يمكن أن يؤثر عدد من التطورات الداخلية والخارجية بشكل سلبي على مكانة قطر. أوّلًا، انتقال السلطة في قطر. ففي حزيران الماضي، وفي خطوة غير مألوفة، نقل الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني السلطة لابنه، الشيخ تميم، ابن الثالثة والثلاثين، الذي أضحى أصغر زعماء العالم العربي. وثمة مؤشرات إلى أنّ الأمير الجديد ينوي التركيز تدريجيًّا على الشؤون الداخلية ومشاريع التطوير قبل استضافة كأس العالم في كرة القدم عام 2022 – على حساب السياسة الخارجية المبذّرة التي انتهجتها الدولة، والتي بدأت تحصد الانتقاد الداخلي. فثمة من يُطالب في الإمارة (في محادثات مغلقة) أن يُستخدم الثراء الطائل الذي يتمتعون به لتطوير “شوارع في الدوحة، لا في لبنان”.
في السياسة الخارجية، تبيّن أنّ عددًا من رهانات الإمارة كان فاشلًا. فقبل بداية الحرب الأهلية السورية، كانت قطر مقرّبة من النظام السوري. بعد بداية الأحداث في آذار 2011، وظنًّا منهم أنّ أيّام النظام باتت معدودة، أدار آل ثاني ظهرهم لنظام الأقلية العلوية وحليفَيه، حزب الله وإيران، وبدأوا يدعمون المعارضة. أدّى دعم قطر للمتشددين بين الثوار في سوريا (كما سبق أن فعلت في ليبيا) إلى الانتقاد وإلى المسّ بعلاقاتها بالولايات المتحدة، التي تخشى، بشكل مبرّر، من عواقب تعزيز قوة تلك العناصر. مذّاك، خفضت قطر بشكل ملحوظ تدخّلها في الأزمة ودعمها للمتمردين عامةً، لتصبح جارتها الكبرى غربًا، المملكة العربية السعودية، الداعم الأساسي لهم (مثلًا، عُيّن أحمد الجربا، المقرب من السعودية، مؤخرا رئيسًا لائتلاف قوى الثورة في سوريا بدلًا من مصطفى صباغ، المقرب من قطر).
ثمة انتقاد دوليّ متزايد أيضًا للإمارة بعد كشف النقاب عن ظروف عمل العمّال الأجانب على أراضيها (لا سيّما النيباليين والهنود) على خلفية أعمال التطوير استعدادًا لكأس العالم في كرة القدم. فكل سنة، يموت 600 عامل أجنبي في الإمارة. كذلك يمكن أن تمسّ إمكانية نقل البطولة إلى الشتاء بسبب الظروف القاسية في أشهر الصيف في الخليج بهيبة الإمارة، التي ترى أهمية في إجراء البطولة في موعدها الأصلي. اقترحت قطر في السنة الماضية “خدماتها الجيدة” في الاستضافة، وكذلك في التوسُّط في المفاوضات بين الولايات المتحدة وطالبان. وعلقت هذه المفاوضات أيضًا عقب إغلاق مكتب طالبان في الدوحة في وقت مبكر من هذا العام، ما مسّ بهيبة الإمارة والقدرة على الاستعانة “بخدماتها” مستقبلًا.
ميّزت قطر صعود الإسلام السياسي، رغمًا عن أنف جيرانها العرب في الخليج، وحاولت كعادتها ركوب الموجة الإسلامية والتحالف مع ممثلها الأبرز – مصر مرسي. كانت علاقات قطر بمصر متوترة عبر السنين. وتُذكَر في هذا السياق كلمات الرئيس المصري الأسبق مبارك، الذي قال: “لماذا عليّ أن أولي اهتمامي دولةً عدد سكانها كفندق صغير في القاهرة؟”. لكنّ شهر العسل الذي طرأ على علاقات قطر – مصر في عهد الإخوان المسلمين انتهى.
فمع سقوط مرسي، خسرت قطر حليفًا مركزيًّا (قدّمت له 8 مليارات دولار قروضًا وهبات) وقدرتها الكبيرة على التأثير في القاهرة، وعبرها في المنطقة. وسعيًا منها لتحسين العلاقات، ولو قليلًا، حاولت قطر، فاشلةً حتى الآن، في أن تقدّم نفسها بعد الانقلاب في مصر على أنها كانت تدعم دائمًا “الشعب المصري”، لا نظامًا بعينه.
