حدث أمر مؤثر واستثنائي مع انتهاء الجدل الذي دارت رحاه في البرلمان التونسي على خلفية الوضع القانوني للنساء في البلاد: أنشد ممثلو الشعب والجمهور في القاعة معًا النشيد الوطني للبلاد. يبدو أن ذلك كان تحريرًا تلقائيًا للتوتر الذي تراكم طوال الأشهر الأخيرة، بينما خاض إسلاميون وليبراليون صراعًا حول هوية تونس. منذ مقتل كل من شكري بلعيد ومحمد البراهمي، سياسيين ليبراليين ونقاد لاذعين ضد الحركات الإسلامية، يتصارع المعسكران في الشوارع والبرلمان، وكان يبدو للحظات أن تونس أيضًا تقف على حافة هاوية من الشلل السياسي والفوضى الاجتماعية، كما حدث في مصر.
إلا أنه بعد الأشهر القليلة، التي توقفت فيها عملية كتابة الدستور التونسي، عاد المشرّعون إلى اللجنة وتابعوا عملهم. أظهر ذلك الجدل الكثير من الخلافات، ومنها الخلاف حول قانون حرية الضمير، حيث ادعى إسلاميون أن اطلاق مثل هذه الحرية من شأنه أن يتيح للمسلمين تبديل دينهم بأديان أخرى ومثل هذا الأمر يخالف أحكام الشريعة الإسلامية. نشب خلاف آخر أيضًا حول مسألة المساواة بين الرجال والنساء، حيث حاول حزب النهضة، الحزب الإسلامي المعتدل، طرح صيغة تتمحور حول مفهوم “التكامل” بين الجنسين وليس “المساواة”. دفع الاعتراض الشديد الذي أثارته هذه المحاولة في أوساط المعسكر الليبرالي مشرّعي حزب النهضة إلى التراجع عن الصيغ التي تختزل من حقوق النساء.
فاجأ حزب النهضة خصومه عدة مرات باستعداده للتنازل. ليس لأنه أبدى ليونة فيما يخص التفاوض على بنود الدستور فحسب، بل أيضًا بكل ما يتعلق بالتخلي عن الهيّمنة السياسية. حتى أنه بعد اغتيال شكري بلعيد أصر حمدي جبالي، الذي كان رئيس الحكومة التونسية من قبل حزب النهضة، على الاستقالة. علي العريض، والذي هو أيضًا من حركة النهضة، وكان قد حلّ مكان الجبالي، ولكن قبل نحو أسبوع، في 9 كانون الثاني، استقال هو أيضًا على خلفية وقوع اغتيال سياسي وهو اغتيال محمد البراهيمي عند مدخل بيته وأمام عائلته. دفعت جريمة الاغتيال هذه الكثيرين للادعاء أن حركة النهضة لا تواجه الإسلاميين المتطرفين بجدية، رغم أنه بعد استقالة العريض أثبتت النهضة ثانية بأنها تستمع إلى نبض الشارع التونسي وبأنها لا تريد التمسك بالحكم بأي ثمن.
يمنح التعامل المعتدل لحركة النهضة و التعاون بين المشرّعين الإسلاميين وزملائهم الليبراليين دعمًا للديمقراطية التونسية. إن التقدم الديمقراطي في هذه الدولة هو نتيجة عاملين أساسيين. الأول هو ليونة التيار البراغماتي بين أوساط الإسلاميين أي حركة النهضة. رغم أن هذا الحزب خرج من الانتخابات البرلمانية التونسية ولديه الأفضلية، إلا أنه بخلاف نهج “الإخوان المسلمين” في مصر بعد فوزهم بالانتخابات، ظل على اطلاع على الرأي العام في الدولة، وعندما واجه معارضة شديدة على نهجه أو نقد شديد على إدارته السياسية، تنازل وحتى أنه غيّر سياسته. استعداد الحزب للتخلي عن منصب رئاسة الحكومة وإتاحة الفرصة لحكومة تكنوقراطية لتحل محل رئيس الحكومة الذي انتخب من قبله، يشير إلى أن هذا الحزب يضع في سلم أولوياته تماسك الأمة ومصلحتها.
العامل الثاني لتقدم الديمقراطية في تونس هو الجيش. خلافًا للجيش المصري، المنخرط منذ عشرات السنين في اقتصاد وسياسة الدولة، فإن الجيش التونسي يبعد عن هذين المجالين. لذا، ليست لديه مصالح سياسية أو اقتصادية خاصة ولا يطالب بالحقوق التي طالب بها الجيش المصري – وحصل عليها – عند صياغة الدستور المصري. لم يتدخل الجيش التونسي ولم يصعب الأمور على واضعي الدستور في وقت الأزمة أيضًا.
تقف أمام حكام تونس الكثير من التحديات، وعلى رأسها الاقتصاد. في الواقع، لا يهتم الكثير من المواطنين في الدولة، رجالاً ونساءً على حد سواء، بتلك التفاصيل البسيطة في البرلمان المتعلقة بحقوق المرأة والخلافات التي ترافقها؛ إنما ما يقلقهم أكثر هو أنهم لا يملكون ما يكفي من المال للمعيشة، ولإطعام أولادهم والاهتمام بتعليمهم اللائق. غير أن تقدم توسن المستمر، وإن كان بطيئًا، باتجاه الديمقراطية يعطي أملاً بأن حكامها المستقبليين سيواجهون الفساد بشكل حازم وأن تونس ستنجح بالدفع بحركة الاقتصاد وإرساء الحكم. إن نجحوا بذلك، سنشهد نظام حكم واحد على الأقل يتحقق فيه “الربيع العربي” فعلا.
نشر المقال على موقع Can Think، والمختص في شؤون الشرق الأوسط. ونضيف أن الموقع “Can Think” هو مشروع مستقل، لا يمت بصلة إلى أي جهة سياسية أو اقتصادية، ويعمل بموجب نموذج اشتراكي. الكُتاب والعاملون في الصحيفة هم أكاديميون، يقدمون تحليلات موضوعية من منظور بحثي.