لقد سُرّ الكثيرون لسماع تصريح قائد التنظيم الإسلامي “جبهة النُصرة” في سوريا حول كون تنظيمه جزءًا من “تنظيم القاعدة”. وقد ادعت أوساط من الخبراء أنه أخيرًا، وبعد مراوغة مستمرّة، يعترف أعضاء التنظيم بانتمائهم لشبكة الإرهاب الدولية. هذا إثبات واضح حول الادعاء الإسرائيلي-الأمريكي بأن كثيرين من الثوار في سوريا تربطهم علاقة فعلية مع “القاعدة”.
وقد كشف التصريح النقاب عن هذه العلاقة الواضحة، غير أنه كشف أيضا حقيقة أخرى وهي الأزمة الكبيرة القائمة اليوم داخل القاعدة، وبالأساس الأزمة بين الجناح العراقي والجناح السوري فيها.
وكان قد بدأ “رقصة الشيطان” هذه أيمن الظواهري ذاته. في أول بث علني له منذ قتل أسامة بن لادن، أعلن زعيم القاعدة الجديد عن أن “جبهة النُصرة” هي بالفعل فرع تابع لتنظيمه. وقد كان هذا الإعلان جزءًا من نقاش طويل حول انهيار الإمبراطورية العثمانية وإقامة الدول الصغيرة في الشرق الأوسط. وعلى نهج التقاليد الإسلامية، دعا الظواهري إلى توحيد هذه الدول تحت كنف إمبراطورية إسلامية جديدة.
أما من سارع إلى الرد على أقواله فكان أبو بكر البغدادي، زعيم القاعدة في العراق، الذي استبدل اسم مجموعته باسم “دولة العراق الإسلامية” (ISI). وقد أعلن البغدادي في تصريحه عن إلغاء الأسماء السابقة – “دولة العراق الإسلامية” و”جبهة النُصرة” وأعلن عن أنه سيتم توحيد العراق وسوريا منذ الآن تحت دولة واحدة “الدولة الإسلامية في العراق والشام”. على الرغم من أنه لم يذكر اسم زعيم الدولة المنتظر إلا أنه كان من الواضح من تصريحات مثل “لقد درّبنا مقاتلينا وأرسلناهم إلى سوريا” أو من إعلانه عن قراره السابق في إرسال المقاتل أبو محمد الجولاني إلى هناك لقيادة النضال، أنه يرى في نفسه القائد الأعلى ولذلك فهو سيكون الزعيم القادم.
لم يكن بإمكان محمد الجولاني عدم الرد على ذلك. كان رده الذي نُشر في نهاية الأسبوع المنصرم ناتج عن كتابة دبلوماسية تنمّ عن تفكير عميق وتصوّر الجولاني على أنه زعيم حذق. وقد افتتح التصريح بمقطع من سورة العنكبوت في القرآن الكريم، التي تتناول الإيمان وتشمل الآية “فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ”. يروي الجولاني في بداية التصريح إلى أي مدى فوجئ من تصريح زميله العراقي. ويقول: “لقد كانت هنالك بالفعل شائعات حول مثل هذا الخطاب للبغدادي، ولكن لم يتم إبلاغ أي شخص من المجلس الاستشاري في “جبهة النُصرة” بذلك، ولم يتم إبلاغ عبدكم الأمين”.
ويقول الجولاني بنبرة توبيخ دفينة، بما أن السر قد انكشف، يمكن الاعتراف بأن منظمتنا هي بالفعل جزء من القاعدة، وأنها وُلدت داخل المنظمة العراقية التي كانت لها بمثابة دفيئة ومنبت وقد تم تدريب مقاتليها هناك. وبالفعل، فإن الدّين الذي يستحقه الأخوة العراقيون والمهاجرون في خدمته (المقاتلون المتطوعون من الخارج) هو دين كبير جدًا، ولن نتمكن من سداده إلى الأبد. نحن فخورون جدًا بنصيبنا في النضال العراقي والتضحية غير المسبوقة التي بذلها المقاتلون العراقيون والمتطوعون. صحيح أن الشيخ البغدادي ذاته قد ساعدنا كثيرًا، وحتى أنه لبى نداءنا للمساعدة في المشروع الذي اقترحناه عليه – تحرير المضطهدين في الشرق (سوريا ولبنان). على الرغم من ضائقته فقد ساهم بمساعدتنا وأرسل إلينا مقاتلين، وعلى الرغم من قلة عددهم إلا أنهم نالوا بركة الله.
