لذلك بإمكان تونس أن تبدأ بمعالجة اقتصادها المدمّر، بينما تئنّ مصر تحت ظلم الحكم العسكري.
“نحن لسنا ملائكة. نحن نريد قوة، ولكننا نعتقد أن الدستور الديمقراطي أهم لتونس”، هذا ما قاله راشد الغنوشي، زعيم الحركة الإسلامية – النهضة، في محاضرة ألقاها بواشنطن خلال جولته في العاصمة الأمريكية.
كان واضحًا من سلسلة الخطابات التي ألقاها في الولايات المتحدة أن الغنوشي ينظر إلى بلاده من زاوية رؤية تاريخية: “يمثّل دستورنا حلم الإصلاحيين الكبار في القرن التاسع عشر، الذين سعوا إلى دمج قيم الإسلام مع قيم الديمقراطية”، تصنع تونس التاريخ، وفقًا للغنوشي، وتنفذ برنامجًا سياسيًّا توقف لأكثر من مئة عام بسبب تدخّل الاستعمار من الخارج والمستبدّين من الداخل. وأهمّ من كلّ شيء، أنها تثبت إمكانية دمج المبادئ الإسلامية مع المبادئ الديمقراطية.
والسبب في أنّ تصريحات الغنوشي مقنعة ليس في الكلمات الظاهرة في الدستور الذي يفخر به وإنما في حقيقة أنّه من أجل الوصول إلى صيغة متفق عليها للدستور، تمكّنت التيارات الإسلامية والعلمانية في تونس من إيجاد حلّ وسط فيما بينها.
والفرق الملحوظ بين تونس ومصر هو أنّ الإسلاميين في تونس أدركوا القيود المفروضة عليهم ووافقوا على التنازل عن مواقع السلطة، مع علمهم بأنّها ستقع في يد ممثّلي التيارات العلمانية. إن التفاهم حول الدستور المتفق عليه، وإنْ كان ليس كافيًا تمامًا بالنسبة للإسلاميين، فهو مهمّ لتونس وللإسلاميين أنفسهم أكثر من بعض البنود التي تعزّز سيطرة الإسلام على الدولة، وهذا هو مصدر القوة لتونس والسبب في أنّ هناك أساس في الواقع لتصريحات الغنوشي. وقد فهم زعماء النهضة جيّدًا بأنّه في النظرة التاريخية، الأهمّ أن تثبت للعالم كلّه بأنّ الإسلام والديمقراطية قادران على التعايش بدلا من الإصرار على قوانين مصدرها القانون الإسلامي التقليدي (الشريعة).
وكما يتناسب مع الاعتبارات العملية التي اتّسمت بها النهضة في السنوات الثلاث الأخيرة، والتي تحوّلت فيها من حركة إسلامية إلى حزب سياسي واندمجت في الساحة السياسية في تونس، فقد أعلنت النهضة بأنّها لن تطرح مرشّحًا في الانتخابات الرئاسية، وتنازلت بذلك مسبقًا عن موقع القوة الأهمّ في تونس. وذلك بخلاف مصر، حيث أعلن فيها في الشهور الأولى من “الربيع العربي” الحزب الإسلامي الرائد، “الإخوان المسلمون”، تصريحًا مشابهًا – رغم تراجعهم عنه فيما بعد – وفاز الحزب في الانتخابات، وفي نهاية المطاف أيقظ غضب الجماهير وتم عزله من الساحة السياسية بيد الجيش. وسنعلم قريبًا إذا ما كان في نيّة زعماء النهضة أن يقوموا بعملية مماثلة لما قام به “الإخوان المسلمون” في مصر أو إنّهم سيتنازلون فعلا، في الوقت الراهن، عن موقع القوة الأكبر في تونس.
يسود الهدوء النسبي في تونس (بالمقارنة مع دول أخرى مرّت بتجربة “الربيع العربي”) وقد اتّضح في الأسبوع الماضي حين أعلن الرئيس منصف المرزوقي، ممثّل التيار العلماني، عن إلغاء حالة الطوارئ في البلاد. ووفقًا للقانون في تونس، فإنّ الإعلان عن حالة الطوارئ يُمكّن السلطات من منع التجمّعات، فرض الرقابة على وسائل الإعلام، إلغاء الفعاليات الفنية بل وحتى تتبّع السيّاح. في السنوات التي سبقت “الربيع العربي” أعلن الرئيس زين العابدين بن علي حالة الطوارئ مرّات عديدة. بعد اندلاع “الربيع العربي” استمرت تونس في حالة الطوارئ بسبب أعمال الشغب والصراع العنيف ضدّ قوى الجهاد. في هذا الأسبوع فحسب، للمرة الأولى منذ سنوات طويلة، يثق قادة تونس بأنفسهم جيّدًا بحيث ألغوا حالة الطوارئ وأعادوا الجنود، الذين كانوا يقومون حتى الآن بدوريات في المناطق المدنية، إلى معسكرات الجيش.
وفضلا عن الثقة بالنفس التي تعكسها، فإنّ لهذه الخطوة آثار اقتصادية كبيرة، حيث إنّها إشارة إيجابية للمستثمرين التونسيين بل وحتى المستثمرين من الخارج، وستساعد أيضًا في انتعاش صناعة السياحة؛ وهي مصدر الدخل الرئيسي في اقتصاد البلاد، والذي تضرّر بشدّة في أعقاب “الربيع العربي”. ويدلّ إلغاء حالة الطوارئ على أنّ تونس تستعدّ للخطوة التالية في الانتقال من الدكتاتورية إلى الديموقراطية: التعامل المباشر مع مشاكل الاقتصاد المنهار، وهي القضية المؤلمة في معظم البلدان العربية (في الواقع في جميعها، باستثناء الدول التي تتمتّع بدخل النفط).
يبدو أنّه على الرغم من ارتفاع العنف في تونس عام 2013، وربما بسبب تراكمه في هذا العام بالذات، قرّر زعماء التيارات المختلفة، وعلى رأسهم زعماء الإسلام المعتدل، التنازل لخصومهم السياسيّين عن مواقع القوة والتوصّل إلى تسوية من شأنها أن تحدّد قواعد اللعبة السياسية الديمقراطية الجديدة وأن تتوجه أخيرًا لمعالجة الصعوبات الحقيقية في المجتمع التونسي.
تم نشر هذا المقال للمرة الأولى في موقع Can Think