دفعت الهزائم الأخيرة، التي لحقت بالجيش السوري في ساحة المعركة، الكثير من المحللين التقدير أن نهاية نظام الأسد باتت وشيكة وخصوصًا في ظل الشائعات التي تقول إن روسيا ستتخلى عن الأسد. إلا أنه بإلقاء نظرة إلى ميدان القتال في سوريا يُمكننا أن ندرك أنه حتى وإن تقهقر النظام ستظل لديه قوى داخلية فاعلة. علاوة على ذلك، ما زالت إيران، الحليفة الأقوى التي ساهمت ببقائه حتى الآن، تقف معه وتدعمه.
يُدرك نظام الأسد وحلفاؤه، بعد أربع سنوات من القتال، أنه ليس بإمكانهم إخضاع الثوار وإعادة السيطرة على كل المناطق السورية من جديد. لذلك فإن استراتيجيته تعتمد على حفاظه على زمام السلطة في إطار اتفاق إنهاء القتال والذي قد تعمل على بلورته الدول العُظمى. وبدأ النظام، لتحقيق هذا الغرض، بحملة إقناع عالمية، والتي تم التعبير عنها من خلال المقابلات التي قدمها الرئيس الأسد لوسائل إعلام أجنبية، بهدف الإظهار أن الأسد هو الحاكم الأفضل لسوريا. يوضح الأسد والمسؤولون في نظامه، علانية، أن جيش النظام هو الجهة الوحيدة التي يُمكنها أن يمكنها أن تواجه الجهاديين بنجاعة، وأن تحافظ على الطابع العلماني للدولة وتحمي الأقليات الدينية التي تعيش فيها.
يعمل نظام الأسد، رغبة بتعزيز موقفه هذا، على زيادة التطرف في صفوف الثوار. في عام 2011، قام بعملية عفو واسعة عن الجهاديين الذين كانوا مسجونين في سجون الدولة بينما اعتقل ناشطين ليبراليين وعلمانيين. يقود الإسلاميون، الذين تم إطلاق سراحهم، اليوم الجماعات المُتطرفة البارزة في سوريا – جبهة النصرة، جيس الإسلام وأحرار الشام. يتفادى الجيش السوري، من جهة أخرى، مُحاربة داعش اعتمادًا على نظرية أن ذلك التنظيم المُتطرف سيخدم مصلحة النظام أكثر من المجموعات المسلحة المُعتدلة، التي قد يرى فيها الغرب بديلاً جيدًا للنظام. في السنة الماضية، وَجّه الجيش السوري والمليشيات الداعمة للأسد مُعظم هجماتهم ضد مجموعات الثوار المُعتدلة أو الإسلامية. بدأ النظام بتغيير استراتيجيته فقط بعد أن تم احتلال الموصل، على يد داعش، في شهر حزيران الماضي وعندما تم تشكيل التحالف الدولي ضد التنظيم، حيث بدأ، ولأول مرة، بشن غارات على بلدات ومدن تخضع لسيطرة داعش، بهدف إظهار نفسه أنه شريك مُناسب في ذلك التحالف.
مُعسكر تدريب لجبهة النصرة في جنوب سوريا
يُصمم نظام الأسد، ضمن استراتيجيته، على التواجد في كل أنحاء سوريا، ليؤكد سلطته، ولو بشكل رمزي، في كل أرجاء الدولة. كما عبّر الرئيس نفسه عن ذلك في مقابلة مع مجلة Foreign Affairs في مُستهل العام: “إذا نظرت إلى الخارطة العسكرية الآن، فإن الجيش السوري موجود في كل زاوية [..] أتحدث عن الشمال، الجنوب، الشرق، الغرب وما بينها […] الجيش في كل مكان، وهو يتكون من كل نسيج الشعب السوري. هذا يعني أننا جميعا نؤمن أن سوريا يجب أن تعود كما كانت. لا حل آخر أمامنا، لأنه إذا لم تعد سوريا إلى ما كانت عليه، فسيؤثر هذا على كل الدول المُجاورة”.
