يتخيل مَن يفكر في “دلاعت” (دلاعت هي كلمة عبرية تعني القرع أو اليقطين)، غالبًا نبتة لونها برتقاليّ أو أخضر أو حتى أصفر أو أبيض. لن يخطر في باله أن هذه النبتة البسيطة، هي أيضا اسم نقطة عسكريّة إسرائيلية في العمق اللبناني. أقام الجيش الإسرائيلي في الثمانينيات بعد انسحابه من لبنان، موقعا عسكريا استجابة “للاحتياجات الأمنية” الأكثر سرية في الدولة ولمراقبة العدو رقم واحد حتى يومنا هذا، حزب الله، الذي ازدادت قوته.
لا يعرف الإسرائيلي العادي تقريبا حرب لبنان 1982. كانت هذه الحرب فترة صعبة، راح ضحيتها ما معدله 20 حتى 30 جنديا إسرائيليا في كل سنة، خلال 18 عاما. بدأت الحرب بتاريخ 6 حزيران 1982، وانتهت في يوم واحد في شهر أيار عام 2000، بعد انسحاب أحادي الجانب للقوات الإسرائيلية، من دون تنسيق مسبق مع الحكومة اللبنانية. في غضون وقت قصير غادر الجيش الإسرائيلي لبنان بعد أن هدم مواقعه ومن بينها موقعي “دلاعت”، و “بوفور”، مغلقا وراءه بوابات الحدود، في الوقت الذي انتشرت فيه قوات جيش لبنان الجنوبيّ في كل مكان، من دون النظر إلى الوراء.
في خريف 2002، بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان، عاد الصحفي والأديب الإسرائيلي – الكندي، ماتي فريدمان، إلى موقع “دلاعت”. لقد عاد إليه من لبنان ذاته. شاهد فريدمان مبنى الموقع العسكري الذي كان نابضا بالحياة أثناء خدمته العسكرية، مدمّرا وخاليا. “وجدت موقعا مهجورا، ومُدمرا”، قال في مقابلة معه حول كتابه الجديد “دلاعت- نقطة عسكرية في لبنان”.
“عندما رأيت الموقع خاليا ومُدمّرا، شعرت بشعور قوي، فبدأت أفكر بشكل مختلف في الفترة التي خدمت فيها في لبنان. في الموقع المهجور، بدأت أفكر بحجم الوهم. إن إرسال جنود شبان إلى منطقة خاضعة للسيادة اللبنانية، احتجازهم في نقطة عسكرية على تلة والتوضيح لهم أن هذه النقطة العسكرية ونقاط أخرى في القطاع الأمني تهدف إلى الحفاظ على البلدات في شمال إسرائيل، هو عمل جنوني”.
وصل فريدمان، صحفي وأديب عريق من أصل كندي إلى إسرائيل في سن 17 عاما، وبعد مرور سنتين وجد نفسه في النقطة العسكرية “دلاعت” في جنوب لبنان. إن النظرة الخارجية إلى التجربة الغريبة، المثيرة للخوف ولكنها رائعة أحيانا أيضا، خلّفت كتاب – تصفية الحساب النادر حول فترة تفضل إسرائيل نسيانها. تُرجم الكتاب الذي كتبه فريدمان بالإنجليزية إلى العبريّة.
هل ترغب في ترجمة الكتاب إلى العربية؟
“أرغب جدا. أتمنى حدوث ذلك. أرغب جدا أن يتوجهوا إليّ أصحاب دور نشر عربية، ويعرضوا عليّ ترجمة الكتاب إلى العربية أيضا. ينقل الكتابة تجربتي وتجربة أصدقائي في النقطة العسكرية على التلة الأجمل في جنوب لبنان، ويتطرق إلى عالم صغير تسود فيه علاقات الكراهية والمحبة تجاه ذلك المكان، تلك الحرب، لا سيّما إلى فهم أفضل للمجتمع الإسرائيلي، وعمليات مر بها إثر الحرب في جنوب لبنان”.
يحاول فريدمان في كتابه الجديد أن يروي قصة القطاع الأمني للجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان عبر جدران النقطة العسكرية وقصص بعض الجنود الذين خدموا أثناء الحرب. وفق ادعائه، قصة النقطة العسكرية “دلاعت” هي قصة دولة إسرائيل والشرق الأوسط بأكمله.
هل تعتقد أنه يمكن أن نتعلم من كتابك شيئا ما، حول تعامل إسرائيل اليوم مع حزب الله؟
“ترتبط كل معرفتنا حول ما هي الحرب، بما حدث في لبنان. لا شك أن إسرائيل قوية عسكريّا. كذلك حزب الله قوي وحكيم أيضا. مثلا، حزب الله أقوى من إسرائيل في مجال استخدام الوسائل الإعلامية. كان حزب الله أول من عرف الاحتمال الكامن في الوسائل الإعلامية وكيف يمكن استغلالها لصالحه.
