أطل الفجر على قمة جبل هتسوفيم في القدس. تنزل مجموعة من الفتيان اليهود والمسلمين من الحافلة وتتأمل المدينة العتيقة. في وسط باحة الأقصى، التي يسميها اليهود جبل الهيكل، تلمع قبة الصخرة المطلية بالذهب عند الشروق وتجذب الأنظار. “ما هي أهمية هذا المكان بالنسبة لكم؟” سأل المرشد بالعبرية والعربية، وهو يشير بيده باتجاه ذلك المنظر.
كان الفتية المسلمين أكثر يقظة وإصغاءً من نظرائهم اليهود. واضح أن قربهم من الأقصى نفخ فيهم الروح. لديهم ما يقولونه. بنات وأولاد من البدو المنتشرين في النقب والذين أنهوا للتو الصف الحادي عشر، أيضًا أولئك الذين كانوا هادئين وانطوائيين حتى الآن، يرفعون أيديهم ويطلبون بإلحاح حق الكلام. تحدثت، شابة ترتدي الحجاب، بتأثر عن رحلة النبي الليلية، وصديقتها اقتبست الآية القرآنية الأولى من سورة بني إسرائيل (17:1). تحدث بعض الشبان عن تجارب الصلاة العائلية في الأقصى في الأعياد وأيام الجمعة. لا أحد منهم تقريبًا بقي غير مكترث. بالمقابل، أقرانهم اليهود كانوا ساكتين ويتأملون، بشكل متقطع، ذلك المنظر مندهشين. كيبوتسيون من النقب، جيران البدو، نخبة من أفضل أولاد وبنات الحركة الصهيونية، إضافة إلى ملحقين من “بلدات التطوير” الذين التحقوا بالثانوية اللوائية الفاخرة.
اليهود، الذين كانوا حتى الآن محتارين بما يخص ماهيتهم في هذه الرحلة، ظلوا هادئين ومحتارين. يدركون أنه يُتوقع منهم أن يقولوا شيئًا، إلا أنهم لا يعفون ما هو. فتى جميل الطلعة جرب قدرته: قال “هذا المكان هام بالنسبة لنا لأنه مات فيه جنود لنا، وحاربنا من أجله” . بزلة لسان انقلب لديهم السبب والمسبب. هل يُعقل أن المكان الذي اعتبر هامًا جدًا ويستحق القتال من أجله نقدسه بسبب الدماء التي سُفكت من أجله؟ لماذا تحاربوا على هذا المكان منذ البداية؟ بعد لحظات من الصمت نهضت فتاة، مجعدة الشعر، من سديروت وقالت بشكل مباشر: “عموماً، هذا المكان لا أهمية له بالنسبة لي. لا يمثل أي أهمية خاصة بالنسبة لي، ربما ما عدا الطعام الجيد”.
منذ سنوات وأنا أعمل مرشدًا صيفيًا لجولة مدتها أسبوعين والتي خلالها تتجول مجموعة من الفتيان والفتيات اليهود والمسلمين، من أوساط ومناطق من النقب والجليل، في البلاد، من الجليل وحتى النقب، وحتى أنهم ينزلون في بيوت الطلاب المشاركين ويلتقون عائلاتهم. يلتحق بالمجموعة فتيان يهود من شمال أمريكا ووسطها، الأمر الذي يضفي بعدًا عالميًا ويحول لغة التواصل إلى اللغة الإنكليزية. على خلاف معظم البرامج التي تجمع بين الفتيان اليهود من الشتات مع الفتيان الإسرائيليين، هذه الرحلة الصيفية تفجر الفقاعة، تضع المشاركين فيها أمام تحديات وتكشفهم على تعقيدات الواقع الإسرائيلي وعلى وجود “الآخر”. يهود إسرائيليون ومسلمون فلسطينيون من مواطني إسرائيل – من الجليل والنقب، مع يهود الشتات، جميعهم مجتمعين حول ارتباطهم بالأرض وقصتها. ربما الحدث الرئيسي هو ليس بالعلاقة بين الطلاب وبين أهداف الرحلة أو المواقع بل تلك الديناميكية الجماعية وتلك الرحلة الداخلية التي يخوضها المشاركون كأفراد وكمجموعة.
