“يبدأ ذلك بشابة تأتي وحدها إلى المحطّة المركزية”، كما توضح دلال الروبعيل من “منظمة حرية المرأة في العراق” (OWFI) والتي تساعد النساء اللواتي يمارسن الدعارة. في تلك الدولة الشرق أوسطية، لا تذهب المرأة إلى مدينة غريبة وحدها، عبثا، من دون أن تُحجز لها مسبقا غرفة في فندق أو ينتظرها أحد الأقارب. في دولة كالعراق، فالشابة التي تنزل وحدها من الحافلة وتبدو تائهة تجذب الانتباه. هناك أشخاص ينتظرون تماما مثل هذا النوع من الفتيات: سائق أجرة أو امرأة ودّية، وأحيانا زوجان متزوجان مع نظرة بريئة تعرض عليها مكانا للإقامة.
في دولة كالعراق، فالشابة التي تنزل وحدها من الحافلة وتبدو تائهة، تجذب الانتباه
في هذه اللحظة تقف أمام الفتاة عدة خيارات. الأول هو أن ترفض أن تستقل إحدى سيارات الأجرة باهظة التكلفة في بغداد والبحث عن غرفة في فندق رخيص (والذي تصل تكلفته في حيّ مشتبه به إلى نحو 19 دولاراً في الليلة). ولكن كم من المال تملك الفتاة التي هربت من البيت؟ القليل. كم من الوقت ستستغرق للعثور على عمل؟ الكثير، إذا عثرت أصلا. وصلت نسبة البطالة في العراق إلى 15%، وفقا لأكثر التقديرات تحفّظا، وتعاني النساء بشكل خاص من فرص عمل محدودة. كما تشرح أمينة (اسم مستعار)، التي تقطن في بغداد، “المرأة لا تمشي ببساطة في الشارع وتبحث عن عمل”. وفقا لكلامها، فإذا أرادت العمل هناك أعمال يُسمح لها بممارستها: أعمال بنيكة، أعمال حكومية أو في الأكاديميا. “إذا كانت تفتقد إلى المؤهلات الملائمة يمكنها أن تنظف منازل الجيران”، كما تضيف أمينة، “ولكنها لن تذهب وتطرق أبواب الغرباء”.
الخيار الثاني بالنسبة للنساء اللواتي يعانين من ضائقة مالية هو المبيت في الشارع، ومن الواضح أن هذا ليس حلّا جيّدا. عندما تيأس المرأة قد تستجيب إلى دعوة الغرباء، كما فعلت ريما (اسم مستعار) قبل سنوات، عندما وصلت إلى المحطّة المركزية في بغداد، وحدها وهي حامل. بدأت قصتها عام 1991، فترة حكم صدام حسين، حينها كان البشر يختفون أو يُلقون في السجن من دون محاكمة، ومن بينهم كان كلا أخويّ ريما. عندما ذهبت إلى زيارتهما أوضح لها قائد السجن بشكل لا لبس فيه: سيُطلق سراحهما فقط إذا مارست الجنس معه. وإذا رفضت، فسوف يقضيان بقية حياتهما في السجن، وربما يحصلان على حكم الإعدام. كان هذا الطلب بعيدا عن عالم ريما المحافِظ، ولكنها كانت الطريقة الوحيدة أماما لإنقاذ أخويها. ولكن لم تخبر أحدا بذلك بعد أن استجابت إلى طلب القائد. “كانا سيقتلاني”، كما أوضحت، “كانا سيسألان: لماذا مارستِ الجنس معه؟! كنّا مستعدّين للبقاء في السجن وألا تفعلي ذلك!”. فبعد أن جمعها ذلك اللقاء بالقائد تلبية لطلبه، أطلق سراح الأخوين، ولكن ريما أصبحت حاملا بعد أن مارسة العلاقة الجنسية معه. ومن أجل إنقاذ نفسها وألا يقتلها إخوانها، سافرت من البصرة، المدينة التي تقطن فيها، إلى بغداد. التقت في محطة الحافلات في العاصمة بـ “مطربة” دعتها للاستضافة في منزلها. “لقد رتّبت من أجلي عملية الإجهاض”، كما قالت ريما. ولكن بعد فترة قصيرة من ذلك قالت “المطربة” إنّ توفير الطعام والسكن ليسا مجانا، وإذا أرادت البقاء في شقّتها فعليها أن “تعمل” – أن تغني أو ترقص أمام الرجال، وأن تبيع جسدها. فاستجابت لذلك الطلب، لأنه لم يكن أمامها مناص.