تُعيق مسألة السيطرة على مناطق معزولة قوات كبيرة من المتمردين وتُبعدهم عن مناطق أهم بكثير بالنسبة للنظام، ولكن تضطر قوات النظام داخل تلك المناطق إلى الاعتماد على الإمدادات الجوية أو البرية القليلة مما يجعلها عرضة للهجوم أكثر. عندما سيطرت داعش، مثلاً، على مطار الطبقة العسكري المعزول، في الرقة؛ في الصيف الأخير، تم إعدام مئات الجنود فيه.
لقد جعل تعاظم قوة المُتمردين وتوجيه داعش نيرانها باتجاه الجيش السوري من استراتيجية الحفاظ على تلك التحصينات استراتيجية باهظة الثمن. إلا أنه، على الرغم من أن جنوده يفرون على شكل جماعات من ميادين القتال، لم يتراجع النظام بل وزاد مؤخرًا من وتيرة التجنيد القسري ومن خلال وعود للمُلتحقين بالجيش بظروف تجنيد جيدة، رفع أجور المُقاتلين، طلب إرسال كوادر بشرية من إيران وعقوبات قاسية جدًا بحق الذين يهربون من تلك المعاقل.

تبدو استراتيجية الحفاظ على تلك المعاقل، مع انقضاء الوقت، استراتيجية غير مُجدية. سقطت، في الشهر الأخير، بلدة جسر الشغور، الواقعة في شمال غرب البلاد، في أيدي المُتمردين، وتحصن الجنود الـ 300 الذين كانوا فيها داخل مُستشفى. ظهر الأسد على شاشات التلفزيون والتزم بأن جيشه سيُحرر الجنود المحاصرين والبلدة بأكملها من أيدي “الإرهابيين”، إلا أن ائتلاف “جيش النصر” التابع للمتمردين نشر إشاعة تقول إنه تم حفر قناة متفجرات تحت المُستشفى، وحاول الجنود الهرب من المُستشفى بمساعدة غارات نفذها سلاح الجو. وصف النظام ذلك الهروب الجماعي على أنه نصر، ولكن، أظهرت الفيديوهات التي نشرها المتمردون أن معظم المحاصرين فروا عند هروبهم. تُشير الفضيحة العلانية التي تلقاها الأسد إلى عزلة المسؤولين في نخبة النظام عما يحدث بشكل واقعي في الميدان، حيث تغيّرت الأمور في الأشهر الأخيرة ضد مصلحته.
لا تزال بعض العوامل، على الرغم من ذلك، تلعب لصالح نظام الأسد: حدثت هزائمه الأخيرة، غالبًا، في مناطق ليست ذات أهمية كبيرة بالنسبة للنظام، ومنح استمرار السيطرة على المعاقل الجيش صفة الجهة التي تدافع عن كل الوطن. فعليًا، يُمكن للنظام التخلي عن الجزء الشرقي من البلاد ومناطق مثل إدلب وفي الصحراء السورية. الأهمية القصوى، من وجهة نظره، هي إبقاء سيطرته على العاصمة دمشق ومُحيطها وكذلك المناطق ذات النسبة العلوية الكبيرة – الساحل (طرطوس واللاذقية)، القرى التي تقع غرب منطقة حماة وأحياء مُعينة في حمص. سيكون تقدم المتمردين في هذه المناطق أكثر صعوبة، كما حدث في صيف 2013 وفي الشتاء الذي بعده.
تنبع الفجوة بين قدرة صمود قوات الأسد، في المناطق العلوية مُقارنة بمنطقة إدلب، درعا والصحراء السورية، من ثلاثة أسباب رئيسية: أولاً، ليست هناك حاجة لإقناع الجنود العلويين بالقتال في مناطقهم. ثانيًا، يتطوع الكثير من العلويين، الذين أنهوا الخدمة العسكرية، ضمن المليشيات التابعة للنظام، وعلى رأسها “قوات الدفاع الوطني” المنتشرة أساسًا في المناطق العلوية. معنى ذلك أن عدد الرجال المُسلحين المتواجدين في المناطق الاستراتيجية، بالنسبة للنظام، أعلى بكثير من عددهم في مناطق مثل درعا، حيث يكونون بعيدين عن تمركز السكان العلويين. ثالثًا، إن خطوط الإمدادات والدعم، الخاصة بالنظام، قصيرة في المناطق الهامة بالنسبة له، بشكل خاص.