سادت فكرة أثناء حرب لبنان نظرت إلى الجنود نظرة “أولاد الجميع”. سُميت الحركة التي دعت إلى الانسحاب من لبنان حركة “الأمهات الأربع” ويشير استخدام الكلمة “أمهات” إلى أن هناك أطفالا في الجانب الآخر يجب حمايتهم. كانت كل هذه العوامل قائمة منذ حرب لبنان. بصفتنا جنودا، شهدنا حالة من حرب في القرن الحادي والعشرين، حرب من نوع آخر لم تعرفه إسرائيل حتى ذلك الحين. كانت هذه الحرب نموذجية للحروب التي تورطت فيها مثلاً الولايات المتحدة الأمريكية في العراق، أفغانستان، حرب خلّفت ورائها داعش والقاعدة. إذا نظرنا إلى الماضي، فيبدو أننا نحن الإسرائيليون كنا أول من خاض هذا النوع من الحروب”.
هل تتذكر روتينك اليومي في النقطة العسكرية؟ هل قمتم بعمليات عسكرية مكثّفة؟
“لم يحدث ذلك حقا. لذا أتحدث عن وهم كبير، كنا نقشر البطاطا معظم اليوم، نملأ أكياس الرمل، نشاهد المنظر الريفي الذي كان يطل عبر نقاط الحراسة نحو المعقل الشيعي أمامنا، في النبطية، وأحيانا كنا نتعامل مع تحديات أمنية وضعها أمامنا مقاتلو حزب الله. كانت قوات حزب الله صغيرة ولكنها حكيمة جدا نجحت كل الوقت في أن تثير قلقا لدينا. لم يحدث شيء غالبا، كنا مشغولين كل الوقت في شق الطرقات لتلقي قوافل عسكرية في طريقها إلى منطقة النقطة العسكرية، في التأكد من أن نشطاء حزب الله لم يضعوا ألغاما في الطرقات، وشربنا الكثير من القهوة. وانتظرنا!”
فريسة سهلة للهجوم؟
“تماما. في مساء أحد الأيام كنت داخل ناقلة جنود مدرعة، تعمل على حماية النقطة العسكرية من الخارج وتلقينا خبرا عبر جهاز الاتصال حول الكشف عن 3 أجسام في طريقها نحو النقطة العسكرية في الظلمة. طُلب منا مواجهة التهديد، فتقدمت ناقلة الجنود المدرعة نحو منطقة ذات أشجار كثيفة. سادت أجواء من الظلمة التامة، كان يمكن الشعور بالخوف تماما. بعد مرور بضع دقائق، شعرت بشظية قوية تصطدم بأنفي ومن ثم سمعت انفجارا قويا وشممت رائحة غبار حريق. عندها أدركنا أننا تورطنا. انفجر محرك المدرعة نتيجة الانفجار فلم يكن في وسعنا التقدم. لذلك طلبنا المساعدة عبر جهاز الاتصال. في اليوم التالي، وصل إلى منطقة الحادث مقتفيا أثر لمعرفة ماذا حدث فأخبرا أنه وُضعت في الطرقات متفجرات وأن الأجسام الـ 3 التي شاهدناها كانت خنازير برية عالقة في المنطقة. سئم الجنود من روتين عملهم في النقطة فاستغل حزب الله هذه الحقيقة للعمل ضدنا”.
اليوم الذي تغير فيه كل شيء: 4 شباط 1997
يذكر فريدمان هذا اليوم جيدا. تدعو إسرائيل هذه الكارثة التي لحقت بـ 73 عائلة بـ “كارثة المروحيات”. كانت كارثة المروحيات التي حدثت بتاريخ 4 شباط 1997 كارثة جوية. اصطدمت فيها مروحيتان لسلاح الجو الإسرائيلي في الجو بينما كانتا تنقلان 73 مقاتلا إلى القطاع الأمني في موقعي “بوفور” و “دلاعت”. حصدت الكارثة حياة 73 مقاتلا.
“عندها طرأ تغيير ما في المجتمَع الإسرائيلي. كان سقوط 73 مقاتلا إسرائيليا حادثا مأسويا بدأ بطرح أسئلة ثاقبة، ضد من نقاتل في لبنان؟ هل هناك حاجة حقا إلى المواقع الدفاعية العسكرية وراء حدود إسرائيل؟ هل تخدم هذه المواقع الهدف الذي بُنيت من أجله؟ طرحت الحركة الاجتماعية “الأمهات الأربع” التي قادت الاحتجاجات الاجتماعيّة للانسحاب أحادي الجانب من لبنان هذه الأسئلة”.
