يشهد العالَم العربي تغييرا، وتتغير معه السياسة الداخلية أيضًا. إن ظاهرة كتب الأدب العربي المترجمة إلى اللغة العبريّة والمصادق عليها، تشكل تعبيرا عن الصراع من أجل الحرية والتغيير في جدول الأعمال العام العربي، الذي يتجسد في الأدب العربي الحديث.
هناك مصريان أحداهما رسام مؤهل والآخر أديب. وعملا وزيري الثقافة في مصر. الأول هو فارون الحسيني، الذي سُئل في عام 2008 عن وجود كتب بالعبرية في المكتبة الكبيرة في الإسكندرية، فأجاب: “في حال وجود كتب كهذه سأحرقها”.
أثار حسني غضبا لدى يهود العالم، وفي أعقاب هذه التصريحات لم يُعيّن في منصب الأمين العام في اليونسكو. بعد مرور 24 عاما من العمل استقال من منصبه. شهدت بلاده هزة. في عام 2016، سُئل وزير الثقافة الحالي، حلمي النمنم، عن رأيه حول ترجمة الأدب العبري إلى العربي. “علينا التعرّف إلى المجتمعات الأخرى وتوسيع معلوماتنا”، أجاب.
لم يؤثر موقفه الإيجابي في المترجمين المصريين فحسب. يبدو أنه كانت هناك إشارات من مسؤولين أعلى وأنه تلقى علامات مسبقة في السنوات التي سبقت تصريحاته. إنه يعرب عن توجه حذر من الانفتاح من جهة الأدباء أنفسهم. بعد سنوات طويلة من القيود السياسية أصبح الأدباء يسمحون لأنفسهم أكثر من الماضي بإعطاء ضوء أخضر لنشر مؤلفاتهم في إسرائيل. وفعلا، منذ اندلاع أحداث “الربيع العربي” هناك شعور واضح في البلاد يتعلق بترجمة الكتب الصادرة في دول عربيّة. لم يعد الحديث عن ترجمة مؤلفات قليلة بل عن ترجمة كميات ثابتة وهامة بشكل قانوني.
فيما عدا العاصفة الإعلامية التي أثارها الأديب علاء الأسواني في القاهرة، فإن إصدار نشرات عبرية لأشهر الروايات العربية نال رضا في دول المنشأ. وقد تقدم الكاتب المصري المشهور يوسف زيدان خطوة إلى الأمام في هذا وتباهى في ترجمة الرواية الرومانسية “عزازيل” إلى العبريّة في عام 2013، ورفع في صفحته على الفيس بوك صور الغلاف الإسرائيلي.
تتحدث الحقائق عن ذاتها. منذ عام 2012، تُرجمت من العربية إلى العبرية كتب لكتّاب من مصر، العراق، السعودية، لبنان، الجزائر، اليمن، وسوريا – صدر ما معدله نحو 20 رواية رومانسية، كتابا، وقصائد ووصلت إلى الأسواق. من بين روايات أخرى، تعرف الجمهور الإسرائيلي إلى رواية “بنات الرياض”، عزازيل”، “عمارة يعقوبيان”، “الحكاية السادسة (ملائكة مشردة)، “فرانكشتاين في بغداد” (دار النشر: كينريت زمورا بيتان)، “النمور في اليوم العاشر” للمؤلف زكريا تامر (دار النشر: راسلينج)، وروايات رومانسية للأديب اللبناني، الياس خوري، – “الوجوه البيضاء” (دار النشر: هكيبوتس همؤحد)، “رحلة غاندي الصغير” (دار النشر: حرجول)، و “مجمع الأسرار” (إصدار مكتوب – دار النشر: عولام حداش بتمويل معهد فان لير ومفعال هبايس).
وتُرجم إلى العبرية كتاب “تاكسي” للكاتب المصري خالد الخميسي (دار النشر: الكرمل)، “2084…..نهاية العالم” للروائي الجزائري بوعلام صنصال (دار النشر: كيتر) و “ميرسو تحقيق مضاد” للروائي الجزائري كمال داود (دار النشر: أحوزات بايت) وتُرجما من الفرنسيّة، وتُرجم أيضا كتاب “اليهودي الحلو” للكاتب اليمني علي مكري (دار النشر: برديس)، وقصائد “خبز وحشيش، وقمر” لنزار قباني (دار النشر: عولام حداش)، “فهرس لأعمال الريح” لأدونيس، “آخر الملائكة” للروائي فاضل العزاوي (دار النشر: كشيف لشيراه)، “لا أملك إلا الأحلام” – ديوان أيزدي (إصدار مكتوب – دار النشر: عولام حداش). هناك كتب أخرى في مراحل عمل مختلفة، وهناك كتب كثيرة عُرضت للترجمة ولكنها رُفضت كما هو متبع في هذا المجال. كلما يتعلق الأمر بدور النشر في إسرائيل، يلقى الأدب العربي ترحابا.
