يمكن أن يكون التجوال في باريس في الشتاء القارس، تجربة غير ممتعة. وإن كان الحديث يجري عن إحدى المدن الأكثر رومانسية مما تقدّمه القارّة الأوروبية. والأهم، أن التنزه في شوارع باريس المزدحمة بعد فترة الأعياد ليس لطيفا إطلاقا، حيث تتجوّل دوريات الشرطة والجيش التابعة للجمهورية الفرنسية في كل مكان، بحثا عن وجه مشتبه به وأملا بخلق شعور الأمن في شوارع المدينة، قرب المسجد الكبير في باريس، في أسواق المهاجرين وفي قلب المعالم الأكثر سياحة في المدينة: برج إيفل، متحف اللوفر وقوس النصر.
“الشعور بالأمان يهم الفرنسيون. ولقد أضرت عمليات تشرين الثاني، التي راح ضحيتها عشرات القتلى، بالشعب الفرنسي. أعتقد أنّ الفرنسيين بدأوا رويدا رويدا يدركون أنّهم يخوضون حربا من أجل قيمهم”، هذا ما قالته لي صديقة فرنسية طيّبة كانت تتجوّل معي في باريس، في حين كنت أحاول أن أفهم عمق الأزمة بين المسلمين وغيرهم في بلد ذات علم يحتوي على الأعمدة الثلاثة الملونة.
كوني شخصًا زار فرنسا أكثر من مرة وفرنكوفونيا، عاش الثقافة الفرنسيّة منذ طفولته، شعرت بإحساس غريب أثناء زيارتي الخاطفة للمدينة. لقد تغيّر شيء ما بالتأكيد. لن أستنتج استنتاجات سريعة ولن أقول إنّه قد نشأت فجوات واسعة في المجتمَع الفرنسي إثر الأحداث الإرهابية الأخيرة في 13 تشرين الثاني وأحداث مجزرة صحيفة تشارلي إيبدو أو متجر المأكولات اليهودي “هايبر كشير”. وبخلاف الكثيرين في العالم ممن استطلعوا المشاعر في المدينة بعد الأحداث فورا، اعتقدتُ أنّه سيكون من الأفضل دراسة النسيج المجتمعي الحساس، بعد أن تهدأ العاصفة.
فرنسيون بكل معنى الكلمة ومسلمون في آن واحد
لا شك أنّ العمليات الإرهابية في فرنسا قد أبرزت مشكلة كانت السلطات الفرنسية تميل حتى اليوم، بشكل أساسيّ لأسباب تتعلق بالصواب السياسي، إلى تجاهلها، أو على الأقل التقليل من أهميتها – مكانة الجالية المسلمة في فرنسا.
في فرنسا، يبلغ تعدادها نحو 10% من مجموع السكان (وفقا للتقديرات بين 5-8 مليون. بموجب القانون الفرنسي يحظر إجراء استطلاعات وفقا للتقسيم الديني).
في الأصل، كانت تتألف هذه الجالية بشكل أساسيّ من مهاجري بلدان شمال أفريقيا، والذين هاجروا إلى فرنسا في الفترة التي كانت بلدانهم خاضعة للسيطرة الفرنسية – منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر حتى تفكك الإمبراطورية الفرنسيّة في النصف الثاني من القرن العشرين. ونتيجة لسياسة الحدود المفتوحة للاتحاد الأوروبي بدأ التدفق الجماعي للمهاجرين من بلدان لم تكن جزءا من دائرة النفوذ الفرنسية.
قدّر الباحث الإسرائيلي، الدكتور يسرائيل بار نير مؤخرا أنّ “المبنى الديمغرافي للجالية المسلمة في فرنسا قد تغيّر بسبب الملايين من المهاجرين الجدد الذين جلبوا معهم التخلف الاقتصادي والثقافي”. وادعى بار نير أيضا أنّه “ليس هناك أي ارتباط لدى المهاجرين الجدد بالثقافة والتراث الفرنسي، ويتقن القليلون فقط من بينهم اللغة الفرنسية. اضطر القليلون الذين نجحوا في إيجاد عمل إلى الاكتفاء للقيام بأعمال مثل إخلاء القمامة وكَنْس الشوارع. إنّ التناقض بين القيم الأساسية للتراث الفرنسي، ولا سيما، الفصل بين الدين والدولة (Laicite) – وهو من الأصول غير القابلة للتغيير في النظام الفرنسي منذ عهد الثورة – ومكانة المرأة في المجتمع، وبين نمط الحياة الذي جلبه المهاجرين الجدد من بلدانهم، شكلا عقبة لا يمكن اجتيازها أمام دمج المهاجرين الجدد في المجتمَع الفرنسي”.