أقامت أربع نساء من سكان الشمال وأمهات جنود خدموا في لبنان حركة “الأمهات الأربع” وهي حركة احتجاجية قامت عام 1997 إثر كارثة المروحيات طالبت بانسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان. بعد مرور 3 سنوات منذ إقامة الحركة، قرر رئيس الحكومة حينذاك، إيهود باراك، تنفيذ وعوده الذي صرح بها أثناء الانتخابات والعمل على انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان.
هل تعتقد أن هناك علاقة بين الانسحاب من لبنان واندلاع انتفاضة الأقصى بعد مرور نحو خمسة أشهر منذ الانسحاب، في تشرين الأول 2000؟
“لا شكّ. أتطرق إلى هذه النقطة في الكتاب أيضًا. لا شك أن الانتفاضة، كما هو معروف، لم تحدث بسبب الانسحاب من لبنان. ولكن منح الانسحاب إلهاما لبعض الفصائل الفلسطينية. كانت فكرة مقاومة القوات الأجنبية منتشرة في المجتمَع الفلسطيني. أثبت نصر الله أنه ربما من المفضل إدارة مقاومة عنيفة بدلا من الاكتفاء بتسوية تاريخية حقيرة. أتذكر أنه في فترة اندلاع انتفاضة الأقصى، كنت طالبا جامعيا في القدس. كان في مساكن الطلاب الجامعيين تلفزيون، يبث برامج التلفزيون الفلسطيني. كنا نشاهد مقاطع فيديو لحملات دعائية تقارن بين موجة العُنف التي اندلعت في البلاد وبين نجاح عناصر حزب الله في إبعاد القوات الإسرائيلية من لبنان”.
لو التقيت نصر الله لوقت قصير واحتسيت معه القهوة، عمّ كنت ستتحدث؟
“كنت سأسأله إذا كان يشتاق إلى ابنه؟”
كان هادي، ابن نصر الله البكر، مقاتلا في حزب الله وقُتِل بتاريخ 12 أيلول 1997، أثناء معركة بينه وبين جنود الجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان. نُقل جثمانه إلى عائلته في إطار تبادل الجثث في حزيران 1998 مقابل جثة جندي إسرائيلي.
“يبدو أن هذا هو السؤال الوحيد الذي كنت سأطرحه عليه كأب لأربعة أولاد. في نهاية المطاف، نحن بشر وبعد أن ننزع كل الأقنعة نصل إلى الإنسان العادي، وأعتقد أن هذا سؤال كان سيجعل نصر الله يفكر في ابنه الذي فقده أثناء الحرب”.
من تعتقد كان المنتصر في الحرب بين إسرائيل وحزب الله؟
“السؤال الحقيقي هو ما هو الانتصار. لقد نجح حزب الله في إخراج إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000. نجح في إلحاق ضربة قاضية في الوعي الإسرائيلي حول قدرات الجيش الإسرائيلي العسكرية في حرب لبنان الثانية عام 2006. هذا أمر مؤكد. ولكن هل نجح في بناء مجتمَع مزدهر كما تعمل إسرائيل اليوم. يحاول الإسرائيليون اليوم العيش رغم كل الصعوبات وبناء مجتمَع سليم، قدر الإمكان. هل هذه هي الحال في لبنان؟ لست متأكدا. أطلق نصر الله “عفريت الحرب الأبدية” ضد إسرائيل. في الوقت الراهن، هذه الحرب ليست قائمة تقريبا لذلك يشارك حزب الله في الحرب في سوريا بقرار من الراعي إيران. تدمر حروب كهذه المجتمعات البشرية وتشكل مشكلة”.
يصف فريدمان في كتابه أحداث مأساوية لموت الجنود وخسارتهم، إلا أن خدمته العسكرية في “دلاعت” لم يترك أثرا فيه. “لم أخسر صديقا”، قال مضيفا “كان الفريق الذي عملت ضمنه محظوظا، لم يلحق بنا ضرر. ربما كان هذا سببا آخر ساهم في قدرتي على كتابة هذا الكتاب. مررت بتجربة قوية وغريبة جدا بشكل أساسيّ. ولكن لم أجتز تجربة أثرت كثيرا في حياتي، ولكني مررت بتجربة تعليمية سريعة ومكثفة حول الشرق الأوسط”.
كانت 18 سنة للجيش الإسرائيلي في لبنان فترة تأسيسية لجيل إسرائيلي كامل، إلا أنه عندما نفحص كم كتابا كُتب عنها، فيبدو أن تلك الفترة انمحت من الذاكرة الجماعية كليا. أكثر من ذلك، يبدو أن تراث الجيش الإسرائيلي يحاول نسيان تلك الفترة الطويلة التي قضاها وراء الحدود. لا تشكل قصة القطاع الأمني جزءا من تراث معارك الجيش الإسرائيلي. يعتقد الجيش الإسرائيلي أن حرب لبنان انتهت عام 1982 تماما”.