للوهلة الأولى، تبدو المدينة الثانية في حجمها في العراق، الموصل، نموذجَ نجاح لحاكميها الجدد، أتباع داعش- تنظيم الجهاد الأكثر رعبا في العالم اليوم. تبدو أرصفة الطرقات نظيفة ومزدحمة بالسيارات، يعمل الكهرباء جيدا، والمقاهي مملوءة بزبائنها.
لكن في الأزقة الخلفية، تملأ النفايات الساحات. الأضواء منارة، وذلك لأن السكان المحليين يستعملون مولّدات الكهرباء. للوهلة الأولى، أمام شاشات التلفاز في المقاهي، يندب الزبائن على الحياة في ظل “الخلافة” الإسلامية لداعش.
لقد أشاد الكثير من العراقيين بداية باستيلاء داعش، التي تحكم منذ الصيف الماضي، على أكثر من ربع العراق وسوريا. لقد أحس الكثير من السُنيين في كلا الدولتين بالتمييز ضدهم بالنسبة إلى الطوائف الأخرى التي حكمت البلاد- الأغلبية الشيعية في بغداد والعلويون في دمشق.
هل يفقدون تألقهم؟
لقد تحمل مؤيدو داعش كل شيء، بدءًا من الرجم بالحجارة علنًا وقطع الرؤوس وصولا إلى القصف الجوي اليومي من التحالف الدولي برئاسة الولايات المتحدة. لكن دون نظام اقتصادي يمكنهم من العيش، يقول كثير منهم إنه ليس لداعش الكثير لتقدمه زيادة على ما قدمته السلطات التي حل محلها.
في هذا الموضوع المصيري، يقول السكان، إن داعش تفقد بريقها. كي يتمكن المسافر من السفر في أرجاء “الخلافة” التي ينبغي أن تكون متحدة، يحتاج إلى ثلاث عملات. تزود منظمات الإغاثة الأدوية لقسم كبير من المنطقة التي تُسيطر عليها داعش. في كثير من الحالات، تدفع الأجور العراق وسوريا- الحكومتان اللتان تقاتلهما داعش. بدلا من الإمساك بزمام السلطة، يُساهم تنظيم داعش في حالات كثيرة من عدم كفاءته في السيطرة بواسطة العمل بالابتزاز.
يعسّر قمع الإعلام والتقييدات الملقاة عليه، وصفَ طريقة حكم داعش وصفا كاملا، لكن بواسطة سلسلة من عدة مقابلات مع السكان المحليين، والزيارات الصحفية في المنطقة التي تسيطر عليها داعش، وجدت منظمة فاينانشال تايمز (Financial TImes) أن محاولة داعش بناءَ دولة لم تحظ حتى الآن بتأييد المواطنين.
في عدة حالات يستغل تنظيم داعش لصالحه مؤسسات كانت قائمة حتى قبل مجيئه. في حالات عديدة، يقول المحليون إن داعش يسرق موارد المنطقة التي يريد حكمها.
3 أنواع من العملات
في حزيران (2014) محا مقاتلو داعش الحدود بين دولتي العراق وسوريا، وأعلنوا “نهاية اتفاقية سايكس- بيكو”، تلك الاتفاقية بين فرنسا وبريطانيا منذ 1916، التي قسمت مناطق التأثير في الشرق الأوسط بينهما. لقد رفع داعش على الشبكة صور متطوعين مع أكياس طحين مطبوع عليها رمز داعش بالأبيض والأسود. بل أعلن التنظيم عن نيته إصدار عملة، عرض تصميم دينار ذهبي في شوارع الموصل، ووزع منشورات في هذا الشأن في الرقة شمال سوريا.
للوهلة الأولى، تبدو هذه المشاريع مبهرة- وخاصة للسكان الذين يعيشون في استقلال ذاتي شمال سوريا، التي تحاول بها مجموعات متصارعة من الثوار أن تسقط نظام بشار الأسد، من غير نجاحها في إرساء النظام.
لكن لكل أولئك المسافرين على الطرق الترابية المشوشة بين الموصل والرقة، لم تتغير الحدود، وإن كان تنظيم داعش قد حوّل الممرات الحدودية إلى تراب. ما زال على المسافرين أن يتزودوا بالدنانير العراقية في العراق، الدولارات في طريق سفرهم، والليرات السورية حين يصلون لسوريا.