“نحن لا نفهم من هي داعش. بالنسبة لنا فالمسلمون لا يتصرّفون كذلك. نحن فرنسيون وفخورون بكوننا فرنسيين. لقد أضرّ الإرهاب بالأساس بالجالية المسلمة في فرنسا. أعتقد أنّ اليمين المتطرّف في فرنسا يكن كراهية كبيرة للمسلمين في الآونة الأخيرة”. هذا ما قاله لي علاء، وهو بائع متجوّل في أحد الأسواق في جادة باربس (Le Boulevard Barbes).
في جوّ بارد يصل إلى 4- درجة مئوية، مضيتُ في طريقي إلى المسجد الكبير في باريس. في ساعات الغروب، قبل دقائق من صلاة المغرب، دخلتُ إلى المسجد مع صديقتي. حاولت أن أفهم إلى أين تتوجّه الجالية المسلمة في فرنسا وكيف يمكن سد الفجوات في الثقة.
وعند دخولنا إلى المسجد توجّهنا نحو امرأة كانت ترتدي حجابًا. وقد أوضحتُ لها، متحدثا بلهجتي الفلسطينية، أنّنا نرغب بإجراء جولة في المكان وإلقاء نظرة على المسجد. “فقالت عليكما أن تدفعا 2 يورو للشخص مقابل الدخول”. تهامستُ مع صديقتي وفورا سألتني السيّدة إذا كنتُ مسلمًا. “الحمد لله”، ردت قائلة بعد أن أخبرتُها أنّني أنا مسلم أيضا.
في داخل المسجد الواسع والمزخرف، يستعدّ الرجال للصلاة. أوضحت لي صديقتي بأنّه قد ثار مؤخرا، وعلى خلفية الهجمات الإرهابية، نقاش عام واسع في فرنسا. “يسعى زعماء بارزون في أوساط الجالية المسلمة إلى مضاعفة عدد المساجد في البلاد”. وفقا للتقديرات يوجد اليوم ما يقارب 2200 مسجد في أنحاء فرنسا، والتي يفترض أن تخدم أبناء الجالية، التي يبلغ تعدادها كما ذكرنا بين 5-8 ملايين مؤمن. يدّعي زعماء الجالية أنّ عدد المساجد هذا لا يكفي بل ويحثّون السلطات على بناء المزيد والمزيد من دور العبادة المراقَبة من أجل منع تجمّعات الشباب المسلمين في الأوساط المتطرّفة التي قد تُسمّم عقول الشباب المخطئين.
ظل داعش يحلّق في الأحياء الفقيرة واليائسة
حاولت الحكومة الفرنسية إيقاف توسع الإسلام المتطرف لمنع التطرف والعنف اللذين يميّزانه تحت رعاية منظّمات مثل القاعدة أو داعش. اتخذت الحكومة قرارا بتنظيم مجلس إسلامي قُطري – وهو هيئة يُنتخب ممثلوها انتخابا ديمقراطيًّا من جميع الجاليات المسلمة المحلية في فرنسا. والغاية هي تطوير “إسلام فرنسي”، تعتبره السلطات حجر الأساس لدمج الأقلية المسلمة في المجتمع الفرنسي.
كانت هناك أفكار أخرى وهي تنظيم حلقات دراسية لتأهيل الأئمة الناطقين بالفرنسية ليتعرفوا ويحترموا نمط الحياة الفرنسي، بالإضافة إلى منظومة دعائية بأنّ “قوانين الإسلام غير قابلة للتنفيذ في فرنسا لكونها تخالف القانون الفرنسي”. وفقا للدستور الفرنسي، فإنّ فرنسا هي دولة علمانية، تحترم التنوّع الديني فيها. وهي علمانية، أساسا.
وقد فشلت معظم هذه المحاولات. “عندما هاجرتُ إلى باريس عام 1968 لم يكن هناك مسلمون في المدينة تقريبا، فكنّا أقلية. والآن أصبح لديّ أبناء وأحفاد. نحن نفهم العربية الفصحى ونتحدث أيضا باللهجة التونسية والفرنسية. ولكن لا يفهم أحفادي العربية الفصحى. فنتحدث إليهم بالفرنسية فقط. لمزيد الأسف فإنّ الأئمة في هذا المسجد يتحدثون العربية بمستوى عال جدّا مما يصعّب على أطفالنا فهمها. تخيّل أنّ الكثير من الشباب الذين واجهوا صعوبات التأقلم في المجتمع الفرنسي وهم عاطلون عن العمل يريدون الحصول على الاستشارة. إلى أين سيذهبون؟ هل سيطلبون المشورة من أولئك الأئمة؟ لا، فهم يتوجهون إلى الأوساط المتطرفة التي تستقبلهم بدفء وتمنحهم شعورا زائفا بالقبول. يجب على السلطات وعلى رجال الدعوة في فرنسا إدراك ذلك”، كما يقول لي أبو محمود (68 عاما)، صاحب محل حلاقة في حيّ شاتو روج (Chateau Rouge).
