لو عرفتُ أنّ السؤال الأول الذي وجهته للصحفي الإسرائيلي المحنّك، هنريك تسيمرمان، هو السؤال ذاته تماما الذي طرحه تركي الفيصل، الذي كان على مدى سنوات رئيسا لوكالة الاستخبارات السعودية وسفير السعودية في الولايات المتحدة، لن أصدّق أبدا.
كيف وصل شخص ذي إطلالة أوروبية مثلك إلى إسرائيل؟ وما الذي تبحث عنه هنا في الشرق الأوسط؟
وُلد تسيمرمان في البرتغال، وقدِم إلى إسرائيل في سنّ صغيرة جدا، وهو صحفي محنّك ونشط يعمل مع شبكات بثّ مختلفة وراء البحار. أجرى خلال السنين مقابلات مع الشيخ أحمد ياسين، ياسر عرفات، محمود عباس، عبد العزيز الرنتيسي، ومسؤولين آخرين في السياسة الإسرائيلية والدولية.
“أنا سليل عائلة يهودية. قدِم والدي إلى البرتغال من بولندا وكان جدي من الناجين من الهولوكوست، وقد رفض على مدى سنوات أن يحكي لي الأحداث التاريخية القاسية التي أدّت إلى إبادة أسرته. تنحدر أمي من أسرة أكثر سعادة وهي سليلة يهود مغاربة من مدينة تطوان. كما هو معلوم، فإنّ يهود تطوان هم من المهاجرين من إسبانيا والبرتغال، إضافة إلى المسلمين المطرودين أيضًا من شبه الجزيرة الأيبيرية. في الواقع فقد قضيتُ معظم العطل الصيفية في المغرب وتأثرت من كلا الثقافتين، الشرقية والغربية على حد سواء. وفي الحقيقة، أشعر أنني أنجذب أكثر إلى ثقافة والدتي الشرقية ومؤخرا فقط أضفت اسم عائلتها إلى اسمي، ولذلك أصبح اسمي هنريك بن هاروش تسيمرمان”.
من جهة فإنّ تسيمرمان هو صحفي حائز على العديد من الجوائز العالمية، يتنقل بين دول الخليج، أوروبا، وأمريكا اللاتينية، ومقرّب من البابا فرانسيس، يتحدث خمس لغات ودائم الحضور في عدة قنوات إخبارية رائدة في العالم. يمكن أن يُلاحظ فورا من ينظر إليه إطلالة أوروبية هادئة ولكن في اللحظة التي يبدأ فيها بوصف أحداث مرّ بها أو شخصيات التقاها، تظهر فورا شخصية متنوعة مليئة بالمزاج الشرقي الواضح، الذي يعرف كيف يقصّ القصة بأفضل شكل. لقد تحدثنا، تقريبًا، عن كل العالم: تحدّثنا عن البابا، مستقبل العلاقات بين إسرائيل والفلسطينيين، سحر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الفُضول حول محمد بن سلمان آل سعود، الجهاد العالمي، القاعدة وداعش، وحول المغرب وجمال الشرق أيضا.
في كل موضوع تحدّثنا فيه، ظهر تواضع إلى جانب حجم التفاصيل الكبير للأحداث التي نقلها على مدى نحو ربع قرن. رغم الحذر الشديد الذي يُظهره في تغطياته الإخبارية، اتضح أنه يتمتع أيضًا بإصرار متطوّر، ساعده على الوصول إلى المقابلة المشوّقة مع نجل أسامة بن لادن.