وقد أعجبتْ ريما أحد الزبائن، والذي تزوّجها مع مرور الأيام، وبفضله استطاعت ترك عالم الزنا والبقاء في المنزل. في أحد الأيام، بعد عدة أشهر من زواجهما، لم يعد إلى منزله، وحينها فقط كشفت لها أسرته أنّه كان عضوا في الدولة الإسلامية (داعش)، قبل فترة طويلة من تصدّر التنظيم المتطرف العناوين. وقد اعتقلت السلطات زوجها وأُعدمته، وبقيت ريما لوحدها مجدّدا ومن دون القدرة على كسب الرزق، فعادت إلى حياتها السابقة في منزل “المطربة”. “كنت امرأة أخرى في تلك الفترة”، كما تقول ريما، “ضعيفة، ميتة”.
بعد نحو عقد من ممارسة ريما للدعارة اعتقلتها الشرطة. في العراق، تعتبر الدعارة جريمة عقوبتها القصوى هي ستّ سنوات من السجن، وقد قضت ريما خمس سنوات في السجن. بعد إطلاق سراحها وجدت شقّة في أحد الأحياء مع حضور كبير لإحدى الميليشيات الشيعية. لاحظ المقاتلون أن هناك امرأة غريبة تعيش وحدها، وافترضوا أنّها “امرأة سيئة السمعة”. فبدأوا بالذهاب إلى منزلها، لمضايقتها وعرضوا عروض متنوعة عليها. وعندها أخبرت ريما سائق أجرة التقته في الشارع بضائقتها. ولذلك عدها أنه سيساعدها في العثور على شقة بديلة، وأوفى بوعده. وبدأ يغازلها وبعد مرور شهرين عرض عليها الزواج. وهما اليوم متزوجان منذ عشر سنوات.
والآن تكرّس ريما كل وقتها من أجل مساعدة النساء والفتيات اللواتي يمارسن الدعارة. يقلّها زوجها إلى النوادي الليلية في بغداد، حيث يفترضون أنها قوّادة جاءت “لفحص البضاعة” و “شراء الفتيات”. “إذا اكتشفوا الحقيقة سيقتلونني”، كما تقول ريما. عندما تقدّم لها الفتيات في النوادي المشروبات، تُظهر لهنّ رقم هاتف مكتوب على كفّ يدها. لاحقا يتواصلن معها، ويحدّدن معها وقتا ومكانا للقاء، ويقتنصن من أجل ذلك الوقت القليل الحر الذي يُعطى لهنّ “لشراء الملابس الداخلية والأشياء الأخرى”. فتهرّب ريما هؤلاء النساء وتوجّههن إلى أحد الملاجئ في المدينة. هذه الملاجئ ليست قانونية، لأنّه وفقا لرأي الحكومة فإنّ مثل هذه الأماكن تشجّع التصرّفات غير الأخلاقية، لـ “فتيات سيّئات” هربنَ من المنزل وخرجنَ لممارسة الأعمال غير الأخلاقية. تناضل ناشطات جمعية OWFI في هذه الأيام للحصول على رخصة لإقامة ملاجئ من هذا النوع.
صعود الميليشيات
https://www.youtube.com/watch?v=Ro1LR6INzDw
القليل من الميليشيات التي كانت تلاحق ريما كانت موجودة منذ فترة صدام، والذي تميّز حكمه السنّي بقمع الشيعة. قاتلت الميليشيات لأجل حقوق الأقلية الشيعية، وبعد الغزو الأمريكي عام 2003 وسقوط نظام صدام، قامت حكومة مثّلت الغالبية الشيعية. في فترة لاحقة لذلك ازدهرت الميليشيات الشيعية وبلغ عددها نحو 50. عمل بعضها مع الحكومة، وقد أعدم عناصرها أشخاصا من السنة، وفي بعض الأحيان بشكل عشوائي، وأصبحت عمليات الخطف، الاعتداءات، السطو، والنهب شائعة. أصبح السنة أقلية، وأقاموا مجموعات مقاتلة نفذت عمليات في أماكن عامة، حفلات زفاف، جنازات، ومساجد شيعية. انضم بعض تلك المجموعات مع الوقت إلى مظلّة أوسع، والتي شكلت مع الأيام الدولة الإسلامية. في تلك الأيام أصبح العراق ساحة حرب، وباستثناء الاستخدام الكبير للعنف، كان هناك أمر إضافي مشترك بين كلا فريقي المقاتلين: استغلال أجساد النساء كمصدر تمويل.