لقد تغير العالَم العربي وتغيرت السياسة الداخلية أيضًا. يأتي هذا التقدم تعبيرا مباشرا عن الصراع من أجل الحرية. فالكاتب العربي الذي كانت تُحظر عليه خلال عشرات السنوات إقامة أية علاقة مع “الصهاينة المحتلين” بدأ يشق طريقه رويدا رويدا ويتغلب على معارضة إسرائيل. قبل نحو عشرين حتى ثلاثين عاما، تمتعت مصر بالسيطرة التي لا يشق لها غبار في الثقافة العربية، وعندما تصدرت القاهرة المقاطعة ضد إسرائيل كان من الصعب على دول أخرى معارضتها.
في تلك الأيام كانت هناك دول عربية مستقرة إلى حد معيّن، وكانت غالبية الأنظمة موحّدة في آرائها ضد التواصل الثقافي مع إسرائيل. في ظل هذا الواقع، مَن سيجرؤ على السماح بترجمة كتابه إلى العبريّة؟ يجرؤ الشجعان أو اللاجئون فقط. في السنوات الماضية انضمت مجموعة ثالثة إلى هؤلاء: الأشخاص الذين يعتقدون أن بيع حقوقهم فيما يتعلق بمؤلفاتهم هو أمر طبيعي. منذ أن بدأوا بهذه الخطوة، لم تحدث كارثة. سعت دولهم إلى المكافحة من أجل الحفاظ على استقلالها وملاحقة العدو الفوري والخطير في الداخل، وأصبحت تشكل إسرائيل مشكلة ثانوية. في ظل الجو الليبرالي والصراع من أجل الحرية، تجرأ الكتّاب أكثر. لا يدور الحديث عن رد فعل إيجابي على اقتراحات إسرائيلية فحسب، بل على مبادرات من دول أخرى أيضا. تلقت دور نشر في إسرائيل، من بين طلبات أخرى، توجهات من السعودية، لبنان، والعراق.
يشكل التقارب من إسرائيل طبعا هدفا ثانويا في مجال دور النشر العربية. ففي الماضي، كتب الكتّاب المصريون مؤلفاتهم، وطبعوها في دور النشر اللبنانية، وقرأها العراقيون، هذا وفق تغريدة غردها متصفح عربي في تويتر مؤخرا. في يومنا هذا تعمل دول الخليج، لا سيّما الإمارات العربية المتحدة كل شيء. ففي العقد الأخير أصبحت تدير معارض مركزية للكتب وتموّل الحكومات جوائز أدبية هامة، مثل الجائزة العالمية للرواية العربية، الموازية لجائزة بوكر الأدبية. من المتوقع هذا العام أن تُفتتح في الشارقة مدينة دور النشر الخيالية، وفي نهاية حزيران أعلنت اليونسكو عن الإمارات أنها “عاصمة عالمية للكتاب لعام 2019”.
ما هي المواضيع التي يتناولها الكتّاب العرب في عصرنا؟ وصف علاء الأسواني، مؤلف رواية “عمارة يعقوبيان” دولة تشكل الديمقراطية فيها شعارا فحسب، ومجتمعا يستند إلى الفساد، الانحطاط والخروج عن المألوف. في رواية “تاكسي: حواديث المشاوير” عرض الروائي خالد الخميسي محادثات أدارها مع سائقي تاكسي في القاهرة تحدثوا فيها عن ضائقهتم الاقتصادية، قلقهم حول تربية أطفالهم، والفساد في الشرطة. كشفت رجاء الصانع في رواية “بنات الرياض” عن عالم النساء العصريات، اللواتي يحاولن الملاءمة بين الحب وتحقيق الذات وبين التقاليد الإسلامية. إن الأدب الاجتماعي والسياسي مزدهر حولنا، وتلقى المواضيع التي يتناولها – القهر الاجتماعي، الصراع الجندري، مظاهر الأصولية الإسلامية والمجال الوجودي الآخذ بالتلاشي – اهتماما لدى المواطن الإسرائيلي المتوسط.