أي زعيم عربي كنت ستُوصي الإسرائيلي العادي بالتعرّف إليه؟
“أعتقد اليوم أنّ على الإسرائيليين التعرّف إلى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. يشكّل المصريون اليوم نحو ربع العالم العربي وهم صنّاع القرار النهائي. يُستحسن أن تُفكّر إسرائيل وقادتها في ما يدور في الدولة المجاورة. كانت أحداث الربيع العربي ذروة التقلّبات الاجتماعية. لقد أدركت الثورات بشكل أساسيّ أنّه لا يمكن الإعلان عن الديمقراطية، بل يجب بناؤها. أعتقد أنّه لا يمكن السماح للحركات غير الديمقراطية بإدارة الديمقراطية. فعندما تُسيّطر هذه الحركات على السلطة، فأول خطوة تخطوها هي إلغاء جميع المؤسَّسات الديمقراطية. أتمنى للعرب أن يستمتعوا بالديمقراطية. لقد نشأتُ في ظل الدكتاتورية. وأدرك شعور العيش في ظل تلك الأجواء، ولذلك أعلم أيضا ما واجهه الشعب المصري. أعتقد أن عبد الفتاح السيسي شخصية رائعة لأنّه شخص حكيم ويفهم جيدا الشرق الأوسط وبشكل شاملا”.
وفقا للصحفي تسيمرمان، فقد أدّت التحوّلات العميقة التي تجري اليوم في الشرق الأوسط إلى اختفاء 5 دول من المشكوك به جدا إذا ما كانت ستعود بشكلها المعروف “لقد اختفت 5 دول وهي: اليمن، ليبيا، سوريا، العراق، والصومال. إذا كيف سيُبنى الشرق الأوسط الجديد؟ في نظري، سيرتكز على 6 دول ستكون رائدة في الـ 20-30 سنة القادمة. دولتان غير عربيّتين، وهما إيران وتركيا سواء كان جيّدا أو سيئا، ودولتان عربيّتان سنيّتان، السعودية ومصر، ومن هنا تنبع أيضًا أهمية السيسي. يشكّل المغرب، رغم بعده الجغرافي، لاعبا مهما بسبب علاقته الخاصة مع أكثر من مليون يهودي هاجروا منه إلى إسرائيل. يشكّل اليهود المغاربة دورا رئيسيا في بناء الجسور المستقبلية بين إسرائيل والدول العربية، لأنّهم ما زالوا يحبّون الملك والمناظر الطبيعية في وطنهم. يترعرع الجيل الثاني والثالث من أولئك المهاجرين، وفق ذات الثقافة والعلاقة بالمغرب. وبطبيعة الحال الدولة الأخرى هي إسرائيل. إنها قائمة وأصبحت حقيقة واقعية. في محادثة أجريتها مع مسؤول سعودي قال لي هو أيضًا إن “السعودية ومصر أدركتا أنّه لا يمكن هزيمة إسرائيل في الميدان العسكري لذلك يجب الحرص على التعاون لتحقيق المصالح المشتركة. تخيّل ما يمكننا أن نقوم به معا: يمكن بناء إمبراطورية من خلال العرب الأغنياء، الكثير من الشباب، وبمساعدة إسرائيل ذات قدرات تكنولوجية وعصرية”.
“الجهاد الآن” – القاعدة وداعش
“من جهة يسود شر كبير في تنظيم داعش، ومن جهة أخرى، إذا أردنا مواجهة الظاهرة ومنع ولادة أحفاد هذا التنظيم وأبنائه، علينا التعرّف عليه”، كما يقول تسيمرمان، مؤلف سلسلة “الجهاد الآن”. “ولذلك يجب مواجهته. أعتقد أنّ خطاب الكراهية لا يساعد أبدا، بل العكس. إنه يُزيد حدة الظاهرة. الواقع أكثر تركيبا بكثير مما يعرضونه لنا ونحن نميل إلى ارتكاب الخطأ عبر الصور النمطية”.
ولذلك، فإنّ “الجهاد الآن” هو برنامج تم تصويره على مدى نحو ثلاث سنوات في أكثر من 15 دولة مع مجموعة متنوعة من الأشخاص الذين أجريت معهم مقابلات بدءًا من رئيس أركان البشمركة في أربيل، مسؤولين في السي آي إي الأمريكي، ممثّلين من الـ MI5 و الـ MI6 البريطانية، دبلوماسيين سعوديين وأمريكيين وصولا إلى خبراء في الإرهاب في الولايات المتحدة وإسرائيل.