في موازاة الحرب توسّعت الدعارة على جميع أشكالها، مع عدد لا حصر له من الملاهي الليلية، شقق الدعارة والحانات. تركت المعارك والعمليات الكثير من الأرامل، ووسعت من نطاق الفقر، وعلى هذه الخلفية اضطرّت النساء أحيانا إلى التوجّه بمبادرتهنّ إلى الدعارة. في حالات أخرى زوّج الأهل بناتهم الفتيات من رجال أثرياء من دول الخليج، لأنهم لم يكونوا قادرين على تمويل معيشتهنّ. كانت تلك زيجات “متعة”. استغلّ الرجال زواج المتعة من أجل أخذ نسائهنّ الجديدات إلى ما وراء الحدود الكويتية وبعد فترة قصيرة من ذلك باعوهنّ لبيوت الدعارة في الخليج. بالإضافة إلى ذلك، فقد هرب الكثير من اللاجئين العراقيين إلى الحدود السورية حتى عام 2011، حيث كان المهرّبون هناك يأخذون بعض الفتيات إلى الملاهي الليلية في دمشق. حدث الأمر نفسه مع اللاجئين الذين ذهبوا إلى كردستان العراق.
في موازاة الحرب توسّعت الدعارة على جميع أشكالها، مع عدد لا حصر له من الملاهي الليلية، شقق الدعارة والحانات. تركت المعارك والعمليات الكثير من الأرامل، ووسعت من نطاق الفقر، وعلى هذه الخلفية اضطرّت النساء أحيانا إلى التوجّه بمبادرتهنّ إلى الدعارة
مع الوقت بدأت الميليشيات بالسيطرة على عالم الدعارة، الذي كان يدار في الماضي من قبل نساء مستقلّات استدرجن النساء للدعارة وباعوهنّ لبعضهنّ البعض. ولا تزال تدار الدعارة بشكل أساسيّ من قبل النساء، ولكن في أكثر من مرة يُجبر عناصر الميليشيات مديرات بيوت الدعارة على “إعطائهم فتيات”، ويهدّدون بالإضرار بهنّ وبأسرهنّ إذا لم يفعلوا ذلك. وإذا كان ذلك لا يكفي، ففي بعض الأحيان تختطف الميليشيات نساء وفتيات من أماكن عامة في بغداد، مباشرة إلى بيوت الدعارة، والتي يدفع بعضها للمقاتلين رسوم رعاية مقابل الدفاع عنهم ضدّ الشرطة. بالإضافة إلى ذلك، فرغم أن بعض الميليشيات تكسب من الدعارة، إلا أنّ ميليشيات أخرى تتميّز بالتعصّب الديني، تعمل بعنف ضدّ النساء. في تموز عام 2014، عُثر على نحو 30 امرأة ميّتة في شقة استُخدمت للدعارة في بغداد، مستلقيات على بعضهنّ البعض داخل بركة من الدماء. ترك المهاجمون رسالة على باب الشقة: “هذا هو مصير كل زانية”. حتى اليوم لا يعلم أحد من هو المسؤول عن القتل، والذي نُشرت صوره في الإنترنت وفي وسائل الإعلام حول العالم.
في العراق، تعتبر الدعارة جريمة عقوبتها القصوى هي ستّ سنوات من السجن
بالإضافة إلى الميليشيات، فقد أثّر التطوّر التكنولوجي أيضًا في الدعارة بالعراق. “هناك اليوم أيضًا رجال يجرون اتصالا مع الفتيات عن طريق الفيس بوك”، كما تقول الروبعيل من منظمة OWFI. وفقا لكلامها، يقيم الرجال علاقة غرامية افتراضية مع نساء ويقنعوهنّ بالهرب من البيت والزواج منهم. “وهكذا يأتين إلى بغداد وينتقلن للسكن مع رجل”، كما توضح الروبعيل، “مع الوقت يوضح الرجل لـ “صديقته” أنّها إنْ لم “تعمل” من أجله بالدعارة، فسوف يلقيها في الشارع، أو أنّه يؤذيها بطريقة أخرى”. في حالات أخرى، عندما تكون المرأة لا تزال تعيش في منزل أهلها وتخفي عنهم تلك العلاقة، يصوّر الرجل سرّا الممارسات الجنسية التي يقوم بها الاثنان، وبعد ذلك يهدّدها بأنّها لو لم تمارس الدعارة فسوف ينشر مقطع الفيديو.
على هامش عالم الدعارة
في الهوامش الغامضة لعالم الدعارة توجد “الملاهي” – وهي حانات تُستخدم فيها النراجيل. يقع واحد منها في الطابق السفلي من مبنى في بغداد يُستخدم كله للدعارة. “يعلم الجميع ماذا يحدث هنا”، يقول نجيب (اسم مستعار)، “ولكن الشرطة لا تقترب”. السبب هو أنّ الميليشيات تسيطر على المبنى وتأخذ من سكانه رسوم حماية. يعمل نجيب، الحائز على اللقب الأول ولديه ماض في شركة تكنولوجيا فائقة، في ذلك المكان منذ نحو عام. ويقول لزوجته إنّه يعمل في مقهى عادي، ولكن عندما يدخل المرء إلى المكان يكون واضحا لماذا يُستخدم مكان العمل ذلك. فالقاعة مليئة بالرجال الذين يدخّنون النرجيلة، برفقة نادلات يرتدين بناطيل جينز ضيقة وممزقة، أو يكن عاريات ويضعن الكثير من الماكياج. صوت الموسيقى السيء يجعلها مزعجة، ولكن لا يهتم بذلك أحد. “الهدف من وجود الفتيات في الملهى هو أن يشتري الرجال المزيد من المشروب. إنهنّ فتيات يعملن في مجال المبيعات”، كما يقول نجيب ويضيف: “وهناك أيضا فتيات لسنَ جيدات، ويأخذن أرقام الهواتف من الزبائن ويبعنَ أجسادهنّ”.
