بمفاهيم متعدّدة، اُعتبر عام 1972 عامَ ذروة الإرهاب الفلسطينيّ. حيث قامت منظمة “أيلول الأسود”، التي تأسّست على خلفية الصراعات الدامية بين منظمة التحرير الفلسطينيّة والمملكة الأردنيّة الهاشميّة، بمهاجمة أهداف إسرائيليّة وغربيةّ مرارًا كلّما سنحت الفرص بذلك.
في أيار عام 1972 قام أعضاء من منظّمة “أيلول الأسود” بخطف طائرة تابعة لشركة سابينا خرجت من بلجيكا نحو إسرائيل، وطالبوا بتحرير 315 أسيرا فلسطينيّا تواجدوا في السجون الإسرائيليّة. أما إسرائيل فرفضت المناقشة مع الخاطفين، وأرسلت نخبةً من وحدة هيئة الأركان العامة من أجل تحرير الرهائن. وقوة بقيادة إيهود براك وبمشاركة بنيامين نتنياهو، قامت بتحرير المخطوفين عبر مطار الطيران الإسرائيليّ.
وبعد ثلاثة أسابيع من ذلك قام أعضاء من منظّمة “الجيش الياباني الأحمر”، المؤيِّدة لمنظمة الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، بالهجوم على مطار إسرائيل وقتل 24 مسافرا إسرائيليًّا. وكان تتابع الهجمات على إسرائيل مجرّد مسألة وقت، ولكنّ أحدًا لم يتوقّع حدوث ذلك على أكبر المسارح في العالم.
كان من المفترض أن تُمثّل ألعاب ميونخ الأولمبية عام 1972 السلامَ العالمي والمؤاخاة. بحيث كانت أكبر ألعاب أولمبية آنذاك، باشتراك 7170 رياضيًّا جاءوا من 121 دولة وتنافسوا بـ 195 حدَثًا رياضيًّا بثلاث وعشرين فرعا من الرياضات المختلفة.
وكانت حكومة ألمانيا الغربية تتوق إلى محو ذكريات ألعاب برلين الأولمبية الحزينة التي جرت عام 1936، والتي كانت دعاية نازيّة بكل تفاصيلها واُعتبرت حدثا لإثبات سمو وتفوّق العِرق الألماني.
فكرة استغلال الألعاب الأولمبية لتنفيذ أعمال إرهابيّة لم تكن حتى في نطاق الإدراك حينها
في سنة 1972، لم يرغب الألمانيّون بأن يرى ضيوف الألعاب الأولمبية أيّ شرطيّا أو جنديّا يعيدون لهم ذكرياتٍ سيّئة، ولذلك أُجبر الشرطيّون على ارتداء ملابس غير زيّهم الموحّد، وتمّ تجريدهم من الأسلحة. وقد كانت غاية منظمة “أيلول الأسود” بالترهيب والتخريب خلال الألعاب واضحةً أمام الاستخبارات الألمانية، ولكن لم يتمّ القيام بأيّ خطوات ملموسة لمنع ذلك. إذ أنّ فكرة استغلال الألعاب الأولمبية لتنفيذ أعمال إرهابيّة لم تكن حتى في نطاق الإدراك حينها.
تم إمساك عشرة لاعبين، مدرّبين وحُكّام إسرائيليّين – جميعهم من المشتركين بالحدث الرياضي الأكبر- كرهائن بين أيدي المخرّبين
وقد شملت المجموعة الفلسطينيّة التي تسلّلت إلى سَكَن اللاعبين في الخامس من أيلول 1972 ثمانية مُخرّبين، جميعهم يتكلّمون اللغة الألمانيّة. حتى أنّ قسما منهم عمل في قرية الألعاب الأولمبية. حيث قاموا بالتجمّع في إحدى المطاعم الواقعة في محطة القطار في ميونخ مساء الرابع من أيلول قُبيل منتصف الليل. ودخلوا إلى غرف تخزين الأمتعة ثم قاموا بإخراج حقائب مخصصة للرياضة خُبّأت فيها الأسلحة والذخائر، بما في ذلك بندقيات من نوع كلاشينكوف، مسدّسات وقنابل يدويّة من تصنيع الاتحاد السوفيتي. حينها، لبسوا ملابس رياضية لخداع اللاعبين وبذلك وجدوا طريقهم نحو قرية الألعاب الأولمبيّة.
بعد ذلك دخل أعضاء هذه المجموعة إلى المبنى الذي يسكن فيه أشخاص من الوفد الإسرائيليّ، وقتلوا مدرّب المصارعة موشيه فينبرغ الذي حاول إيقافهم وقام بضرب إحدى المخرّبين حتى أفقده وعيه. وتخلّصوا من جثّته عن طريق إحدى النوافذ. وقد استطاع أحد اللاعبين الإسرائيليين الهرب، ولكن تم إمساك عشرة لاعبين، مدرّبين وحُكّام إسرائيليّين – جميعهم من المشتركين بالحدث الرياضي الأكبر- كرهائن بين أيدي المخرّبين.
