“داعش في المساجد وكتب المدارس”. كان هذا هو عنوان مقال دلال سلامة، وهي صحفية وإعلامية أردنية مسيحية، ومعلّمة سابقة في وزارة التربية الأردنية، وذلك في الموقع الأردني الليبرالي “حبر” وهذا ما كتبته:
” يوم 26 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، بعد يوم من عيد الميلاد، خصص الشيخ في أحد المساجد القريبة من منزلي خطبة الجمعة لمهاجمة المسلمين الذين «تشبّهوا بالكفار»، واحتفلوا في اليوم السابق مع المسيحيين بعيدهم. وكان مما قاله بالحرف الواحد، مشيرًا إلى المسيحيين:«إن علينا أن نكره هؤلاء القوم، وأن نكره دينهم وكتابهم المحرّفين».
تساءلت وقتها، عندما كان صوته، بفضل الميكروفون، في قلب المنازل المغلقة النوافذ، إن كان هناك شيخ آخر، في أحد المساجد المجاورة لحارة تسكنها أغلبية مسيحية، ولا تبعد عنّا أكثر من 500 متر، قد عنّ له أن يخوض في المسألة نفسها.
تشنّ وزارة الأوقاف منذ أشهر حملة على خطباء المساجد المناصرين لداعش، ولا أعرف إن كان هناك إجراء مشابه للمحرضين ضد المسيحيين، لكن إذا كان هناك شيء كهذا، فإنه وحده لن يُحدث أي فرق حقيقي، لأن جوهر المشكلة ليس في التعبير عن الأفكار المتطرفة، بل في الإيمان بها، وما دامت جهود محاربة التطرف لا تتواجه بوضوح مع هذا الإيمان، فإن الحرب على التطرف ستظل حربًا على رأس جبل الجليد”.
إن الحوار الإعلامي الذي يركز على الفرق بين الإرهاب وبين “الإسلام الحقيقي”، كما تعتقد سلامة، ليس سفسطة لغوية عاطفية. ذلك أنّ معظم هذا الحوار ينبع من الإعلام الرسمي، ولم يبق إلا الاستنتاج بأنّ “الإسلام الحقيقي” هو ذلك الذي يُنشر في الكتب التعليمية في الجهاز التربوي الرسمي. قبل نحو نصف عام، كما تذكّر الكاتبة، ثار الرأي العام العربي في أعقاب افتتاح سوق للعبيد في محافظة نينوى في العراق، وتمّ فيه بيع نساء مسيحيات ويزيديّات تم اختطافهنّ من قبل داعش.
” في كل حادثة إرهابية، فإن الفكرة الأساسية التي يرتكز إليها الخطاب الإعلامي المستنكر لها، هي أن ما حدث لا يمثل «الإسلام الحقيقي»، لكن أحدًا لا يخبرنا ما هو «الإسلام الحقيقي». لا أحد يحدد لنا هذا الإسلام الواحد المُتوافَق عليه، الذي يخرج الإرهابيون عنه. وهذا الضخ الإعلامي الهائل، الذي يخرج مستنكرًا كل حادثة إرهاب، مؤكدًا على أن هذا ليس الإسلام الحقيقي، ليس على الأغلب أكثر من إنشاء لغوي عاطفي.
قبل ستة أشهر تقريبًا، أُثيرت ضجة كبيرة على خبر افتتاح داعش سوقًا للرقيق في محافظة نينوى العراقية، عُرضت للبيع فيه، نساء مسيحيات ويزيديات، اختطفهن التنظيم خلال عملياته العسكرية، وتعامل معهن كـ«سبايا» حرب. وتداول الناس على نطاق واسع، عبر الإنترنت، مقطع فيديو يظهر مجموعة رجال، قيل إنهم من مقاتلي داعش، كانوا يتحدثون بمرح عن سوق الجواري المقرر انعقاده ذلك اليوم، وعن مواصفات الجواري المفضلة لهم.
وقتها قيل إن هذا ليس «الإسلام الحقيقي»، لكن كتاب التاريخ للصف التاسع1، يدرّس التلاميذ أن العبيد والجواري، كانوا من مكونات المجتمع الإسلامي في الماضي، ويعلق قائلًا إن «الدين الإسلامي لم يلغِ الرق، إلا أنه أوصى بحسن معاملة الرقيق، وحثّ على تحريرهم بطرق متعددة». أي أن التلاميذ يتعلمون أن الرّق ممارسة ما زالت إسلاميًا مشروعة، لكن سيكون من باب مكارم الأخلاق أن يتفضّل المسلم فيحرر ما لديه من عبيد من دون مقابل مالي، أو يمكن له استيفاء هذا المقابل من العبد نفسه، أو يمكن استخدام إطلاق سراح العبد للتكفير عن ذنب.