ويعكس قلق أبو محمود قلق الكثيرين من أبناء الجيل الأول من التونسيين، المغاربة والجزائريين الذين قدِموا في وقت ما من الخمسينيات والستينيات إلى فرنسا بحثا عن حياة أفضل في أوروبا. الخوف من أن ينجرّ أبناؤهم، مثل الأخوين كواشي (اللذين نفّذا المجزرة في هيئة تحرير الصحيفة الساخرة، “شارلي إيبدو”)، وراء المجموعات المتطرفة. إنهم يخشون، أكثر من كل شيء، من أن تزيد عمليات الإرهاب الأخيرة من نار كراهية الأجانب، الملتهبة على أية حال من قبل مجموعات اليمين المتطرفة في فرنسا.
بين الحجاب وأعمال الشغب
أعترف أن خلال فترة إقامتي القصيرة في المدينة لم أصادف مظاهر العنصرية تجاه المسلمين. ولكن مؤخرا يعاني الكثير من المسلمين بشكل مباشر من كراهية الأجانب الحقيقية.
اقتحم متظاهرون فرنسيون غاضبون في نهاية العام الماضي (27.12.2015) قاعة صلاة إسلامية في جزيرة كورسيكا الفرنسية وأحرقوا مصاحف من القرآن. فأدانت الحكومة الفرنسية هذا الفعل بشدّة، والذي تم تنفيذه في عيد الميلاد.
وكانت النساء المرتديات للحجاب المتضرّرات بشكل أساسي. بعد أكثر من عشر سنوات من اعتماد فرنسا لقانون غطاء الرأس الأول، والذي يحظر على التلميذات ارتداء النقاب أو الحجاب في المدارس الحكومية، أصبحت قضية غطاء الرأس للنساء المسلمات المتديّنات – من الأوشحة الحريرية الملوّنة وحتى العباءة السوداء – إحدى نقاط الاحتكاك الأكثر أهمية بين الدولة والسكان المسلمين.
يستمر السياسيون الفرنسيون المنتمون إلى التيار المركزي بالعمل على منع قبول النساء المنقبات إلى أماكن العمل، المؤسسات التعليمية والفعاليات الجماهيرية. وقد برّروا ذلك أكثر من مرة بقولهم إنّهم يعملون من أجل النظام العام وقيم الـ laïcité.
“لم تساهم هذه الخطوات في استيعاب المسلمين في المجتمع العلماني. وبالمناسبة فهم أنفسهم يطالبون بأن يكونوا جزءًا من الشعب الفرنسي. على العكس، لقد زادت من التمييز ضدّهم بشكل عام وضدّ النساء بشكل خاص. تُسمع في الأخبار مرات عديدة عن نساء تعرّضن للإهانة والعنف، والتي تتمثّل بالبصق عليهن، بشدّ غطاء رأسهن أو دفعهنّ. وقد تم استغلال هذا الحظر من قبل جهات إسلامية، تسعى إلى دقّ إسفين أعمق بين المسلمين وغيرهم في فرنسا”، كما قالت لي صديقتي بعد أن خرجنا من المسجد الكبير.
مستقبل العلاقات، إلى أين؟
من غير الواضح الآن كيف سيكون مستقبل هذه العلاقات بين المسلمين والفرنسيين، في المستقبل القريب.
في زاوية شارع المسجد الكبير دخلنا إلى عالم آخر، فقاعة برعاية الساحة الخلفية للمسجد، والتي يبدو فيها العالم ورديا وواعدا أكثر. يصطف فرنسيون محليّون وأبناء مهاجرين إلى جانب بعضهم البعض، حول طاولات مذهّبة مصنوعة من النحاس، يحتسون الشاي بالنعناع المحلّى. هناك طاولات مزدحمة بالحلويات من المطبخ المغربي، راحة الحلقوم، البقلاوة والغريبة. في مجلس الشاي هذا أشعر بومضة الأمل. إذا تم استبعاد العنف ولم يُعطَ للمتطرّفين حيز عمل فربّما لن يُفقد الأمل لتعزيز علاقات أعمق وأفضل بين المسلمين والمدافعين عن العلمانية، الغربيين، الفرنسيين.