إذا كان هناك كتاب قد نجح في أخذ التعقيد التاريخي وتفكيكه لأجزاء صغيرة وقابلة للتحليل – فهو كتاب البروفسور يوفال نوح هراري الرائع “موجز تاريخ الجنس البشري” من الجامعة العبرية.
البروفيسور هراري هو محاضر اليوم، مطلوب جدا، في قسم التاريخ في الجامعة في القدس، وهو متخصص في التاريخ العالمي، التاريخ العسكري وتاريخ أوروبا في العصور الوسطى.
تتناول دراسات هراري الحالية العلاقة بين التاريخ، البيولوجيا ونظرية المعرفة ويستند عمله على افتراض أنه من أجل التعامل مع التحديات التي تواجهها البشرية في القرن الواحد والعشرين، هناك حاجة للمعرفة في مجالات متنوعة وللعلاقة الوثيقة بين المؤسسة العلمية والجمهور العريض.
يحكي الكتاب الشعبي “موجز تاريخ الجنس البشري” (كتابه الأول وقد استطاع إتمام كتاب آخر اسمه “تاريخ الغد”) قصة البشرية من بدايتها وحتى هذه الأيام، مع نظرة متسائلة نحو المستقبل.
أكسب نجاح الكتاب في كل العالم هراري مكانا في منصة TED في لندن، حيث سلّط هناك الأضواء على أحد الأسئلة الرئيسية في نظريته: ما الذي يفسّر
صعود الجنس البشري إلى موقع الصدارة؟
في البداية يعرض هراري فجوة هائلة بين ما نحن فيه اليوم وموقعنا في رأس الهرم، وبين ما كنا عليه قبل عشرات آلاف السنين. بحسب كلامه: “قبل 70 ألف عام كان أجدادنا حيوانات عديمة الأهمية. لم يكن تأثيرهم على العالم كبيرا أكثر من قناديل البحر، اليراعات أو نقّار الخشب”.
إذن فكيف وصلت البشرية إلى مكانة أعلى من الشمبانزي أو اليراعات أو قطيع من الأسود؟ الإجابة عن ذلك بسيطة جدا، إذا فكّرنا في ذلك: التعاون المرن وبأعداد كبيرة جدا.
أين يكمن سرّ نجاح الجنس البشري؟
“أريد أن أؤمن أن ثمة شيئا فريدا بي، في جسمي، في دماغي، والذي يجعلني أعلى نسبيا من الكلب، الخنزير أو الشمبانزي”، هكذا يفتتح هراري شرحه. “إذن فمن أجل الحقيقة، على المستوى الشخصيّ، أنا أشبه الشمبانزي بشكل محرج. إن الفروق الجوهرية بيننا وبين سائر الأجناس التي تشاركنا في نفس الكوكب، ليست جوهرية على مستوى الفرد. إنّ السرّ في هذا النجاح المذهل للإنسان هو في قدراته الاجتماعية”، كما يقول هراري.
التركيز الرئيسي على ميزتين في التعاون البشري، واللتين يجب أن تتحقّقا في وقت واحد: المرونة والأعداد الكبيرة. “إنّ مستعمرة النمل على سبيل المثال تنتج تعاونا على نطاق هائل، ولكن في قالب مغلق مع القليل جدا من المساحة للتغيير. تم توثيق مجموعات من الحيتان وهي تطوّر أساليب صيد متقدّمة ومتلائمة مع الحالات المختلفة، ولكنهم يقومون بذلك بأعداد صغيرة. الجنس البشري هو الوحيد الذي يطبّق كلا الميزتين بقدراته التعاونية”، كما يوضح هراري.
ينظم البشر أنفسهم لأنهم يؤمنون بالواقع الخيالي
جميع الإنجازات الكبرى للجنس البشري هي نتيجة للتعاون وليس لقدرات البشر.
لدى الحيوانات الأخرى التي تتعاون بشكل متطوّر يتطلب الأمر تعارفا شخصيا بين الأفراد. من جهة أخرى، فإنّ البشر قادرون على التواصل مع بعضهم البعض أيضًا دون تعارف مطلقا، انطلاقا من المعتقدات المشتركة. إن الإيمان المشترك بتعزيز العلم أدى، ولا يزال، إلى التعاون العابر للقارات والمحيطات بين الباحثين من الثقافات، الأجيال والمجالات المختلفة.
معتقداتنا المشتركة هي في الواقع اسم ملطّف لما يدعوه هراري “التخيلات”. “الجامعة التي عمل فيها آينشتاين على سبيل المثال، هي تخيل بشري، ومثلها أيضًا النظام القانوني، الاقتصاد، الدين وهكذا. جميع هذه وسائر الأطر التي تنظم حياتنا، هي ثمرة الخيال البشري وغير موجودة في الواقع الموضوعي لأي حيوان آخر”، يستمر هراري في الشرح. يعرض هراري كمثال حالة نطلب فيها من شمبانزي أن يعطينا الموزة التي بيده مع وعده بأنّه لو فعل ذلك سيحظى بالذهاب إلى “جنة الشمبانزي”، حيث سيعطونه هناك الكثير من الموز تقديرا لأعماله الصالحة. “لن يعطي أي شمبانزي موزته على أساس هذا العالم الخيالي”، كما لخص هراري.
القصص والتخيّلات غالبا
في الواقع فإنّ واقعنا مركّب مما لا يحصى من القصص الخيالية وأحد الأمثلة الجيدة لدى هراري هو قصة الاقتصاد. إن العمل الأكثر بساطة مما نقوم به من أجل البقاء على قيد الحياة متعلق بالتعاون على أساس التخيل الذي اخترعناه. في كل دخول إلى المتجر لشراء طعام فإنّنا، انطلاقا من معتقد مشترك مع البائع، نقوم بتبديل شيء ما عديم قيمة البقاء تماما، مقابل توفير أحد حاجياتنا الأساسية – الغذاء. كيف يمكن ذلك؟ سمح لنا خيالنا أن ندمج قيمة مصطنعة في الأوراق، أو المعدن، وهي قيمة مخترعة ليست ذات أهمية بالنسبة للحيوانات الأخرى. حاولوا أن تدفعوا للشمبانزي مقابل الطعام.
وعندما نمرر قطع المعدن (العملات)، قطع الأوراق (العملات الورقية) أو الإلكترونية (بطاقة الاعتماد)، للبائع في المتجر، فإننا نقوم بذلك داخل شبكة عالمية من التعاون مع جهات مجهولة وخفية. ليس لدينا أية فكرة عن المزارع الذي نمّا الخضار وليس لدينا أية فكرة عن الموظف الذي يدير أموالنا. ومع ذلك، فنحن لا نبقى على قيد الحياة فقط، وإنما نزدهر بفضل القصص المخترعة، سواء حول قيمة الأوراق أو حول النظام الذي تتواجد فيه، الاقتصاد العالمي.
“إذا كان الأمر كذلك: فنحن البشر نسيطر على العالم لأننا نعيش في واقع مزدوج”، كما لخّص هراري. هناك طبقة مشتركة بين جميع الحيوانات، وهي تشمل كل ما يوجد في الطبيعة – الجبال، البحار، الأشجار وهكذا. ولكن على مدى الأجيال أقمنا على هذا الواقع الموضوعي طبقة ثانية، من الواقع المتخيّل، الواقع المكوّن من كيانات وهمية، كالأمم، الآلهة، المال، الشركات”.