صُدم العالم بمشاهدة صورة عمران دقنيش، ابن الأعوام الخمسة، الجالس صامتًا ومُصابًا في سيارة إسعاف. التُقطت الصورة في حيّ القاطرجي في مدينة حلب شمالي سوريا في الثامن عشر من آب المنصرم، بعد أقلّ من سنة على الصدمة المماثلة التي أثارتها صورة جثة آلان الكردي، ابن الثلاث سنوات، التي دفعها البحر إلى شاطئ بودروم التركية.
وتتحدث التقارير الإعلامية في الأشهر الماضية عن أسواق مقفلة، غياب الحليب، نقص في الأدوية، وصعوبات متزايدة في الحصول على الطعام في الأحياء الشرقية من حلب، التي يسيطر عليها الثوّار ويقطنها نحو 275 ألف شخص. ويُقدَّر أنّ أكثر من مليون مواطن آخر في منطقة حلب يُعانون من صعوبات ناتجة عن الأزمة. لا ريب أنّ الصُّوَر والتقارير الإخبارية القاسية تُثير المشاعر أكثر من نقل جافّ للوقائع. مع ذلك، من المهمّ انتهاز لحظات الوعي المرتفع للفت الانتباه إلى أبعاد الدمار اللاحق بالاقتصاد السوري المتهاوي إثر النزاعات، وإلى العواقب الاستراتيجية لهذا الدمار.
لطالما كان الاقتصاد السوري ضعيفًا، حتّى قبل اندلاع الحرب. فقد كان الناتج المحلي الإجمالي للفرد أقلّ من 3000 دولار سنويًّا – أقلّ من الأردن ولبنان المجاورَين. الاقتصاد السوري متعلّق بشدّة بالنفط (نصف التصدير وخُمس مداخيل الحكومة). الزراعة في البلاد توفّر خُمس الناتج المحلي الإجمالي – أكثر بكثير من حصّتها في اقتصادات البلدان المتقدّمة. ومن نقطة الانطلاق الضعيفة هذه، تهاوى الاقتصاد السوري أكثر. فالأرقام المتعلقة بأبعاد الدمار خلال السنوات الخمس الماضية لا يستوعبها دماغ.
الناتج المحلي الإجمالي للفرد هبط إلى أقلّ من ثلث ما كان قبل الحرب، ما يضع سوريا اليوم في المكان الـ 225 في العالم. وللتوضيح فقط، أصبح الناتج المحلي الإجمالي للفرد أقلّ من ذاك الذي في قطاع غزّة أو حتّى أفقر الدول الإفريقية. تُقدَّر خسارة الناتج المحلي المتراكمة بما يزيد عن 160 مليار دولار، فيما هبط إجمالي رأس المال في سوريا إلى 43 في المئة من مقداره قبل الحرب. يعني ذلك أنّ لدى سوريا اليوم أقلّ من نصف الوسائل التي كانت تمتلكها قبل الأزمة – من حيث الآلات، المعدّات، المباني، وسائر البنى الجسدية – التي يمكن للاقتصاد بواسطتها أن يُنتج غلّاته. وهذه المعطيات مقلِقة بشكل خاصّ حين يكون الاقتصاد ضعيفًا، قيمة رأس المال الجسديّ فيه بالغة الأهمية.
والأسوأ من ذلك هو هرب الناس، الذي تجسّده صُوَر كثيرة مطبوعة في الذاكرة. فعدد السكّان في سوريا هبط من 21.8 مليونًا عام 2010 إلى 20.2 مليونًا نهاية العام 2015. من الجدير بالذكر أنّه لولا الحرب، كان يُفترَض أن يبلغ عدد السكان اليوم نحو 25.6 مليونًا. تتراوح تقديرات الوفيات المرتبطة بالحرب بين 150 ألفًا و470 ألف إنسان. فيما يُقدَّر عدد المُصابين حتى نهاية عام 2015 بنحو 1.88 مليون. يعني ذلك أنّ 11 في المئة من سكّان سوريا قُتلوا أو أُصيبوا جرّاء الحرب. فضلًا عن ذلك، تتحدث تقديرات نهاية 2015 عن 3.1 ملايين لاجئ، 1.2 مليون مهاجر، و6.4 ملايين نازح داخل سوريا. في هذه الأثناء، يعيش 85 في المئة من السكّان تحت خطّ الفقر، وتبلغ نسبة البطالة نحو 53 في المئة. وإذا تناولنا الموضوع من ناحية اقتصادية بحتة، من حيث الإنتاج والدخل، يعني ذلك ضررًا كبيرًا جدًّا بقوّة العمل، لا برأس المال فقط. غادر الكثيرون، ومَن بقوا يعملون أقلّ بكثير ويتعلّمون أقلّ بكثير. فوفق إحدى التقديرات، ذهب أكثر من 16 ألف سنة تعليمية هباءً منثورًا، في جميع المراحل الدراسية. وترجم تقرير حديث لليونيسيف الخسارة في الموارد البشرية إلى 10.5 مليارات دولار، إثر الخسارة المتعلقة بتعليم الأولاد والشبّان السوريين.