لم يتأثر النظام المصري الجديد بهذه الكلمات، فجمّد المحادثات حول استيراد الغاز الطبيعي من الإمارة، أغلق فرع قناة الجزيرة المحلي، سجن صحفيين عملوا فيها، رفض طلب قطر زيادة وتيرة الرحلات الجوية بين القاهرة والدوحة، حتّى إنه أعاد بشكل احتجاجي هبة بقيمة مليارَي دولار أودعت في البنك المركزي المصري وأعطيت للنظام السابق، ما يشهد على عُمق الأزمة وعلى العلاقات المعكّرة بين البلدَين. في نهاية أيلول 2013، أصدرت السلطات المصرية أمر اعتقال بحق الشيخ يوسف القرضاوي، المقيم في قطر والمحسوب على الإخوان المسلمين، بتهمة التحريض على قتل رجال شرطة مصريّين. وخسرت القناة التلفزيونية القطرية الشديدة التأثير بعضًا من سمعتها في قسم كبير من العالم العربي، إثر تغطيتها للأحداث في مصر، تغطية لا تزال تتميز بالانتقاد للنظام العسكري.
وكان لقطر تأثير ما في إسرائيل أيضًا، إذ حافظت على علاقات مفتوحة معها، أشبه بتطبيع فعليّ، على مدى السنوات. لكنّ عملية “الرصاص المسكوب” في غزة عام 2009 وعلاقات قطر بعناصر مثل إيران وحماس (التي قدّم لها الأمير السابق شيكًّا بقيمة 400 مليون دولار في زيارة حظيت بتغطية إعلامية واسعة “اخترقت” الحصار الإسرائيلي على القطاع) أدّت في نهاية المطاف إلى قطع علاقات البلدَين، وهي علاقات تباهت بها الدوحة، وساهمت في فرادتها في المشهد العربي. رغم ذلك، لا تخفي قطر استعدادها لإقامة علاقات علنية مع إسرائيل شرط أن “تبرهن عن جديتها في العملية السياسية”، سقف أكثر انخفاضًا من الشروط التي يضعها العالم العربي لإقامة علاقات علنية مع إسرائيل.
كدولة صغيرة، على قطر أن تميّز المسارات والاتجاهات وأن تسبق جيرانها الأكبر منها في التأقلم معها، حتى تعزّز أجندتها الخاصة، التي تحركها مصلحة البقاء ليس إلّا. فليس غريبًا أنّ الإمارة الصغيرة استنفدت قوتها وحصدت ردّ فعل عكسيًّا واسعًا على الخطّ السياسيّ الذي تبنّته. وسيكون عليها أن تعدّل سياستها الإقليمية عامةً، وفي مصر على وجه الخصوص، إذا كانت تريد الحفاظ على مكانتها في العالم العربي وعلى مقدار من التأثير. ما دام النظام في مصر لم يرسّخ أقدامه، فقد يستصعب الاستغناء كاملًا عن الدعم القطري. لكن إذا استقر الوضع في مصر دون تغيير في العلاقات بين البلدَين، فسيفضّل نظام العسكر في مصر المساعدة السخية التي سارعت إلى تقديمها جارات قطر، منتجات النفط: المملكة العربية السعودية، الإمارات العربية المتحدة، والكويت.
حتّى بداية الأحداث في سوريا، تميّزت السياسة الخارجية القطرية بالحفاظ على أكبر عدد ممكن من الأبواب مفتوحة، ونسج علاقات مع جميع العناصر في الشرق الأوسط كـ “وثيقة تأمين” من القوى الراديكالية في الإقليم. كان إظهار السياسة المستقلة هذه معاكسًا للحجم الجغرافي لقطر، ونبع عن رغبة قطر في تعزيز أهميتها الإقليمية وحماية الثروات الطبيعية التي بوركت بها.
لعبت الإمارة التي تعُدّ 300 ألف نسمة (فضلًا عمّا يزيد عن مليون عامل أجنبي)، في السنوات الأخيرة في ملعب الكبار، وابتعدت أكثر من اللازم. على ضوء قدراتها الاقتصادية، سيكون صعبًا تجاهلُها لفترة طويلة. لكنّ الضعف (المؤقت؟) للإسلام السياسي في المنطقة قد يجبر الإمارة على التركيز على شؤونها الداخلية، تبني سياسة أكثر حذرًا، وترقّب الفرص. وبالفعل، كانت زيارة تميم الأولى خارج قطر إلى السعودية، كشهادة ربمّا، على محاولة خفض التوتُّر مع الرياض، وربما تبني سياسة خارجية أكثر انضباطًا.
نُشر بالأصل في موقع INSS