انقلاب عسكري ضد سلطة منتخبة في مصر في الثالث من تموز/يوليه 2013. إن حقيقة كون الانقلاب قد رافقه احتجاجا جماهيريا شارك فيه آلاف الأشخاص، بل ربما عدة ملايين (من أصل عدد سكان يبلغ أكثر من 80 مليون نسمة)، ضد سلطة تم انتخابها، والحقيقة أن السلطة المنتخبة هي إسلامية، لا تزيد ولا تنقص فيما يتعلق بالمقولة المذكورة أعلاه. البيت الأبيض الذي “لم يقرر بعد” ما إذا كان الحديث يجري عن “انقلاب عسكري”، وذلك بعد نحو أسبوع من الإطاحة بالرئيس مرسي على يد الجنرال السيسي ، قد وفر فترة استراحة لا غير، ربما تكون هزلية وربما تكون مربكة، في هذه المسألة، لأن الأيام التي مرّت توضح بالذات وبشكل أكثر قوة الناحية العسكرية للانقلاب في مصر.
الإخوان المسلمون بعيدون كل البعد عن أن يكونوا الحمل الوديع. في محاولة لتحقيق إنجازهم الرائع في الانتخابات الديموقراطية وتعزيز سلطتهم، أثاروا ضدهم خصومهم وخلقوا لهم أعداء جدد من الناحية العملية. لقد شاهدت النخبة البيروقراطية والقضائية بغضب كيف يتم إقصاؤها عن مراكز القوة لصالح المقربين من الإخوان، وقد ارتدع الليبراليون حيال الخطوات التي تم تفسيرها على أنها أسلمة القطاع العام؛ وقد نفذ صبر مدنيين كثيرين حيال عدم قدرة السلطة الجديدة على ترسيخ الاقتصاد والأمن الشخصي. وقد ظهرت انشقاقات داخل “الإخوان” ذاتهم وفي العديد من الأحيان كان يبدو أن قيادة الأكثر تطرفا تؤثر على مرسي أكثر مما أثرت عليه جهات براغماتية وإصلاحية في الحركة. غير أن المفارقة هي أن كافة هذه الجهات قد أضعفت سلطة مرسي ووفرت لخصومه ذخيرة ممتازة في النضال على الرأي العام. لم تكن سلطة الإخوان، بكل مساوئها، قوية، متغطرسة وتحتقر خصومها كما حدث في الجمهومليكة لدى مبارك في سنواته الأخيرة؛ لقد تراجعت شعبية الإخوان في الرأي العام المصري والعربي في السنتين الأخيرتين، وقد كانت الهزائم التي منيوا بها في الانتخابات الحرة في اتحادات الطلاب الجامعيين العريقة في مصر، تونس والأردن دليلا قاطعا على ذلك. وقد قرر الجيش، في هذه النقطة بالذات، بكل ما في الكلمة من معنى، to jump the gun.
ثمة خصوم كثيرون للإخوان المسلمين في مصر، غير أن خصومهم خارج مصر هم أكبر، أقوى وأكثر ثروة: معظم دول الخليج العربي (بزعامة المملكة العربية السعودية ودول اتحاد الإمارات العربية)، الولايات المتحدة وإسرائيل. لقد رغب جميع خصوم الإخوان المسلمين سقوطهم، وقد دفعت دول الخليج، على الأقل، المال مقابل هذه الرغبة. وسرعان ما تم الحصول على المبرر في اللحظة التي تم فيها إسقاط حكم الإخوان. على سبيل المثال، شرح إفراييم هليفي، رئيس الموساد الأسبق، أن مرسي قد تم إقصاؤه لأنه “لم يوفّر البضاعة المطلوبة” وفشل في تحسين الاقتصاد وظروف عيش الشعب المصري. كان يتعيّن على مرسي، على ما يبدو، أن يصحح في سنة حكم واحدة ما أفسده حكام مصر الفرعونيين طيلة عشرات السنين، وإذ لم يفعل ذلك أصبح من العدل إقصاؤه بـ”انقلاب عسكري ديموقراطي”.
إذا كان حكم مرسي قد فشل في إدارة السياسة، الاقتصاد والمجتمع المصري، فإن الجيش سوف يكون مسؤولا عن ذلك ليس بأقل من مسؤولية “الإخوان”. ذلك الجيش كان قد قطع “عهدا من الحراسة” مع الإخوان، في السنة الأولى بعد الإطاحة بمبارك، حيث أحبط هذا العهد بشكل ناجع الديموقراطية الحقيقية ومنع خلق كوابح وتوازنات بنيوية في النهج السياسي المصري. لقد فضل الإخوان والجيش التوصل إلى تفاهمات صامتة فيما بينهما حول “تسليم” السلطة لأيدي الإخوان في انتخابات، مقابل الحفاظ على حقوق الجيش المفرطة في الاقتصاد وفي قطاع الأعمال واحترام مكانته في الشؤون الاستراتيجية في مجالي الخارجية والأمن. لذلك، أصر كل من الجيش والإخوان، لسوء حظ الليبراليين، على تعديل الدستور القائم (بدلا من وضع دستور جديد) والتقدم بسرعة نحو انتخابات للبرلمان والرئاسة لتقرّ شعبية الإخوان. غير أن أسلوب “المنتصر يحظى بكل شيء” وعدم الثقة والاحترام المتبادلين قد قوّضا هوية المصالح الأولية بين الطرفين: أصر الإخوان على تحقيق التخويل الذي منحهم إياه المواطن، وبدأ الجيش يقترب من معارضي الإخوان، وأصبح منذ سنتين يبث رسائل واضحة من عدم الرضى من تصرف السلطة المنتخبة. وقد زادت وتيرة هذه الرسائل وأصبحت شديدة اللهجة في الأسابيع الأخيرة.