يتمركز في قلب ذلك الحدث اللقاء بين العرب واليهود الذين يعيشون متجاورين ولا يعرفون بعضهم بعضًا في الواقع. يأتي الفتيان إلى هذا اللقاء وهم يحملون على ظهورهم عبء الهوية الذي تجذر في الجهاز التربوي، في البيت والمجتمع. ينكشف، خلال الرحلة، هذا العبء على العبء الذي يحمله الآخر. لا تكون الآليات الدفاعية، في هذه الجيل، قد تطورت كفاية بعد ومن السهل أن يندفعوا من ناحية المشاعر. كرة القدم، الرغبة والسجائر المسروقة هي الأشياء المشتركة بين كل الفتيان في العالم، وفي ظروف معينة لديهم الإمكانية أن يتعالوا عن كل الجدران والمسميات. لاحظت على مدى سنوات بان ردة الفعل الشخصية والجماعية، لدى الفتيان، تتكرر لدرجة أنها صارت متوقعة بالنسبة لي: في الشمال، ومع تلاشي أول خوف، تتبدل الحواجز ببهجة الانكشاف وتتكون علاقات صداقة؛ في اقدس، بين جبل الهيكل وحائط المبكى، تطفو مسألة الهوية الجماعية وتبدأ الأزمة، تدرك الفتيات الأمريكيات عند وصولهن إلى القرية البدوية المسافة البعيدة بينهن وبين زميلاتهن البدويات، اللواتي ضحكن معهن في الليالي الماضية وتبادلن الأسرار. يتعلم البدو في بركة السباحة أو على العشب، والذين يعيش بعضهم في قرى قريبة غير معترف بها، يتعلمون درسًا في معنى العدل بالتوزيع والسيطرة. يتعلم المشاركون درسًا واحدًا أو اثنين عن معنى الإنسانية.
من ناحية الديناميكية الجماعية، الفتيان والفتيات اليهود – الإسرائيليين هم الرواد: يُظهرون حالة من الثقة بالنفس والراحة نسبيًا مع وجود ذلك العبء الهرموني ومسائل الجندر والهوية التي تترافق مع سن المراهقة والرحلة. بالمقابل، الفتيان العرب يقفون متوترين ومحتارين بسبب ذلك التحرر الذي يميز الآخرين، تحديدًا فيما يخص العلاقة بين الجنسين. التقاليد، الفلسطينية، الإسرائيلية، الرغبة بالتدفق بدون معوقات أمام الحاجة لتذكر الظلم والحفاظ على الهوية، كل تخبطات النفس تلك واضحة على وجوههم الصغيرة. ذلك التوتر بين الديناميكية الجماعية واللقاء مع العالم الخارجي، الذي يصلهم من خلال البالغين، هو ذلك التوتر الذي بين هوية هي واقع وبين هوية أخرى مبنية. يتم في الفعاليات المنظمة الزام المشاركين بهويات قسرية: صهاينة أو فلسطينيين، يهود أو مسلمين، عبرانيون أو عرب. إلا أنه فقط عندما يلتقي المشاركون مع أنفسهم يتصرفون ببساطة: عرب فلسطينيون أو بدو، إسرائيليون أو يهود، وتحديدًا الفتيان المحتارين موجودين في ذلك المكان بين هذه اللحظة وبين الشيء الأكبر من ذلك. هذه هوية حقيقية بسيطة كما هي. لا شك بان أجمل لحظات في هذه الرحلة هي تلك اللحظات “الرمادية”، عندما يلتقي الفتيان والفتيات بدون أقنعة. في تلك اللحظات، من خلال نظرة جانبية هادئة، أتعلم كثيرًا.
هذا الصيف أيضًا، بعد رمضان وعيد الفطر مباشرةً، ستنطلق هذه الرحلة. لا يمكنني ألا أفكر كيف كنت سأتصرف خلال خدمتي العسكرية لو أتيحت لي الفرصة أن ألتقي شابات وشبان من العرب بهذا الشكل قبل عام من التحاقي بالخدمة العسكرية؛ التواصل مع فتيان عرب من مثلي جيلي، الصلاة معهم في الأقصى، وفي حائط المبكى، تناول الطعام في بيوتهم، لقاء عائلاتهم، أن أعيش تجارب معهم وأن أرى أنهم بشر مثلي تمامًا. هذا العام أيضًا سأكون مرشدًا في هذه الرحلة وسأتعلم منهم درسًا جديدًا بالتواضع والتعايش.
نُشرت المقالة للمرة الأولى في موقع Can Think