إذا كنتم بين عشاق الغناء والحضارة الشرقيَين ولا سيما الحضارة المغربية، فأنتم تعرفون، دون شك، المطربة ريموند. بعد مسيرة فنية تجاوزت 45 عاما، وهي في السبعين من عمرها، لا تستريح النجمة ريموند أبو قسيس لحظة، وتستمر في فتن الأسرة المالكة المغربية ومحبي الموسيقى المغربية الحقيقية، بكل إيقاعاتها غير المتماثلة، عذوبتها العميقة، والإحساس والجمال الناتجَين منها.
تروي لنا ريموند، في لقاء خاص، عن بدايات مسيرتها الموسيقية، محبتها للحضارة المغربية الأصيلة، وعن ظمأ آخذ بالتزايد لدى الجالية اليهودية في البلاد لـ”حضارة الوطن”، حضارة الجذور المغربية.
مَن لم يحظَ بفرصة التعرف إلى هذه الشخصية المميزة، ريموند، إلى جمالها الأخاذ حتى بعمر 70 سنة، والاستماع إلى صوتها العذب في تأدية أغانٍ مغربية أصيلة بلكنة مغربية، تتسلل إليها كلمات غير قليلة باللغة الفرنسية، من لم يحظَ بهذه الفرصة يبدو أنه خسر فرصة التعرف إلى شخصية تمزج بسحر خاص حضارتَي المشرق والمغرب في آنٍ واحد.
أصبحت ريموند أبو قسيس منذ مدة طويلة نجمةً من الدرجة الأولى في المغرب، سليلة أخيرة للمطربات الكبيرات في بلاط الملك المغربي حسن الثاني (رحمه الله) وابنه محمد السادس. أبو قسيس، ابنة مدينة الدار البيضاء هي مطربة وممثلة إسرائيلية. بدأت مسيرتها كمطربة تغني أساسًا باللغة العربية، ورافقت الملك المغربي، حسن الثاني ، والأوركسترا الملكية، لمدة خمس سنوات في زياراته الرسمية في العالم. هاجرت مع عائلتها من المغرب إلى إسرائيل في سن صغيرة جدا، ومنذ أواسط الثمانينات شرعت بالتمثيل في عدد من الأفلام السينمائية والعروض المسرحية في إسرائيل، في فرنسا ومونتريال. وكل هذا، صدّق أو لا تصدّق، بدأ صدفةً…
كيف بدأت محبتكِ للموسيقى الشرقية، العربية؟
“منذ ولادتي أحببتُ الموسيقى العربية. وُلدتُ في الدار البيضاء. لم أركّز على الموسيقى المغربية تحديدًا، فقد كانت اللهجة المغربية ثقيلة عليّ. كنتُ أعشق المطربة المصرية فايزة أحمد. كانت تمثل الذروة بالنسبة إليّ، على الرغم من أنّ أفراد أسرتي جميعهم كانوا يحبون أم كلثوم حينذاك. أحببتُ جدا عبد الوهاب أيضًا، فقد كان طربًا حقيقيًّا. كان أبي يغني لعبد الوهاب، وقد نقل إليّ هذه الجرثومة التي تُدعى عبد الوهاب، والشغف بالموسيقى العربية”.
تروي أبو قسيس أنه مع هجرتها للبلاد (عام 1963)، انتقلتْ للسكن مع أسرتها في مدينة أشدود الجنوبية: “كنتُ إذّاك صغيرة جدا، لم أبلغ العشرين من عمري بعد، وتملكتني رغبة شديدة في العودة إلى المغرب بسبب الطابع الاجتماعي للمجتمع الذي نشأتُ فيه. في أشدود لم يكن شيء من هذا. كنتُ أبحث عن الحرية، التي كانت تتجسد في نظري بالعودة إلى المغرب”.
تعرفت أبو قسيس لاحقًا إلى زوجها الذي كان قادمًا من بلجيكا في زيارة لوالدَيه: “تزوجنا بعد عامَين في 1965. بدأنا نبني حياتنا هنا في أشدود. رغب زوجي بشدة في دراسة هندسة الإلكترونيات. لم نمتلك الموارد الكافية، فقد عشنا بصعوبة شديدة، كان زوجي يدرس فيما قمتُ أنا بإعالة العائلة كخيّاطة. لم تخطر الموسيقى لي على بال حينذاك. فكرتُ في الطريقة الأفضل لإعالة عائلتي التي أخذت تكبر في تلك الأثناء، وابتدأتُ بالعمل في الخياطة. كانت أمي خياطة مهمة في المغرب، وتعلمتُ منها أسرار المهنة”.