تُستنكر أخبار الإعدامات التي يقوم بها داعش في حق من يسميهم بالـ«مرتدين عن الإسلام»، ويُقال إن «الإسلام الحقيقي»، يتسامح مع حرية الاعتقاد، لكن في كتاب التربية الإسلامية للصف التاسع2، يتعلم التلاميذ وجوب «قتال المرتدين»، فبحسب الكتاب، فإن اتفاق أصحاب الرسول عليه السلام على قتال المرتدين عن الإسلام، هو أحد الأمثلة على «الإجماع»، الذي يُعدّ في الفقه الإسلامي أحد مصادر التشريع، بعد القرآن والسنة النبوية. ووفق الكتاب أيضًا، فإن كل ما هو محل إجماع «يجب العمل به (…) ولا تجوز مخالفته”.
كلّ ذلك، كما تؤكد سلامة، لم يظهر في الكتب التعليمية كتاريخ انتهى زمنه، وإنما كأسلوب يتصوّره الدين الإسلامي في الحاضر. كل مفهوم فكري أو اجتماعي يتم عرضه في تلك الكتب من وجهة النظر الدينية الإسلامية، مع التجاهل التامّ للتنوّع الديني والفكري القائم في الأردن وفي العالم. وهكذا، كما تقول الكاتبة، ففي كتاب “التربية الوطنية والمدنية للصف السابع” يتم مناقشة مفاهيم مثل الأسرة، العلاقات داخل الأسرة وحقوق المرأة من وجهة النظر الدينية الإسلامية فقط، ولكن الكتاب يضمّ عنوان “مدني”.
ولا تتجاهل الكتب التعليمية – كما تقول سلامة – الديانات والمجتمعات غير الإسلامية فحسب وإنما أيضا التنوع وتعدّد الأفكار داخل الدين الإسلامي نفسه، على سبيل المثال في موضوع تنظيم الأسرة. وهي تؤكّد قائلة:
” ينشأ التطرف عندما تعلن أي جماعة أنها تحتكر الحقيقة، لأنها ستبدأ بعدها بالنظر إلى الآخرين ممن يتبنون «حقائق» مغايرة، لا بوصفهم نظراء مكافئين، يمتلكون مثلها الحق في الوجود والتعبير، بل بوصفهم كائنات ضالة.
وبسبب ذلك، سيكون الآخرون المختلفون دينيًا، كما في كتاب الثقافة الإسلامية، للثاني الثانوي5،«أهل ذمة»، يحظون بـ«التسامح»، ولهم حق ممارسة شعائر دينهم «دون تحدٍ لمشاعر المسلمين»، ولهم حق تولي المناصب العامة «إلا رئاسة الدولة وقيادة الجيش”.
ولا يزال حال هؤلاء أفضل من أصحاب الأيديولوجيات الأخرى، كما تقول سلامة، والذين يظهرون في كتاب الثقافة الإسلامية للصف السادس كأحد أسباب تراجع “الأمة” لأنّهم تبنّوا أفكارا أخرى.
“أما المختلفون فكريًا، فإنهم سيكونون أحد أسباب «تراجع» الأمة، إذ يتعلم التلاميذ في كتاب الثقافة الإسلامية، للأول ثانوي6، أن من أسباب تراجع الأمة هو اتجاه «كثير من أبنائها إلى تبني كثير من الأفكار والعادات والقيم الدخيلة على الأمة المسلمة، والمستمدة من أفكار الأمم الأخرى وقيمها»، واعتماد هؤلاء على «ثقافة مستوردة لا تتناسب قيمنا وسلوكنا”.
وتتحدّث سلامة عن ابنها وأصدقائه المسيحيين، الذين اضطرّوا في عدة مرات إلى سماع معلّميهم ومعلّماتهم للدين وهم يشرحون بأنّ كل من ليس مسلما سيعاني من نار جهنّم بعد موته. والحادثة الأكثر بشاعة، كما تقول سلامة، هي في السنة الماضية، في الصف العاشر، عندما أجابت المعلّمة بالإيجاب على سؤال أحد التلاميذ إذا ما كان المسيحيون الطيّبون أيضًا سيذهبون إلى جهنّم، وشرحت بأنّ كل شخص عاقل ينظر إلى الكون من حوله سيعتنق الإسلام بالضرورة. “إنّه ذنبهم”، كما برهنت المعلّمة للطلاب، “لماذا لا يشغّلون عقولهم؟”
وهكذا تختتم سلامة مقالها:
” فلنبدأ من هنا، هل نريد مواصلة إنتاج أجيال يُقال لها إن كل من ليس مسلمًا سيذهب إلى النار؟ لأن كتب المدارس، وإن لم تتبنَّ المقولة السابقة صراحة، إلا أنها تفعل ذلك ضمناً، عندما تنغلق على رؤية وحيدة للعالم، وتحكم بالضلال على كل ما عداها، حتى من دون عرضه”.