قد ترك المخرّبون رومانو دون تقديم أي علاج طبّي مُلقًى على أرض الغرفة وهو ينزف حتى الموت، وبعد ذلك تركوا جثّته مع باقي الرهائن كإشارة تحذير
وبعد زمن قصير من هذا الاستيلاء، هاجم يوسف رومانو، لاعب رفع الأثقال، المخرّبَ عفيف أحمد حميد بسكين معدّة لتقشير الفاكهة وأصابه في وجهه بالإضافة إلى أخذ بندقيّته. ولكن سرعان ما أُصيب رومانو على يد إحدى المخربين الآخرين. وقد تركه هؤلاء المخرّبون دون تقديم أي علاج طبّي مُلقًى على أرض الغرفة وهو ينزف حتى الموت، وبعد ذلك تركوا جثّته مع باقي الرهائن كإشارة تحذير.
لم يكن للشرطة الألمانية وحدة قناصة ولا أي وحدة أخرى لتدبّر أمر المخرّبين
بما أنّ القانون الألماني في تلك الفترة قد منع أيّ تدخُّل للجيش في الأمور المدنيّة، قامت الشرطة بمعالجة هذا الحدث. ولم يكن للشرطة وحدة قناصة ولا أي وحدة أخرى لتدبّر أمر المخرّبين. وقد تمّ إلقاء ورقة، قام المخرّبون بطباعتها، من إحدى نوافذ مباني سكنيّة تابعة للوفد الإسرائيليّ، وفيها طلب مُفصّل يقضي بتحرير 232 مخرّبا قُبض عليهم في إسرائيل إضافةً إلى مخرّبَين آخرَيْن أُسروا في ألمانيا. كما هدّدوا بتنفيذ عملّيات قتل إذا لم يتمّ تلبية مطالبهم حتى الثانية عشرة ظهرا. لذلك قامت ألمانيا بتحرير المخرّبَيْن كردّ فوري لمطالبهم.
وقد وافق الألمان على نقل الخاطفين والرهائن في مروحيّات إلى مطار قريب، هناك أرادوا اغتيال الخاطفين وبالتالي إطلاق سراح الإسرائيليّين الذي بقوا على قيد الحياة.
محاولة تصفية المخربين باءت بالفشل، وذلك لأنّ القنّاصة الألمانيّين قد أخطئوا الهدف
ولكن بعد أنْ هبطت المروحيات في المطار، تبيّن للقوات الألمانية أنّه ليس باستطاعتهم تحرير الرهائن وأنّ عدد الخاطفين كبير على عكس ما اعتقدوا سابقا. محاولة تصفية المخربين باءت بالفشل، وذلك لأنّ القنّاصة الألمانيّين قد أخطئوا الهدف. حيث استغلّ المخرّبون هذا الخطأ وقاموا بقتل الرهائن التسع المتبقّين. وألقت الشرطة القبض على ثلاثة من الخاطفين.
على طول السنين منذ ذلك الوقت، عارض أعضاء اللجنة الأولمبية ذِكر هذا الحدث الفظيع في نطاق الألعاب، لادعائهم أنهم لا يريدون دمج الرياضة مع السياسة
ولكِبر خيبة الأمل الإسرائيليّة، عادت الألعاب إلى نطاق التنفيذ لتستمر كما حُضّر لها بعد إيقاف بات 24 ساعة، بينما عاد الوفد الإسرائيلي إلى أرضه يحمل حزنا ثقيلا. وكذلك على طول السنين منذ ذلك الوقت، عارض أعضاء اللجنة الأولمبية ذِكر هذا الحدث الفظيع في نطاق الألعاب، لادعائهم أنهم لا يريدون دمج الرياضة مع السياسة. أمّا الوفود الإسرائيليّة فتُقيم إحياءً لذكراهم في كل موسم للألعاب الأولمبية، ولكن خارج قرية الألعاب الأولمبية، بسبب معارضة اللجنة الأولمبية على إقامة ذلك داخل القرية، بحيث يُقام إحياء الذكرى بشكل عام في مقرّ السفير الإسرائيلي في الدولة المستضيفة.
ادّعى محمد عودة أبو داوود، أحد المخططين والمموّلين لهذه العمليّة، أنّ مصدر التمويل لهذه العمليّة الإرهابيّة هو محمود عبّاس
ادّعى محمد عودة أبو داوود، أحد المخططين والمموّلين لهذه العمليّة، أنّ مصدر التمويل لهذه العمليّة الإرهابيّة هو محمود عبّاس أبو مازن، الذي، آنذاك، عمل سويًّا مع صالح خلف أبو إياد، على تمويل أعمال ومخطّطات “أيلول الأسود”. أمّا عباس نفسه فقد تحفّظ على هذه الاتهامات، وادّعى أنّه لا يعرف وُجهة هذه الأموال.
ومع وفاة أبو داوود في مخيم اليرموك للاجئين، عزّى عباس عائلة الفقيد ونعى عليه في كلمات وصفته “بالأخ وصديق العمر والمُقاتل العتيد والصعب”.
مرّت 42 سنة على هذا الحدث الرهيب. والقضيّة الفلسطينيّة، التي حتى هذا العام لم تتصدّر جدول الأعمال العالمي، باتت أهمّ القضايا التي تهتمّ بها وسائل الإعلام العالميّة. بينما الرياضيّون الأحد عشر، المدرّبون والحكّام الذي سافروا إلى ميونخ بهدف المشاركة في مهرجان مُؤيّد للسلام، هم مَن دفع ثمن القضيّة الفلسطينيّة التي لم تصل إلى حلّ حتّى اللحظة، وهناك شكّ بحلّها حتى في السنوات القريبة.