لن يكون أمام العلويين أي حل، في حال عدم حدوث تدخل دولي يفرض حلاً على الجهات المُتحاربة، إلا أن يُقاتلوا للحفاظ على بقائهم. علاوة على ذلك فهم متعلقون بالأسد، تماما. لقد عمل الرئيس بشار، ووالده من قبله، طوال سنوات على قمع القيادات البديلة داخل الطائفة، وعلى إفراغ الهوية العلوية من الطائفة وربط هويتها بآل الأسد. ليست هناك لدى الطائفة العلوية، في سوريا، اليوم قيادة بديلة تستطيع أن تُدير باسمها مفاوضات مع المُعارضة السورية. برز بعض الضباط العلويين، مثل سُهيل الحسن، قائد وحدة مُختارة، أغلبيتها من العلويين، اسمها “كتيبة النمور”، في الحرب الأهلية وشاعت سمعته بين العلويين. ولكن، تنبع تلك الشعبية من شخصيته كضابط متوحش وبربري، بعكس الضعف الذي يُظهره الأسد، بنظر الكثير من العلويين. إن الاحتمال أن يتخلى ضباط مثله عن نظام الأسد وأن يخوضوا مفاوضات باسم العلويين في سوريا هو احتمال ضئيل جدًا.
https://www.youtube.com/watch?v=G5L5KEnABAQ
تُقدم روسيا لنظام الأسد وسائل قتالية ودعما دوليًّا وتمنع فرض عقوبات ضده، داخل مجلس الأمن في الأمم المُتحدة، إلا أن نظامه اليوم مُتعلق، أكثر من أي وقت مضى، بإيران، التي تُقدم له الدعم الاقتصادي، الوسائل القتالة، التدريب، الضباط العسكريين والمقاتلين الشيعة. لن يتمكن النظام، دون هذا الدعم، من الحفاظ على تماسك جيشه وسيُحسم مصيره. ليست هناك، حتى الآن، دلالات على أن طهران ستتخلى عن الأسد. أرسلت إيران 7000 مقاتل شيعي من إيران والعراق لمهاجمة المُتمردين في غرب حماة، ومنحت النظام رصيدًا قوامه 4.6 مليار دولار.
إلا أن التدخل الإيراني الكبير المتزايد في سوريا يتسبب بانقسامات داخل قيادات النظام. لقد تم عزل ثلاثة مسؤولي مخابرات من مناصبهم، وتم فرض الحبس المنزلي عليهم أو أنهم قُتلوا في الأشهر الأخيرة. رفض اثنان منهم، وفقًا لصحيفة التلغراف البريطانية، مسألة سيطرة الإيرانيين على الحرب في سوريا. إلا أنه في الظروف الحالية، حتى إذا غاب الأسد عن الحلبة (في حال هرب، تم عزله أو اغتياله) فلن يجعل ذلك من الحرب تضع أوزارها. أولاً، استعد النظام الإيراني وحزب الله لمثل هذا السيناريو واستثمرا الكثير من الموارد بهدف جذب الأقليات في سوريا للوقوف معهما، تحديدً العلويين والأقلية الشيعية. ستستمر الميليشيات التي تقوم إيران وحزب الله بتدريبها في سوريا، “قوات الدفاع الوطني”، حزب الله السوري وميليشيات شيعية أجنبية، بالقتال طالما ظلت الأسلحة تتدفق إليها وطالما لم تشعر تلك الميليشيات أنه ما من ضمان لحماية العلويين والشيعة. ثانيًا، لا يُمكن لإيران أن تُتيح لنفسها أن تخسر خط الإمدادات لحزب الله، الذي يمر داخل سوريا. لا يبدو في الأمد القريب، أنه يمكن في دولة فيها مئات آلاف المسلحين الحاقدين على بعضهم، أن يكون هناك حل سياسي.
نُشرت المقالة الأصلية بالعبرية في موقع Can think