حظي مقال سلامة الشجاع بمشاركات عديدة وبنقاشات موسّعة في الشبكات الاجتماعية. وهناك يمكن أن ننظر إليه من زاويتين: المبدئية والعملية.
من حيث المبدأ، يمكن القول إنّه في ديانات أخرى هناك احتمال للإقصاء والتطرّف، ومن بين أسباب ذلك أنّ هناك قناعة ذاتية كامنة في أساسها بأحقّيّتها وبطلان غيرها. “الدين الحقيقي” – سواء كان هو “الإسلام الحقيقي” أو “اليهودية الحقيقية” – ليس إلا خيالا، وذلك لأنّ هناك سبعين وجها للتوراة، وكذلك للقرآن.
مبادئ عن التسامح ومبادئ عن التطرّف ستجدها بوفرة في جميع النصوص المقدّسة، وكل من يرغب يمكنه أن يأتي ويأخذ. إنّ درجة التطرّف لدى المفسّرين ومعلّمي الفقه، كاريزميتهم وجاذبيّتهم، وعدد المؤمنين التابعين لهم وقوّتهم، كلّ ذلك متعلّق بالظروف السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية وربما أيضا الثقافية؛ في جميع الديانات.
من هذه الناحية يمكن تماما أن نقول إنّ تطوّر اليهودية الأرثوذكسية الحديثة في إسرائيل على خلفية قيام الصراع القومي والديني، وعدم وجود رغبة لدى الدولة في منح مكانة متساوية (أو على الأقل أكبر قليلا) في المجال العام والرسمي أيضًا للتيارات الأكثر ليبرالية في اليهودية، يعمّق توجّهات الإقصاء والتطرّف تجاه الآخر في الحوار، والممارسة والسياسة الدينية – القومية. من حيث المبدأ، إذا كان الأمر كذلك، يبدو أنّه ليس سوى ترسيم حدود الدين في المجال الشخصي في دول الشرق الأوسط، التي يعيش فيها جنبا إلى جنب السكان المختلفون من الناحية الدينية، العرقية والقومية، هو الذي سيقلّل التطرّف الديني أو على الأقل يفصله عن مصادر قوته المحتملة والخطرة.
من الناحية العملية، مع ذلك، يجب التشكيك في جدوى فصل الدين عن الدولة في منطقة أنشئت فيها سياستها وتأسست على الربط بين الدين والدولة، والتي يوجد لدى سكانها (بما في ذلك إسرائيل بطبيعة الحال) مكوّنات محافظة، تقليدية ودينية قوية والتي تسعى للقوة والتمثيل في المجال العام.
يبدو من هذه الناحية أنّ مبادئ إسرائيل الديمقراطية لا تزال صامدة أمام انتشار الدين في المجال العامّ، حتى لو كان الأمر ليس مفيدا جدّا للسكان العرب/ الفلسطينيين في إسرائيل، الذين هم متضرّرون من الطريقة التي تُطبّق فيها الصهيونية حتى في النسخة الرسمية. وبالمقارنة مع دول الجوار، من كل مكان، فإنّ إسرائيل هي شوكة ضاحكة بين الزنابق الباكية في هذا الصدد، فإنّ نضال الأقليات المسيحية والقومية في الشرق الأوسط لفصل الدين عن الدولة أو لتطبيق مبدأ المواطنة؛ أمر أكثر تعقيدا وخطورة. وفي حالة الدول العربيّة اليوم، وربما أيضًا دولة إسرائيل في المستقبل، فإنّ بصيص الأمل – إذا كان الأمر كذلك – هو في حركة إصلاح تنشأ من “الأسفل”، من الدين نفسه، وتجعل المؤمنين أكثر تسامحا مع الآخر.
كما يظهر في مقال سلامة، فإنّ بربرية داعش تجاه العرب تثير عملية من الاستياء والنقد الذاتي حتى في أوساط المؤمنين المسلمين، وهذه العملية هي شرط مسبق لكل تغيير مستقبلي.
نُشرت المقالة للمرة الأولى في موقع Can Think