فور ولادة ابنتها الكبرى ياعيل (التي أصبحت بمرور السنين ممثلة وعارضة شهيرة جدا في إسرائيل)، حملت ريموند مجددًا، لكن الطفلة توفيت بعد فترة قصيرة من ولادتها جراء مرضٍ ألمّ بها: “كنتُ في أزمة، وأصبحتُ كئيبةً. تعرف زوجي في ذلك الحين إلى ملحن مغربي شهير يُدعى ألبرت سويسة. طلب منه أن يزورنا في المنزل ليطيّب أوقاتنا بموسيقى عربية أصيلة تخرجني من كآبتي، وقد نجح ذلك. بحث سويسة في الفترة عينها عن مغنية من أصل مغربي لأسطوانة كان يريد تسجيلها في البلاد، ولم يجد. أرشدتُه إلى مغنية صديقة كنتُ قد تعرفتُ إليها، وعرضتُ عليهما أن يعملا على الأسطوانة عندي في البيت. ولكن سرعان ما أدرك سويسة أنه لن يستطيع تسجيل الأسطوانة، إذ لم تستطع صديقتي التمييز في النطق بين “السين” و”الشين”، وكان ذلك فظيعا”.
يومًا ما، تخبرنا ريموند، سمعها سويسة تغني لابنتها ياعيل أغاني مغربية: “توسل إلى حماتي وزوجي أن يقنعاني بالغناء في أسطوانته. لم أوافق، فقد أحببتُ سماع الموسيقى الشرقية، لكنني أحببتُ بالمقدار نفسه الاستماع إلى سيلفي فرتان وجاك بيرل. عارضتُ الاقتراح بشدة. والغناء بالمغربية أيضا، كان صعبا عليّ. لا تنسَ أننا لم ندرك حينذاك عظمة الموسيقى الشرقية. كنا نخجل بذلك. فعندما كنت أستمع إلى عبد الوهاب في البيت، كنتُ أخفض صوت المذياع من شدة الخجل، حتى لا يعرف الجيران أنني أحب الاستماع إلى الأغاني العربية. بعد محادثات لا تُحصى مع حماتي، وبعد أن نلتُ بركتها، وافقتُ على مساعدة سويسة شرطَ ألا يظهر اسمي ولا صورتي على الأسطوانة. ما زلتُ أحتفظ إلى اليوم بنسخة من الأسطوانة دون صورة أو اسم”.
لم تتأخر ردود الفعل الحماسية والمشجّعة. بدأ الناس بقرع بابها والطلب منها أن تحيي سهرات حناء خاصة، مهرجانات، حفلات “ميمونة”، ومهرجانات الغناء الشرقي في البلاد. بلغ الصوت المميز والقوي فورًا أوساطَ السياسيين والسفراء، وبدأ رسميون بنقل الأغاني إلى المغرب.
كيف تعرفتِ بالملك حسن الثاني؟
“كان لإسرائيل بعض العلاقات بالأسرة المالكة المغربية. بعد أن اشتهرتُ في البلاد، قدم سفير إسرائيل في المغرب حينذاك أسطوانتي إلى الملك في إحدى الجلسات. كانت أسطوانتي مغطاة بأسطوانة لأم كلثوم. فقد خجلوا من عرض أسطوانتي مع الكتابة بالعبرية. الملك حسن الثاني … “الله يرحمه” (تشدد بطريقة مغربية محضة) طلب فورًا أن تُرسل إليه أسطوانة مع صورتي. قال الملك لضيوفه أنني “وحدة منهم”.
أثار اللقاءُ مع الملك ريموند بشدة: “كان إنساناً محترمًا جدًّا. أراد في المقابلة الأولى أن يسمع كل شيء عن الجالية المغربية في البلاد، عن اختبارات عائلتي إثر الهجرة لإسرائيل. عرّفني بالأوركسترا الملكية. وبعد عدد من الحفلات، بدأتُ بمرافقته في رحلاته الرسمية في العالم، وبالغناء أمام ضيوفه ومضيفيه. تعرفتُ بالملك المغربي محمد السادس منذ كان طفلًا. من المتعارف عليه في اللقاءات مع الملك تقبيل يده ويد الأمير ولي العهد. أدى الاحترام المتبادل الذي كنا نكنه الواحد للآخر بمحمد السادس أكثر من مرة إلى أن يقبّلني على خدي. فهو لم يرِد أن أقبّل يديه. هذا شرف عظيم، فهو رجل نبيل حقا يجيد احترام النساء”.
