقتل ابنه. “أشعر بغضب أتوقع أنه سيرافقني دائما. السؤال الذي يُطرح ما الذي يمكن العمل مع هذه المشاعر. يمكن استخدامها استخداما سيئا أو جيدا. لقد كانت وفاة ابنتي كارثة ولكني لم أفقد صوابي. أعرف أنه إذا قتلت شخصا أو ألحقت به ألما فهذا لن يعيد ابنتي ولا يخفف من ألمي. ليس هناك أي حجر في القدس يستحق سفك نقطة دماء الأطفال الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء”.