في الأشهر الأخيرة نجح داعش في أن يُشكل تهديدًا بارزًا على الاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط. تحوّل التنظيم إلى علامة عالمية سيئة السمعة، وكلمة مرادفة لكلمة تطرف ورمزًا للقتل بلا هوادة. حالات الإعدام الجماعية التي نفذها رجاله في العراق وسوريا والتي وُثقت ونُشرت أمام الجميع، عبّرت أكثر من أي شيء عن استراتيجية الردع والمفاجأة والتي يتخذها سبيلا في المدن التي احتلها. بالمقابل، حظيت تهديداته باحتلال دول أخرى في الشرق الأوسط بصدى واسع ومنحته منبرًا إعلاميًّا لقوة عظمى تتكوّن. بهذا، جعل داعش نفسه بديلا عمليًّا للقاعدة، كجهة جهادية تنشر الإرهاب وتهدد السلام العالمي.
على ضوء هذه التطورات، يحاول هذا المقال فحص إذا كان الحديث فعلا عن قوة إسلامية جهادية صاعدة مرشحة للسيطرة على عدة دول في المنطقة، كجزء من برنامجها لتأسيس خلافة إسلامية، أو أن الحديث عن تنظيم محدود من حيث قدراته ووسائله، والذي تعلو طموحاتُه على قدراته ومشتقة من رؤياه للعالم الذي يدور في رأسه.
إن أعمال تنظيم داعش الوحشية في سوريا والعراق لا تشكل أي جديد لمن يتابع أفعاله منذ أن أعلن عن قيامه قبل سنة ونصف، لكن منذ شهرين بدأ يُذكر اسم التنظيم على لسان قواد العالم كتهديد جوهري. السبب في ذلك أن التنظيم في الأشهر الأخيرة نجح في احتلال مناطق واسعة من العراق بل وهدد بالهجوم واحتلال العاصمة بغداد، في طريقه نحو الاستيلاء على العراق كلها. اتّسمت خطواته هذه بجولات قتل مستنكَرة في حجمها وبشاعتها، والتي وصلت في الأسابيع الأخيرة إلى مستويات جديدة من الذبح الجماعي الذي نفذه رجاله مع الأقلية اليزيدية، فاقدة الحماية.
من غير استهتار بإنجازات داعش، يبدو أن سر قوة التنظيم الأساسية تكمن أولا وأخيرًا في ضعف خصومه. حتى الآن، حظي تنظيم داعش بإنجازات إقليمية في العراق فقط ومناطق سورية محدودة. ينبع الأمر من واقع كونهما دولتين فاشلتين، يعاني النظام الحاكم فيهما من فقدان شرعيته لدى مواطنيه وعدم السيطرة الفعلية على أجزاء واسعة من المقاطعات في تلك البلاد. الجيش العراقي فاشل، وليست لديه روح القتال، بينما الجيش في سوريا منشغل بالأساس بالإبقاء على النظام في المدن الرئيسية في الدولة. يسمح هذا الفراغ السلطوي لداعش بحرية التحرك في المناطق والمدن الحدودية في هذه الدول. يبدو أن سبب المعارضة القليلة لطريقة داعش في المناطق التي احتلها، هو الإجبار وسياسة الإرهاب التي عمل بها ضدّ السكان المحتلين، لكن على الأمد الطويل من المتوقع أن تثير هذه الأعمال مناطق واسعة ضدّه. أغلب السنيين ليسوا معنيين بتفسير داعش المتطرف لأسلوب الحياة الإسلامية المطلوبة، لكن في هذه المرحلة ليس بيدهم من خَيار إلا الانصياع له ولو كان ظاهريًا. في حالة أنْ حاول التنظيم توسيع احتلاله لمناطق عراقية فيها فئة شيعية مقيمة هناك- بدءًا من مدينة بغداد ومرورًا بالمدن الشيعية المقدسة مثل النجف وكربلاء- من المتوقع أن يجابه فئة مقاتلة تحميها قوة عسكرية إيرانية وكذلك تدخل أعمق من دول غربية، كما حدث حين هدد التنظيم بالدخول إلى قلب المنطقة الكردية في العراق. يمكن أن يحدث أمر مشابه إن تجرأ على التوجه قبالة الأردن أو تركيا. لهذا السبب تظهر تهديدات داعش، لأن بيديه قوة إحراز إنجازات مشابهة في دول أخرى في المنطقة -الأردن، لبنان وطبعًا إيران وتركيا- فاقدة لأي أساس.