يبدو أنكن تُكرّمنَ وتُعرفنَ في الدول العربية تحديدا أكثر من إسرائيل؟
“كان ثمة أزمة. كثير من المغنين والمغنيات الذين انتقلوا من الدول العربية إلى إسرائيل لم يحالفهم النجاح. لم يكن هذا مقبولًا في إسرائيل في الخمسينات والستينات. لم أمر بهذه الأزمة، فقد عرفني الناس هناك وهنا أيضًا. عملتُ بجد في فني. استصعب مطربون وملحّنون آخرون كزُهرة الفاسية والأخوين صالح وداود الكويتي (ملحنَين مهمَين من العراق) الاندماج في الحضارة الإسرائيلية. لم يعرف المجتمع ولم يقدّر حينذاك الغناء الشرقي كما يجب. تتغير الأمور اليوم. فريتا تعود للغناء بالفارسية، وزهافا بين وسريت حداد لا تخجلان من غناء خيرة أغاني فيروز وأم كلثوم أمام جمهور إسرائيليّ. وكذلك دودو طاسة، المغني الإسرائيلي الناجح جدا اليوم، حفيد داود الكويتي، قام بتكريم موسيقى جده العراقية في الأسطوانة الجديدة التي أنتجها”.
فقدت ريموند، التي لم تكن حياتها سهلة، زوجها في طريقها لإحدى الحفلات بعمر 33 عاما، وقامت منذ ذلك الوقت بتنشئة ولديها ياعيل وأليئيل بمفردها. وقد اندمج كلاهما لاحقا في الحضارة الإسرائيلية كمغنيَين وممثلَين. اللافت للنظر هو أن ريموند، بخلاف الكثير من المغنين ذوي الجذور الشرقية، رفضت إصدار أسطوانة بالعبرية. تقول: “رفضتُ دائمًا الغناء بالعبرية. لا أريد أن أكون نصف مطربة. خلال كل مسيرتي الفنية، وضعتُ هدفا واضحا جدا أمام عينيّ: الغناء بالعربية المغربية الكلاسيكية، شاقةً ممرًّا حضاريا مباشرًا بين إسرائيل والمغرب عبر الأغنية المغربية، ولا أعتزم التخلي عن ذلك. وجدتُ نفسي في الغناء العربي”.
تأمل ريموند أن ينشأ جيل يتابع الحضارة المغربية في إسرائيل، وتناشد المغنين والمغنيات أن يكملوا هذا التقليد. ظهرت ريموند مؤخرا في تمثيلية باللغة المغربية “عرس تربيع”، تخبر: “ثمة ظمأ للحضارة المغربية في البلاد. رغم أننا قمنا بتمثيل هذه المسرحية في مدن الضواحي في إسرائيل عشرات المرات، فكل مرة كنّا نندهش لرؤية مدى امتلاء القاعات بأشخاص من أجيال شابة وكبيرة يفهمون اللغة. ليت هذا الجيل يجد استمراريته!”.
ما هو رأيكِ بالموسيقى الشرقية – الإسرائيلية اليوم؟
“الأمور أسهل للمغنين الشرقيين الشبان اليوم. فهم يتوجهون لجمهور المهاجرين من الدول العربية، وينجحون في إضفاء سحر على صناعة الموسيقى في إسرائيل. إنهم يتوجهون لكل الاتجاهات: لليبيين، للمغاربة، للعراقيين، لليمنيين، وحتى للشكناز. نالت هذه الأغاني هوية جديدة ومحلية إسرائيلية. هل تسألني إن كنتُ أحب الاستماع لهذه الأغاني؟ أجيبك بأنني لا أعرف أية أغنية، فأنا لا أحب هذا الأسلوب، وهو لا يمسني، إنه برأيي (وجع رأس). أقدّر أيال جولان وسريت حداد، فهما يغنيان بشكل رائع، لكنني لا أشعر بالتماثل مع الإيقاعات. لا أستمع إطلاقا إلى الموسيقى الإسرائيلية الحالية، فأنا ملتزمة بسماع ومتابعة تطورات الغناء العربي. أنا مُعجبة بصوتَي ملحم بركات وجورج وسوف، حتى أنني غنيتُ مع ملحم في باريس. ما زلتُ أستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية: أم كلثوم، فايزة أحمد، وعبد الوهّاب”.
رغم سنها المتقدمة نسبيا، لا تزال ريموند تلهب مسارح المغرب برفقة زوجها الجديد الذي تعرفت إليه مؤخَّرًا، وهي تظهر في عدد لا يُحصى من الحفلات في المغرب، فرنسا، ومونتريال.
كيف تشرحين نجاحك في العالم العربي؟
“أُفاجأ كل مرة من جديد. في رحلتي الأخيرة إلى مهرجان الموسيقى المغربية في مدينة سويرا، استقللتُ سيارة أجرة. تحدثتُ وزوجي بالعبرية، ولم يتوقف سائق سيارة الأجرة عن التحديق بي. عرفني، واتصل فورًا بزوجته مخبرًا إياها: “لن تصدقي من معي في سيارة الأجرة، إنها ريموند البيضاوية”. وهذا ما يمنحني القوة لأستمر، تقدير ومحبة الجمهور”.