وبخلاف التقارير التي ظهرت مؤخرا في التلفزيون الإسرائيلي والتي غطّت ظاهرة الإسلام المتنامي في أوروبا، استذكر تسيمرمان أكثر من 30 عاما، عائدا إلى اللحظة التي غزت فيها الجيوش السوفييتية أفغانستان. ردّا على ذلك الغزو وكجزء من الحرب الباردة سلّحت الولايات المتحدة القوات المحلية في أفغانستان بأسلحة قوية تم توجيهها بعد مرور سنوات قليلة ضدّها، أثناء سيطرة المجاهدين على المنطقة. يستمر ذلك التوجه من خلال تعزّز قوة أسامة بن لادن.
ذروة السيرة المهنية: مقابلة مع عُمر، نجل أسامة بن لادن
لقد ساعد إصرار تسيمرمان على نجاحه في إجراء المقابلة المشوّقة مع نجل بن لادن. قدِم تسيمرمان إلى قطر بعد لقائين تم إلغاؤهما في اللحظة الأخيرة، كان المتوقع أن يُجريا في باريس وكوبا . “في التاسعة مساء وصلتُ إلى الفندق الذي حدّدنا فيه الموعد، ولكن عُمر لم يصل. بدلا منه، كان هناك من نظر إليًّ نظرات فاحصة من رأسي إلى أخمص قدميّ. تنقلتُ عبر ثلاثة فنادق حتى وصلت إلى عُمر. وعندما وصلتُ رأيت عُمر وهو يرتدي جلبابا أبيض نقي ووقفتِ إلى جانبه زوجته ذات عينين زرقاوتين، تتحركان كثيرا، وكانت ترتدي ملابس سوداء تغطي جسمها. تحدثنا لمدة ساعتين. في البداية، لم يتم تصوير اللقاء، ولكن أقنعته لاحقا بإجراء مقابلة مدتها نصف ساعة. رأيت شخصا حزينا تماما. لقد ترك والده قبل فترة قليلة جدا من أحداث الحادي عشر من أيلول ولم يكن يعلم بها كما يقول. سافر إلى جدّته، والدة أسامة بن لادن في السعودية وكان في منزلها أثناء تلك الأحداث. وصف لي عمر بن لادن كيف أيقظه أعمامه وهم يصرخون وقالوا له إنّ “أباك قد دمّرنا” بينما كان يرى البرجين التوأم وهما يشتعلان بالنيران عبر التلفزيون. حينها جلس ذلك الرجل أمامي وقال إنّه، من جهة، ليس شريكا لتلك الأيديولوجية المتطرفة، ومن جهة أخرى، يدور الحديث عن والده وقد أعرب عن محبته”. وأكثر ما فاجأ تسيمرمان هو الشبه بين عمر ووالده “كانا يشبها بعضهما كثيرا رغم أنّ عُمر يبدو ذا جسد أضخم، ربما كان يمارس تمارين رياضة بدنية”.
من خلال محادثة تسيمرمان مع بن لادن الشاب، أدرك أنّ أسرة بن لادن تسعى لتحسين سمعتها. تتنقل هذه الأسرة التي استمرت في بناء المشاريع المرموقة في الدوحة، طوال الوقت، على طول المحور بين جدة والدوحة في قطر.
كشْف مثير: الجذور اليهودية لزوجة نجل بن لادن
بعد اللقاء مع عُمر بن لادن، اكتشف تسيمرمان أن زينة بن لادن، زوجة عمر ابن أسامة بن لادن، قد أرسلت إليه رسالة نصية كشفت فيها أنّ والدتها من أصول يهودية.