لو كانت دولة الخلافة حقا دولة لكانت تعد مع الدول الأفقر
من الصعب على أغلب السوريين في مقاطعة داعش أن ينهوا شهرهم مع دخل قدره 115 دولارا. يربح مقاتلو داعش الأجانب خمسة أضعاف هذا المبلغ. في سوريا، وصل ثمن الخبز إلى الضعف حتى دولار- ثلث الأجرة اليومية لمواطن سوري. بقيت الكهرباء في الموصل، رغم أن المدينة قد انفصلت عن الشبكة العراقية بعد استيلاء داعش عليها في الصيف، لكن السبب في ذلك بالأساس يعود إلى جهود السكان المحليين، الذين اشتروا وشغلوا المولدات كي يحافظوا على الكهرباء في حيّهم.
في سوريا التي يسيطر عليها داعش، ما زالت الكهرباء تعمل عدة ساعات في اليوم- برعاية حكومة الأسد. ما زالت حكومة دمشق تدفع أجرة موظفي شركات الكهرباء، رغم أن سلطة النفط والغاز التابعة لداعش ينبغي أن تشرف على محطات التوليد. لآلاف الموظفين العامين في سوريا والعراق ترتيبات متشابهة. وذلك بما معناه في العراق أنهم يضطرون للسفر إلى بغداد رغم كل المخاطر المتعلقة بذلك كي يقبضوا أجرتهم.
تكاد الخدمات الأساسية تعمل، لكن الخوف يمنع المحليين من الشكوى. هناك نقص كبير في الكهرباء، الوقود، الدوار، والماء، لكن الناس ما زالوا على قيد الحياة.
القوة العسكرية واضحة
رغم أن الكثيرين يهزأون الآن من إدارة تنظيم داعش الاقتصادية، لكن قوته العسكرية ومهاراته واضحة. رغم القصف الجوي للتحالف الغربي، الذي أوقف تقدم مقاتلي التنظيم، ما زال داعش يضع يده على مناطق واسعة تصل إلى حد ثلث العراق وربع سوريا.
تبدو بعض سياسات التنظيم أحسن مقارنة بحكومات سابقة. يتيح تنظيم داعش حرية التنقل في مقاطعاته من أجل التجارة. تدفع الشاحنات ضريبة 10% تقريبا من قيمة حمولتها. يقول بعضُ رجال الأعمال من كردستان شمالَ العراق، والذين ينقلون بضائع عبر مناطق داعش، إن هذا البرنامج هو “الوجه الأليف لداعش”.
من السهل أيضا افتتاح مصلحة تجارية- ليس هناك دفع مقابل الرخصة لمن يريد أن يفتح حانوتا، مثلا، مع أن المبادر سيضطر لدفع ضريبة قيمتها 2.5% من دخله السنوي.
لكن أغلب المحليين لا يطالهم من ذلك شيء. ليس هناك الكثير من الفرص للمصالح التجارية في منطقة مواجهة يعيش بها السكان أولا بأول، وعادة عن طريق مساعدات من أقارب فروا للخارج.
في إقليم دير الزور شرق سوريا، الذي تقع فيه آبار النفط السورية، يشكو المحليون من سيطرة داعش على مواردهم. يبدو أن داعش، الذي يسيطر على إنتاج النفط- حوالي 40,000 برميل يوميا في شرق سوريا، هو التنظيم المحارب الأغنى في التاريخ، والذي يربح ما يبدو مليون دولار يوميا من النفط والسطو على مدخولات أخرى.
يحاول التحالف برئاسة الولايات المتحدة قصف مصافي النفط عشوائيا كي يضر بتمويل داعش، لكن المحليين يقولون إنه ليس لذلك تأثير كبير. يحصل داعش أغلب دخله من بيع النفط من آباره إلى الوسطاء الأتراك، العراقيين والسوريين. يكرر بعض شركائه المحليين النفط ويبيعونه، لكن عدا عن هؤلاء التجار، لا يرى أغلب السكان كثيرا من هذه الموارد النفطية.
لقد ازدادت الظروف الاقتصادية سوءا
لكن تحت سيطرة داعش ازدادت الظروف الاقتصادية سوءا. ليس لدى داعش إدارة اقتصادية. هنالك بعض الأشخاص الذين يأخذون النفط، يوزعونه بين رؤساء القبائل ويبيعونه. لمن؟ لا يتشارك كثير من الناس بهذا السر. يصل فقط جزء ضئيل من النفط إلى السكان.
لقد حاول تنظيم داعش أن يجعل من نفسه حاكما عادلا بواسطة تحديد الأسعار لكل شيء، من الخبز حتى العمليات القيصرية، التي تكلف 84 دولارا، لكن المحليين يتجاهلون الأسعار المراقبة طبعا، لأنها غير ممكنة إذا ما أخذت التكاليف الباهظة للوقود والمواصلات بعين الاعتبار.
ترسل تنظيمات الإغاثة العالمية أدوية ومعدّات، يوافق عليها داعش لأنه ليس لديه خيار آخر. تجري الترتيبات نفسها كذلك في مستشفيات الموصل.