أصبحت المشاكِل الداخلية التي تم كنسها في الماضي تحت السجاد وكانت تهدد شرعية أنظمة الحكم أو استقرارها، موضوعا ساخنا في الأدب العربي الحديث. المواضيع الشعبية التي تتناولها المؤلفات هي الفقر، القمع بشتى أنواعه، عدم شفافية أنظمة الحكم، والعنف الأسري. تشكل الرواية المصرية “عزازيل” التي تدور أحداثها في القرن الخامس ميلادي وتتحدث عن حياة راهب، رواية مثيرة للجدل ولاذعة ضد المؤسسة الكنائسية، ولكنها في الحقيقة تمثل استعارة للكفاح ضد الأصولية الإسلامية. تناول الأدب العربي هذه الأمور قبل عقدين أو ثلاثة، ولكنه لم يتناولها بذات الوتيرة والأهمية الحالية.
مثلا، تتناول المؤلفات الأدبية العربية في العراق الدولة التي تعرضت لصدمة، جروح الحرب الأهلية بشكل مكثّف. تشكل رواية “فرانكشتاين في بغداد” جزءا من هذه المواضيع، وتعرضها عبر الخيال العلمي مستخدمة عناصر رائعة. يمكن نجد أن في الكويت هناك تطرق إلى العلاقات بين المحليين ومهاجري العمل والعائلات المختلطة التي نشأت بناء على هذه العلاقات. تشكل رواية “ساق البامبو” للكاتب سعود السنعوسي مثالا على ذلك.
وتزدهر مؤلفات عالم الواقع المرير أيضًا وهذا ليس صدفة. يتيح الواقع المرير الذي يصف واقع بشري تسيطر فيه عناصر اجتماعية سلبية، انتقاد أنظمة الحكم بشكل مبطّن. تشكل رواية “الطابور” للناشطة من أجل حقوق الإنسان، بسمة عبد العزيز، جزءا من هذا النوع من المؤلفات. تتحدث الرواية الغنية بالمديح عن مواطني دولة “مجهولة” متعلقين بشكل تام بالأعمال الخيرية لسلطة مركزية طاغية وصلت إلى الحكم بعد ثورة جماهيرية فاشلة، تُدعى “الأحداث المشينة”.
هناك نوع آخر من الأدب يعبّر عن صوت النساء ويتناول مكانتهن وحريتهن أو عدم وجودهما. تشكل “بنات الرياض” من السعودية مثالا بارزا على ذلك، وهناك كاتبات شابات أخريات في هذه الدولة، مثل هناء حجازي التي كتبت “امرأتان” وأخريات من العراق ومصر. هناك مجال ثانوي آخر غير مُسيّطر ولكن ملحوظ دون شك وهو التطرق إلى اليهود. يظهر هذا الاهتمام بشكل خاص في كتاب “اليهودي الحلو” للروائي اليمني علي المكري، في كتاب “فرانكشتاين في بغداد” إذ تحدث حبكة الرواية في الحي اليهودي البتاويين ويظهر هذا الاهتمام في رواية “اليهودي الأخير في تمنطيط” للروائي الجزائري أمين الزاوي (كُتبت بالفرنسية) وفي كتب يوسف زيدان وكتّاب مصريين آخرين. يعبّر التطرق إلى اليهودية في مصر والعراق عن التوق إلى أيام من نوع آخر، أيام شهدت استقرارا، ازدهارا، فنا، وتعدد الحضارات.
إن الفائدة الأدبية هذه هي ثنائية الاتجاهين. إذ يهتم القارئ الإسرائيلي أكثر من ذات مرة بالأدب العربي، وأصبح بيع الرواية الرومانسية أعلى من المتوقع. شهدت “عمارة يعقوبيان” بيعا كثيرا في جزء من عام 2016، ويعزز هذا النجاح الكتب القادمة. بدأت تسطع براعم هذا التقدم في نهاية عام 2011. كان من الأسهل على الإسرائيليين التماهي مع الاحتجاج في الدول الجارة، إذ أن “الربيع العربي” أكد أهمية القيم الاجتماعية أكثر من مواضيع سياسية تعمل على انقسام الجمهور في إسرائيل وتهدده.
ظهرت في تلك الأيام احتجاجات اجتماعيّة، رفعت الوعي حول الفجوات الاجتماعية، ومعاملة الشعب – أنظمة الحكم مع ضائقة الفرد، وتبرز هذه الأفكار في الأدب العربي المعاصر. تتطرق هذه المؤلفات إلى الرومانسية السياسية وتصف الجمهور الذي سعى إلى إسقاط نظام الترهيب وشجع الثورة ضده. هكذا في وسع الإسرائيليين التهرّب من مركزية المشكلة الفلسطينية فيما يتعلق بعلاقة إسرائيل – الدول العربية والكتب التي تتناول هذا النزاع، الذي ما زال من الصعب عليه استيعابها.
نُشرت هذه المقالة للمرة الأولى في موقع منتدى التفكير الإقليمي.