على مدى شهور حاول تسيمرمان إقناع زينة بالحديث عن علاقة أسرتها باليهودية، ولكنها رفضت بشدّة. في شباط 2012 في مانشستر، بعيدا عن منزلها في قطر، وافقت على الكشف عن السر.
“ينحدر والد أمي من عائلة يهودية أصلها من روسيا البيضاء”، كما قالت لتسيمرمان. “لم تخفِ أمي تلك الحقيقة أبدا. فهي تعرّف نفسها باعتبارها تنحدر من أسرة يهودية. أتذكر عندما كنت أشعل الشموع يوم السبت”.
وُلدت زينة بن لادن، أو باسمها القديم، جين فيليكس براون، وعاشت في حيّ نصف سكانه يهود، قرب مانشستر. أخبرَت زينة تسيمرمان أنها اعتادت على الذهاب إلى حفلات زفاف يهودية، وعلى زيارة الكنيس في أحيان كثيرة. عام 2000 قررت جين فيليكس براون، أو زينة، مغادرة بريطانيا والاستقرار في الشرق الأوسط. التقت بأسرة بن لادن وبعمر، الابن المُفّضل لدى أسامة، قرب أهرامات الجيزة. أحبا بعضهما، وبعد أسبوعين من ذلك تزوّجا. واليوم، بعد 5 أعوام من اغتيال بن لادن – وهي بعيدة عن مناطق الحرب في أفغانستان، لم تعُد لديها مشكلة في الحديث عن جذورها اليهودية.
ما رأيكِ بجمود العلاقات بين إسرائيل والفلسطينيين؟
“أعتقدُ أن الإسرائيليين والفلسطينيين يعانون من صدمة وخيبة أمل عميقة. هناك انعدام ثقة شبه كامل بين الإسرائيليين والفلسطينيين. في رأي أيضًا أنّه ليس هناك استعداد حقيقي للسلام لا في المجتمَع الفلسطيني ولا في المجتمع الإسرائيلي. هناك جهات تحاول طوال الوقت أن تُعكّر الأجواء. ورغم كل ذلك فلو نظرت إلى بعض الاستطلاعات وتحليلات الرأي العام، كنتَ ستكتشف أنّه سواء كان في أوساط الفلسطينيين أو الإسرائيليين فإنّ ثلثي الشعب (على الأقل) يؤمنون بالسلام ويدعمون حلّ الدولتين. المشكلة بطبيعة الحال الثقة المتبادلة وعلى هذا يجب على الزعماء العمل جيّدا”.
السؤال الأخير: أي زعيم عربي كنتَ ترغب في إجراء مقابلة معه؟ وماذا كان السؤال الأول الذي كنت ستطرحه عليه؟
“الشخصية الرائعة في نظري هي شخصية وزير الدفاع السعودي، محمد بن سلمان. تسود في السعودية في هذه الأيام ثورة نفسية تقريبا. إذا انتقلت خيوط السلطة إليه فعلا فستحدث قفزة على مدى جيلين من الزعامة. سينجح محمد بن سلمان في تعزيز مكانة بلاده أكثر مما عرفناه حتى الآن. وقد عرض هذا العام برنامجا اقتصاديا لعام 2030، وأهمه هو محاولة السعودية الانفصال عن التعلق التام بالذهب الأسود. السؤال الأول الذي كنتُ سأوجهه إليه هو كيف يرى الشرق الأوسط في الثلاثين عاما القادمة؟”.
- سياسة إسرائيلية
- الإعلام الإسرائيلي
- هنريك تسيمرمان
- داعش
- القاعدة
- أحمد ياسين
- البابا فرنسيس الأول
- أسامة بن لادن
- عمر بن لادن
- زينة بن لادن
- اليهود الشرقيون
- تركي الفيصل
- ياسر عرفات
- عبد العزيز الرنتيسي
- السياسة الإسرائيلية
- الناجون من الهولوكوست
- عبد الفتاح السيسي
- قوات بشمركة الكردية
- هجمات 11 سبتمبر
- محمد بن سلمان