في شهر كانون الثاني 1998، وبعد أربعة أشهر فقط من انتخابات الرئاسة الإيرانية، أجرى محمد خاتمي مقابلة مع مراسلة شبكة الـ CNN، كريستيان أمنفور. وفي توجهه إلى الشعب الإيراني، أثنى الرئيس على الشعب الأمريكي، وأعرب عن أسفه لسيطرة الطلاب الجامعيين الإيرانيين على السفارة الأمريكية في طهران في العام 1979، وأبدى تحفظه من عادة حرق العلم الأمريكي التي كانت ما زالت سائدة في المسيرات في إيران. بعد أيام معدودة من نشر المقابلة، خرج المرشد الأعلى، علي خامنئي، في هجوم لاذع ضد الولايات المتحدة. وعلى نقيض واضح من موقف الرئيس، عاد المرشد وكنّى الولايات المتحدة باسم “الشيطان الكبير”، وأعلن عن أن إيران ستواصل التصدي لها وادعى أنه لا توجد أية فائدة من الحوار معها.
بعد 16 سنة من ذلك الوقت، أجرت أمنفور هذا الأسبوع، مقابلة مع الرئيس الإيراني الجديد، حسن روحاني. وفي توجه مباشر إلى الشعب الأمريكي، أعلن الرئيس أن بجعبته رسالة سلام وودّ إلى مواطني الولايات المتحدة، وأعرب عن الاستعداد المبدئي لبدء مفاوضات مباشرة مع الولايات المتحدة. وكانت ردود الفعل في إيران وفقا لأقوال روحاني، تُجسد بشكل جيد التغيير الذي طرأ منذ التسعينات في توجه الجمهورية الإسلامية بكل ما يتعلق بالولايات المتحدة.
وكانت صحيفة “كيهان” اليومية الموالية لليمين الراديكالي في إيران قد أبدت موقفًا استثنائيا، إذ حذرت الرئيس روحاني من مصافحة يد “المجرم” أوباما الملطخة بالدماء. أما الصحيفة اليومية المحافظة “جمهوري إسلامي”، التي كانت من بين المنتقدين المتشددين لسياسة التقارب مع الولايات المتحدة التي انتهجها خاتمي، فقد أعربت بالمقابل عن دعمها المبدئي لخطوات الرئيس وادعت أن الوضع الدولي الراهن يثير أملا في تبني توجه أكثر واقعية ومنطقية من قبل الغرب تجاه إيران. وقد ذهب المحلل السياسي صادق زيباكلام، الذي يعتبر مقربًا من الرئيس الأسبق علي أكبر هاشمي رفسنجاني، إلى أبعد من ذلك، إذ ادعى في مقال نشره في الصحيفة الإصلاحية “شرق”، أن المحافظين في إيران لا يتعيّن عليهم أن يتخوفوا من احتمالات نجاح المحادثات بين إيران والولايات المتحدة، بل من الحقيقة أن المجتمع الإيراني لم يعد ينظر إلى الولايات المتحدة على أنها عدو.
ثمة شك ما إذا كان التقارب بين إيران والولايات المتحدة كان يمكن أن يحدث، لولا منح المرشد الأعلى ذاته “ضوءًا أخضر” للرئيس لدفع السياسية قدمًا أمام إدارة أوباما. أما موقف خامنئي المتشكك والمعادي للولايات المتحدة فقد بقي على ما كان عليه. في شهر تموز المنصرم نشر في موقعه الرسمي تصريحات له فيما يتعلق بالمفاوضات المحتملة مع الولايات المتحدة. وقد وضح خامنئي أنه لا يرفض إمكانية الحوار مع الولايات المتحدة حول مسائل معينة، مثل العراق، ولكنه شدد على أنه يجب عدم الاتكال على الأمريكيين. على الرغم من تحفظه المبدئي من الولايات المتحدة، إلا أن خامنئي سمح لروحاني بدفع مبادرته الدبلوماسية قدمًا. وفي مقابلة مع شبكة CNN، شدد الرئيس على أن المرشد الأعلى لا يعارض المفاوضات مع الغرب طالما كان الأمر حيويا لتحقيق المصالح الوطنية الإيرانية. وقد بدا التغيير في موقف خامنئي واضحًا في الخطاب الذي ألقاه بتاريخ 22 أيلول في مؤتمر قادة حراس الثورة في طهران، إذ أعلن فيه أنه لا يعارض الدبلوماسية وأنه يدعم التوجه الذي أسماه “المرونة البطولية” طالما كان معروفا من هو العدو الذي يقفون أمامه.
