كان عضو حماس متأهّبا، وكان يعلم أنّ القوات الإسرائيلية خارج المبنى وقد تقتحمه وتدخله في كل لحظة. ولم يكن يعلم عدد الجنود إطلاقا وأية ذخيرة في حوزتهم. وقد شدّد قبضته على السلاح ورفع رأسه لينظر من النافذة. بدفعة صوت واحدة، اندفع نحو فرقة المقاتلين من لواء “كفير” (لواء المشاة، وهو لواء شاب في الجيش الإسرائيلي ولكنه الأكبر من بين ألوية سلاح المشاة. أفراده مختصّون في الحرب المحدودة والقتال ضدّ الإرهاب مع التركيز على الحرب في الأماكن المبنية في الضفة الغربية وغزة) وصرخ بغضب النار النار النار النار النار.
إنه ليس سيناريو كابوسي أو سيناريو مأخوذ من فيلم إثارة هوليوودي، إنه واقع يعيشه جنود لواء “كفير” في الجيش الإسرائيلي والذين يتدرّبون في الأوقات العادية قبيل المعركة الإسرائيلية القادمة. ويبدو أنّ المعركة القادمة ستكون قاب قوسين أو أدنى.
وفي ذروة يوم حارّ بشكل خاص، رغم أننا تقريبا في منتصف شهر كانون الثاني، في مكان ما في الصحراء، جنوب بئر السبع، وقف القائد عوز ونظر إلى المقاتلين الشباب، الذين يحملون على أكتافهم عبء التدريبات المكثّفة. وكما وقف المصوّر وأنا أيضا على جانب الطريق، بما تبدو وكأنها نسخة عن مدينة غزة.
“هناك أهمية كبيرة لهذه التدريبات لأنه يُفترض بنا أن نعمل عندما تستدعي الحاجة. مهمّتنا هي حماية الوطن وقد علّمتنا الحروب الأخيرة المزيد والمزيد عن أعدائنا وتشبه المنشأة التي نتدرّب فيها هذا الأسبوع بشكل تام تقريبا شوارع غزة الضيقة ومخيّمات اللاجئين في الضفة”، قال لي بهدوء عوز وهو قائد التدريبات في لواء “كفير”.
كانت المرة الأخيرة التي كنت فيها في شوارع غزة، في وقت ما في نهاية الثمانينيات. قبل بضعة أشهر من الانتفاضة الأولى، كنت في الخامسة أو السادسة من عمري. في ذاكرتي المبهمة، أذكر سفري مع جدّي، الذي ذهب لزيارة أعمامي الذين يسكنون في مكان بعيد وكانوا لا يزالون في جباليا. إنّ الأسوار هنا، في منشأة تدريبات الجيش الإسرائيلي، تذكرني بالمباني التي رأيتها هناك. ذكرتني سيارة المرسيدس السوداء، التي زُرعت هنا عمدا في جانب الطريق، بثراء المدينة في ذلك الوقت. لقد أحبّ الغزيّون هذه السيارات. كان ذلك يبثّ الفخامة. ومنذ ذلك الحين تدهورت حالة المدينة وانعزلت عن العالم. فسيطرت حماس عليها بالقوة ويكافح سكانها صعوبات التأقلم في الحياة ومشاكل الهرب من حرب لأخرى.
جعلتني جميع هذه الأفكار أتذكر محادثتي مع القائد الشاب، عوز. وهو يبلغ من العمر 27 عاما، متزوج ولديه طفل. خلال الجولة التي أجريناها مع القائد الشاب، أدركت أنّ الحديث يجري عن شخص في الجيش “موهوس” والذي سيصل بعيدا في سيرته العسكرية. وقد شهدت أقواله الموجزة والقصيرة على شخصيته القوية. حاولتُ أن أبحث عن الرجل الذي يقف خلف شخصية القائد وفي كل مرة كنت أسأله سؤالا محرجا قليلا كان يبتسم بخجل ويحاول تقديم إجابة ذات صلة.
هل شاركت في المعركة الأخيرة في عملية “الجرف الصامد”، سألتُ عوز؟ “نعم”، أجابني تلقائيًّا. “كنت هناك لسبعة عشر يومًا مع جنودي. وقد خضنا خلال المعارك الضارية مواجهات صعبة. في أحد الكمائن، أصيب قائد فصيلي وقمنا بإخلائه. ويثبت هذا لنا فقط إلى أي مدى يكون القتال في المناطق المبنية والمزدحمة خطيرا، ولذلك فنحن نأتي إلى هناك لنتدرّب. وهذا بهدف أن يكون جنودنا مستعدين في اللحظة الحقيقة”.
ويحاكي مركز الحرب المدينية في ثكنة تسأليم، في الجنوب، بالنسبة لكتائب سلاح المشاة والمدرّعات في الجيش الإسرائيلي، المدن الفلسطينية، بكل ما في ذلك من معنى. وخُصّص هذا المركز الذي بُني عام 2006 للتدريب على حرب في المناطق المبنية.