الآثار الاستراتيجية هائلة. فمع الدعم الخارجي، سيحتاج الاقتصاد السوري إلى عُقود ليعود إلى سابق عهده قبل الحرب. وسيكون شكل المساعدات وحجمها عاملَين رئيسيَّين في تحديد مدّة التعافي. بعض الأضرار لا يمكن تعويضه، مثل الأشخاص الذين فرّوا من البلاد وقد لا يعودون إليها مطلقًا، وكذلك السنوات الدراسية العديدة التي فُقدت دون عودة. أمّا الضرر اللاحق بالموارد المادية والبشرية فهائل جدًّا، بحيث يبدو أنّ مئات ملايين الدولارات لازمة لإصلاحه. يُشير صندوق النقد الدولي إلى مثالَين لحرب وتعافٍ حدثا في الإقليم في الفترة الماضية: “احتاج لبنان الذي عاش 16 سنة من الحرب إلى 20 سنة لاستعادة مستوى الناتج المحلي الإجمالي الذي سبق الحرب، فيما احتاج الكويت […] إلى سبع سنوات للوصول إلى الناتج المحلي الإجمالي الذي كان فيه قبل الحرب” إثر الغزو العراقي وحرب الخليج. لكنّ الضرر في سوريا أكبر بكثير، ونطاق مواردها الذاتية أضيق بكثير. يقدّر صندوق النقد الدولي أنّه ستنشأ حاجة إلى 20 سنة من التعافي. بناءً على ذلك، ستحتاج سوريا، حتى في أفضل الأحوال، إلى فترة طويلة جدًّا للعودة إلى وضعها السابق (الضعيف) الذي سبق اندلاع الحرب الأهلية.
التأثير الملحوظ الآخر لهذه التقديرات هو أنّ لسوريا موحّدة إمكانيات واعدة أكثر للتعافي من سوريا مقسّمة، خصوصًا من حيث تعافي الاقتصاد، إذ إنّ العالم لن يُسارِع إلى تقديم دعم خارجي لمناطق منفصلة عنها، كتلك التي تسيطر عليها “الدولة الإسلامية” (داعش). بالمقابل، ستكون الصعوبات الاقتصادية الهائلة مصدرًا دائمًا للصراعات وتجعل الوحدة قضية شائكة أكثر.
النتيجة هي أنّ سوريا لن تعود الخصم الثابت الذي اضطُرّت إسرائيل إلى مواجهته، سواء في ميدان الحرب أو على طاولة المُفاوَضات؛ فهذا الثبات يُستبعَد أن يعود في المستقبل القريب. لكن، كما تُعلّمنا تجربة لبنان، ليس الخصم الضعيف والمفكّك أمرًا جيّدًا بالضرورة. فبالنسبة للمعنيّين بتسوية النزاع بين إسرائيل وسوريا، يمكن القول إنّ احتمالات الحلّ المقبول انخفضت بشكلٍ ملحوظ. بطبيعة الحال، يؤثر ذلك في علاقات إسرائيل بباقي العالم العربي، لا سيّما لبنان.
وإذا تأملنا في الصورة الأكبر، يمكن القول إنّ الدمار في سوريا يُعطي معنى جديدًا لفكرة “الدّول الفاشلة”. فليس فقط أنّ سوريا تفكّكت إلى أجزاء، بل يغيب فيها النشاط الاقتصادي أيضًا. وفي ظروفٍ كهذه، يُرجَّح أن لا يؤدي اتفاق سياسي بين الأطراف المتنازعة، ولا انتصار أحدها على خصومه، إلى شقّ طريق إعادة الدولة المفكّكة والمدمّرة إلى السكة الصحيحة. ولا شكّ أنّ التفاعلات بين الصراعات الطائفية العميقة وبين الدمار الاقتصادي المتعدد الأبعاد ستلعب دورًا مركزيًّا في مستقبل سوريا، الذي يبدو قاتمًا جدًّا في الوقت الحالي.
نشر هذه المقالةَ للمرة الأولى معهد دراسات الأمن القومي INSS