هذه ليست المرة الأولى، منذ نشوب الثورة الإسلامية، التي تفحص فيها الدولتان إمكانية التقارب فيما بينهما. ردًا على سياسية خاتمي المتساهلة، ألغت الولايات المتحدة في مستهل العقد السابق جزءًا من العقوبات التي فرضتها على إيران، وحتى أن وزيرة خارجية الولايات المتحدة، مادلين أولبرايت، كانت قد أبدت أسفها لتدخل بلادها في الانقلاب الذي أدى إلى الإطاحة برئيس حكومة إيران، محمد مصدق، في العام 1953. على الرغم من ذلك، يبدو أن زعماء الدولتين قد توصلوا وللمرة الأولى منذ الثورة إلى الاستنتاج أن المفاوضات المباشرة بينهما تخدم مصالحهما الوطنية.
تصبو الولايات المتحدة إلى إيجاد حل دبلوماسي للأزمة النووية الإيرانية وهي تعتقد أنها قد تستعين بإيران في حل الأزمات في سوريا والعراق. أما إيران من جهتها فقد اقتنعت بأن الطريق إلى إلغاء العقوبات، وهو أمر ضروري لحل الأزمة الاقتصادية، يستوجب التفاوض مع واشنطن.
يثير توجه التقارب بين إيران والولايات المتحدة المخاوف ليس في واشنطن فحسب، بل كذلك في إسرائيل وفي العالم العربي. صحيح أن الإدارة الأمريكية كانت قد أرسلت مؤخرا رسائل تهدئة إلى إسرائيل مفادها أن واشنطن لا تنوي إلغاء الضغط على طهران في جهودها لكبح برنامجها النووي. يبدو واضحًا، على الرغم من ذلك، أن هذه الرسائل غير كافية لتهدئة إسرائيل التي تتخوف من تسوية أمريكية-إيرانية تبقيها لوحدها في المعركة ضد إيران، وقد تبقى بين يدي طهران قدرة نووية تتيح لها تحقيق خيار نووي عسكري في المستقبل.
قد يكون تأثير التقارب الإيراني-الأمريكي على العالم العربي متفاوتًا. فمن جهة، ينصهر التقارب بين الدولتين في إطار سياسة خارجية مسالمة شاملة يقودها الرئيس روحاني مقابل جارات إيران العربية أيضا، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية. إن توجه روحاني نحو تحسين العلاقات مع الدول العربية السنية يتجسد مؤخرا في سلوكه الحذر والمتوازن خلال الأزمة السورية. من شأن التقارب على محور طهران-واشنطن أن يُبعد إيران عن المحور الراديكالي وأن يساعد في تحسين علاقاتها مع دول الخليج ومع تركيا. من جهة أخرى، فإن تسوية بين إيران والغرب حول المسألة النووية قد تُفسر على أنها اعتراف أمريكي بقدرة إيران النووية التي تعتبرها الدول العربية، وبالأساس دول الخليج، تهديدًا حقيقيًا.
إن قدرة الرئيس الإيراني على دفع مبادرات سياسية على الحلبة الإقليمية والدولية وإحداث تغيير كبير في السياسة الخارجية الإيرانية، متعلقة بقدر كبير بحرية التصرف التي سيمنحه إياها المرشد الأعلى. من المتوقع، في أي حال من الأحوال، أن تكون المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة معقدة وشاقة، وخاصة حيال ترسبات الماضي وعدم الثقة المتبادل. يبدو، على الرغم من ذلك، أن معارضي هذا التقارب يدركون أن قطار المفاوضات قد خرج من المحطة وثمة شك كبير ما إذا كان من الممكن إرجاعه إلى الخلف.