زُوّجتْ ميساء (اسم مستعار) في سنّ الخامسة عشرة وبدأت بالعمل في ذلك الملهى بعد أن طُلّقت. وهي واحدة من بين الكثير من النساء في العراق اللواتي زُوّجنَ في سنّ صغيرة، واضررنَ إلى الهرب من زوج عنيف وبعد ذلك وجدنَ أنفسهنّ من دون مساعدة. يمكننا أن نعرف عن ظاهرة تزويج الفتيات من دائرة إحصاءات السكان (PRB) وبحسبها فإنّ نحو 25% من النساء في العراق يتزوّجنَ قبل سنّ الثامنة عشرة. وفي الماضي كان هذا الرقم أقل بكثير: وفقا لمنظمة الإحصاءات العالمية، ففي عام 1997، فإن 15% فقط من النساء في العراق تزوّجنَ قبل سنّ الثامنة عشرة. قيل كثيرا عن زيادة نسبة تزويج الفتيات بعد الغزو الأمريكي – وهي نتيجة لانعدام الاستقرار وتزايد الفقر.
وفقا لأقوال ميساء، فقد كان زوجها عنيفا واعتاد على تناول المخدّرات، وعندما اشتد الحال في المنزل قررت مغادرته. “قلت لزوجي: “نحن لم نعد بحاجة إلى نقودك، دعني آخذ بناتي وأذهب من هنا فقط”، كما تقول. وافق الزوج على الطلاق وعادت ميساء إلى منزل والدتها. وتوفي والدها قبل زمن طويل، فلم يكن هناك أحد يعيل الأسرة، ومع انعدام مصادر الإعالة، لجأت ميساء للعمل في الملهى. “لا أحبّ العمل هنا”، كما تقول، “الرجال هناك ثملون ومثيرون للاشمئزاز. أريد مستقبلا أفضل من أجل بناتي”. وهي في الوقت الراهن تداعب الرجال في ذلك المكان، تجعلهم يشترون المشروبات وتحلم بفتح صالون تجميل خاص بها. “هناك فتيات يمارسنَ الجنس مع الزبائن بعد العمل، ولكني أحافظ على نفسي”، كما تصرّح.
عملت جينا (اسم مستعار) في الملهى بالماضي. وهي تقول إنّها لم تمارس الجنس مع أي رجل في المكان أبدا، وقد قدّمت المشروبات أثناء العمل فقط. ولكن خلال المحادثة تنهار: “مارست الجنس مع صاحب العمل”، كما تعترف، “لقد ضغط علي ولم يكن لدي مناص. لم يكن عندي مكان أذهب إليه”. لدى تطرقها إلى ذلك، تقول الروبعيل من منظمة OWFI إنّ “ذلك شائع جدا في الملاهي”. وتضيف قائلة “ظاهريًّا، لن تكن الدعارة هدف عملهن، ولكن هناك اسم سيّء لتلك الأماكن، ويحدث فيها الكثير من استغلال الفتيات”. وتقول الناشطة الاجتماعية أيضًا إنّه في أحيان كثيرا يُجبر أصحاب الملاهي النساء على ممارسة الجنس مع أصدقائهم أو زبائنهم، كشرط لاستمرار العمل.
طُلّقت جينا، مثل ميساء، من زوجها قبل أن تبدأ بالعمل في الملهى. وبسبب الطلاق نبذتها أسرتها في ذلك الحين وحتى اليوم، وقد اكتشف إخوتها أنّها حامل وتعمل في ملهى، وسلّموها إلى أيدي السلطات، رغم أنه لم يكن أساس التُهم واضحا. مكثت جينا في السجن وبعد أن أطلق سراحها انتقلت للعيش في ملجأ. وهي تعمل اليوم في عمل مكتبي، وتربّي ابنها. “لقد أصبحت هذه الحادثة المؤلمة شيئا من الماضي”، كما تقول جينا، “لم أعد مرتبطة بالحياة السابقة. كنت أريد أن ألتقي بأمي فقط. لم أرها منذ سنوات طويلة”.
تم نشر هذا المقال للمرة الأولى في صحيفة “هآرتس”