ويوضح الجولاني قائلا أنه صحيح أن الشؤون السورية تخص السوريين ونحن قد أجّلنا إعلاننا عن الانتماء إلى القاعدة ليس لإخفاء انتمائنا وليس بهدف إرضاء العراقيين، بل بسبب إرضاء زملائنا في التنظيمات الأخرى داخل سوريا وأولئك الذين يدعموننا من الخارج. (بكلمات أخرى – ناهيك عن أنه لم يتم تنسيق تصريح أخوتنا العراقيين معنا، بل إنه يفتقر إلى أي ركيزة. إنه يلحق الضرر بنا أيضًا في نضالنا داخل سوريا).
في الختام يعلن الجولاني عن وفائه للقاعدة ولزعيمها الظواهري وعن استعداده لتنفيذ أي أمر يصدر عنه، فيما عدا الأوامر التي تُعتبر كفرًا. غير أنه في الوقت ذاته يدمج أيضًا تحدٍ ليس خفيًا: “لن نغيّر اسمنا. سنقبى “جبهة النُصرة”، والإعلان عن وفائنا لن يغيّر أسلوب عملنا”.
هذه الإعلانات الثلاثة – تصريح الظواهري زعيم القاعدة، تصريح البغدادي القائد العراقي وتصريح الجولاني، القائد السوري – مثيرة بحد ذاتها بسبب ما تكشفه وما تحاول إخفاءه. على الرغم من اللباقة الظاهرية، على الرغم من التصريحات المتكررة حول الوفاء للطريق وللزمالة، من الواضح أن الحديث يجري هنا عن صراع عنيد حول المناطق، السيطرة والزعامة. يمكن لهذا الصراع أن يذكّر المتمرسين في أبحاث الشرق الأوسط بنزاع يكاد يكون مطابقًا من ناحية الغرائز والقوى، وقد تلحّف هو أيضًا بوشاح الأيديولوجية – الانشقاق بين حزب البعث السوري وحزب البعث العراقي الذي حدث على الحلبة ذاتها قبل أكثر من خمسين عامًا.
إن النضال بين الجناحين العراقي والسوري التابعين للقاعدة يمكن أن يعلّمنا عن قوة الحدود الثقافية على امتداد التاريخ بين الكيان السياسي الواقع على ضفاف فرات ودجلة وبين ذلك الذي على ضفاف نهر العاصي. وكما أن فكرة الوحدة العربية لم تنجح في ضمها داخل وحدة سياسية واحدة، كذلك الوحدة الاسلامية يمكن أن تفشل في هذه المهمة. إضافة إلى ذلك، ربما يمكن أن نتعلم من هذه الحادثة حول محدودية قوة القاعدة. كانت القوة الكبيرة للتنظيم كامنة دائمًا في الحقيقة أنها استبدلت النموذج الهرمي المتشدد بنموذج منتشر في سحابة الإنترنت. هذا هو السبب الذي جعل من الصعب محاربتها – إصابة أحد الأذرع وحتى الرأس، لم تصب سائر الأذرع. غير أن هذه المنظومة تكون ناجعة فقط طالما لم يكن لدى التنظيم سيطرة مباشرة على منطقة جغرافية. قد يكون من الممكن الآن، حين أصبحت الشبكة الراديكالية الجديدة تحت اختبار السيطرة المباشرة على الأرض، أن تنكشف نقاط ضعفها أيضًا.