هل تصرف الإخوان بشكل غير ديموقراطي في سنتهم الأولى في الحكم؟ ثمة شك في ذلك، لأن الإجابة متعلقة بالسؤال: ما هي الديموقراطية. لقد حصل الإخوان على توكيل من الجمهور لتنفيذ سياستهم المُعلنة في كافة المجالات. ديموقراطيتهم ليست ليبرالية، مفاهيمهم هي دينية ومحافظة، ومن المفترض أن الفئات السكانية المستضعفة (النساء، الأقليات) سوف تعاني تحت حكمهم أكثر مما عانوا تحت حكم مبارك. غير أن هذا ما أراده وقرره معظم الشعب المصري. على الرغم من ذلك، لا شك في أن شعبية الإخوان في بداية طريقهم قد أخرجتهم عن صوابهم وأذهبت توازنهم أدراج الرياح. إحدى القواعد الأساسية لدى المعارضة التي تستلم السلطة نتيجة انهيار نظام استبدادي هي الامتناع عن إقصاء النُخب القديمة، وبالأساس الجيش، حتى وإن كان لديك مبرّر “ديموقراطي”. ربما يكون الإخوان المسلمون قد تصرفوا بحق في مصر، ولكن ليس بحكمة. لذلك دفعوا الثمن على شكل انقلاب عسكري.
لقد حُسم مصير الانقلاب وتأثيره في هذه الأيام، إلا أنه يمكن أن نلاحظ منذ الآن أمرين على الصعيد المبدأي والفائدي. على الصعيد الأول، فإن الانقلاب العسكري يستأهل الاستنكار: لقد ارتقى الإخوان المسلمون السلطة بشكل ديموقراطي، وكان عليهم أن يتصرفوا على هذا النحو. إن إسقاطهم بشكل اصطناعي من قبل الجيش قد يمس مسًا لاذعا بتطور الديموقراطية المصرية، وبالتالي استقرار مصر على الأمد البعيد. على الصعيد الآخر، المنفعي، فقد يكتشف الجيش أنه ساعد بكلتا يديه على وقف توجه التدهور في شعبية الإخوان. الأنكى من ذلك هو أنه منذ اللحظة التي يتم فيها سد القنوات السياسية أمام الإخوان، فقد يُستقطبوا، هم وداعموهم، حتى وإن لم يكن الأمر فوريا، إلى مسارات عسكرية عنيفة. كان بإمكان الجيش أن يشاهد الإخوان وهم ينتقلون من فشل إلى آخر، وأن “يقطف الثمار” هو ومعارضوهم السياسيون في الانتخابات القادمة، غير أن الجنرالات لم يكبحوا جماح أنفسهم واستعجلوا الأمور. بكلمات أخرى، إذا كان “الربيع العربي” قد اتضح حتى الآن بأنه أحد أسوأ الأمور التي حلت بالإخوان المسلمين في العقود الأخيرة، فإن الانقلاب العسكري في مصر قد يتضح بأنه أحد أفضل الأمور التي حصلت لهم.
إن البشارة الأسوأ التي يحملها الانقلاب العسكري معه إلى مصر هي تجذّر عدم الاحترام والثقة بين اللاعبين الرئيسيين، الإخوان والجيش، بشكل يثير الشك بإمكانية تغييره. لقد أعلن الجيش المصري، عمليًا، أنه عاقد العزم على وقف عملية سحب مراكز القوى “الكمالية” من تحت أقدامه، والتي يطلبها لنفسه – المسؤولية عن التعرف على إرادة الأمة وضمان “مصالحها” في وجه الإسلام السياسي. غير أن الجنرالات المصريين يتجاهلون كون العلاقات العسكرية-المدنية سواء في تركيا الكمالية أو في تركية الأردغانية، قد تميزت بعدم الثقة وعدم وجود احترام متبادل بين سلة الضباط وبين السياسية الإسلامية. بكلمات أخرى، لا تكمن المشكلة في السؤال مَن مِن بين اللاعبين هو الأقوى في لحظة مُعطاة، بل تكمن في أنهما غير قادرين على التوصل إلى تفاهمات بينهما. لقد أدخل الانقلاب العسكري هذين اللاعبين المهمين إلى مسار من التصادم من شأنه أن يتخذ شكل نظام حكم استبدادي جديد أو عدم استقرار مزمن. سوف يأتي صراع القوى هذا على حساب مصلحة مصر، مصلحة مواطنيها ومصلحة المنطقة كلها.
هذا التحليل المثير هو لأحد الكتاب الأكاديميين العاملين في موقع “Can Think”، والمختص في شؤون الشرق الأوسط. ونضيف أن الموقع “Can Think” هو مشروع مستقل، لا يمت بصلة إلى أي جهة سياسية أو اقتصادية، ويعمل بموجب نموذج اشتراكي. الكُتاب والعاملون في الصحيفة هم أكاديميون، يقدمون تحليلات موضوعية من منظور بحثي.
د. آساف دافيد هو باحث في معهد ترومان لتشجيع السلام في الجامعة العبرية في القدس، ومدرّس في قسم العلوم السياسية في الجامعة العبرية، وفي قسمَي تاريخ الشرق الأوسط، والسياسة والحُكم في جامعة بن غوريون في النقب.