والمبنى هو نسخة مطابقة للمدن التي يمكن إيجادها في الضفة الغربية أو في غزة، بما في ذلك الكتابات في العربية، المساجد والمباني متعددة الطوابق. يواجه الجنود الذين يأتون للتدرّب في المنشأة في الواقع تحدّيا مماثلا لذلك الذي ينتظرهم في القتال في المناطق المدينية: المنازل التي يمكن أن يختبئ القناصون فيها، الأزقة الضيقة، الشوارع، الجدران الإسمنتية، والمباني التي تصعّب على الرؤية والحركة.
وفقا لكلام عوز، فالمنشأة التي أجرينا فيها الجولة هي المركز الأكثر تطوّرا من نوعه في العالم. إنها تحتوي على كاميرات مركّبة على أعمدة وتصوّر كل مساحات “المدينة”، بالإضافة إلى نُظُم تحديد المواقع والتي تستند إلى أشعة الليزر، وتسمح للجهات التي تحقق في التدريب أن يعرفوا تماما من أين أتت كل قوة، وإلى أين تتحرك، أين اقتحمت وغير ذلك. كل قوة مجهّزة بجهاز إرسال، نظام التموضع العالمي (GPS)، والذي يحمله أحد الجنود على ظهره، وهو يبثّ موقعه على خارطة معروضة على شاشة في مركز المراقبة.
يستمع المراقبون، من قادة السرايا أو نواب قادة كتائب الاحتياط، أيضا إلى شبكات الاتصال الكتائبية ويوثقون جميع الاتصالات بين القوات المتدرّبة.
“منشأة التدريب متطورة إلى درجة أنّه في كل عام تأتي إلى هنا جيوش الولايات المتحدة ومؤخرا أيضًا جيوش ألمانيا من أجل التدرّب معنا”، كما يقول عوز. وعندما سألته مازحًا، من هو الجيش الأقوى في رأيه، قال ببساطة “بالتأكيد جيشنا”.
إنّ المقاتلين الذين يتدرّبون معنا ونحن ما زلنا نرافقهم إلى مجال مركز المدينة، تعاملوا مع مدينة التدريبات التي أمامهم بجدية تامّة. لقد تحرّكوا جاثمين، ركضوا، احتموا، ردّوا بإطلاق النار، “طهّروا” مبانٍ، أمسكوا بمواقع سيطرة وقفزوا من مبنى لآخر. لم يتعامل أحد مع التدريبات وكأنها لعبة.
وقد صعّبتُ الأسئلة على عوز، فسألته، بماذا يفكّر في اللحظة التي يواجه فيها النيران الحيّة الموجّهة إليك؟ “أفكر أولا حول كيفية الدفاع عن القوة. كيف أتفادى الرصاص”. لا تفكر بالموت؟ “لا شك لمن واجه مثل هذه الحالات للمرة الأولى بأنّها تجربة فريدة من نوعها، تجعل الجنود يبتلعون لعابهم ومن ثم يستعيدون رباطة جأشهم ويؤدون عملهم”.
“لا أريد خوض المزيد من الحروب. ولكننا نؤدي واجبنا لحماية بلدات الجنوب من إطلاق الصواريخ. تعيش أسرتي في أشكلون وعندما أشارك في عملية عسكرية أفكر فيها. يهمّنا أيضًا الحفاظ على كرامة الإنسان. نحن لا ندخل أبدا إلى المستشفيات أو العيادات أو منازل المواطنين الأبرياء. إذا لاحظنا نشاطا معاديا في المنازل أو المراكز المدنية عندها نعزل السكان الأبرياء قدر الإمكان ونتأكد قدر الإمكان من أنّه ليس هناك نشطاء حماس في المنطقة والذين قد يطلقون النار تجاه القوات أو يطلقون الصواريخ تجاه البلدات الإسرائيلية”. يخبرني عوز أنّه من استخلاص العبر من الحرب الأخيرة تم أيضًا تطوير منشأة التدريبات وبدأ الجنود بالتدرّب على تحديد مواقع الأنفاق المفخخة وكيف يمكن تحييد النشاط المعادي من الأنفاق.
وقد طوّر الجيش الإسرائيلي في السنوات الماضية في أعقاب الحرب في غزة ولبنان تدريبات خاصة ومبادئ للحرب في المناطق المبنية. ومنها ما هو معد للاحتلال الكامل للمدن وبعضها الآخر مخصص لتنفيذ عملية المحدّدة مثل اعتقال المطلوبين. تتألف القوات المشاركة في القتال في المناطق المبنية من جنود الاستخبارات، الطب، قصاصو الأثر، خبراء المتفجّرات والمقاتلين.