عمليًّا، الخطر الأساسي المتوقع من داعش لا يتعلق بسلامة دول المنطقة وإنما بقدرته على ضخ الأموال ووسائل القتال المتطورة للتنظيمات الإرهابية الناشطة في الشرق الأوسط وبالأساس تحويل المقاطعات التي يسيطر عليها، والتي توصل بين غرب العراق وشمال وشرق سوريا، إلى أرض حصينة. يمكن أن يشكل هذا أساسًا لتقدم النشاطات المقوّضة وناشرة الإرهاب، التي يمكن أن تعمق عدم الاستقرار في المنطقة. إن مساحة كهذه تحت سيطرة جهة متطرفة ذات ميول خلاصية مثل داعش، ستمكّن الجهات الإرهابية الجهادية السلفية في أرجاء العالم من أن تجد فيها ملجأ، واستخدامها كنقطة انطلاق للنشاط الإرهابي وملاذًا لما بعدها. ستُستخدم هذه المساحة للتدريبات، نقل المقاتلين ووسائل القتال منها وإليها وستُحّول حلم القاعدة منذ عقدين، إلى واقع مروّع في العقد الحالي.
نجح داعش، بطريقة إدارته، في تمييز نفسه عن عامة تنظيمات الجهاد العالمية، التي ما زالت تؤيد القاعدة حتى الآن في المواجهة الحادة التي تجري بين الظواهري، وبين أبي بكر البغدادي. بتعيين نفسه خليفة، جعل البغدادي كل من لا يعترف بلقبه الجديد ومن لا يطيعه، كافرًا. وهكذا يبدو أنّ في عملياته المتتابعة والمستمرة في المناطق التي احتلها داعش تظهر دلالة جديدة لمعنى التطرف الذي وبشكل متناقض يُسلط الضوء على القاعدة- النصير سابقًا والعدوّ لاحقًا- تسليطًا واقعيًّا نسبيًّا. لقد تجاوز رجال داعش الخطوط الحمراء ورفعوا سقف الوحشية، التي أظهرت القاعدة وشركاءها في الماضي، في مستويات عالية. يمكن أن تتحوّل هذه إلى عادة عادية في المواجهات المتوقع قدومها، ليس فقط من ناحية تنظيم داعش وإنما أيضًا من جانب التنظيمات الإرهابية الأخرى، التي تستقي الإلهام من منهجه، والتي ترتسم في هذه المرحلة بأنها ناجحة. وجود آلاف الشباب المسلم من أًصقاع العالم، ومنهم مواطنون عرب في مناطق القتال في سوريا، والذين يتنقلون بينها وبين العراق ويشاركون في الأعمال الفظيعة التي تجري في كلتا ساحتي الحرب، يمرون بمرحلة ترسيخ التنظير الجهادي ويكتسبون تجربة قتالية ومهارات في القتال الإرهابي وحرب الشوارع، وهذا يشكل تهديدًا عارمًا. هذه التجربة المتراكمة يمكن أن تترجم إلى أعمال إرهابية في مدنهم الأصلية. على ضوء ذلك، يجدر الانتباه للغاية “لرياح الشر” التي تثيرها داعش والرسائل التي يبثها بين مؤيديه فعلا وإكراها. يمكن لهذا أن يترك أثرًا سيئًا على أفعالهم، حتى بعد أن يُقمع صعود التنظيم في النهاية على يد قوات أكبر منه.
يبدو أن هناك للمخاوف التي أبداها مؤخرًا رؤساء بريطانيا، الولايات المتحدة وفرنسا من تصدير الإرهاب من منطقة الشرق الأوسط إلى دولهم، أساسًا صلبًا. يمكن التخمين أن صعود تنظيم داعش في العراق وسوريا سوف يُقمع، كما يتوقع، على يد قوات أكثر قوة وتنظيمًا منه، ويُتوقع لظاهرة الجهاد العالمي التي يمثلها بالأساس حتى الآن تنظيم القاعدة وشركاؤه والآن داعش وشركاؤها، أن تحظى بالتأييد من جانب جيل جديد من مناصري الجهاد. يبتغي هؤلاء محاولة تجديد منظومة الإرهاب الدولية التي كُبحت خلال العقد والربع الذي مر منذ الهجوم الإرهابي على الولايات المتحدة. تقريبًا لا يمكن الوقوف في وجه عودة آلاف الشباب من دول الغرب، الذين يساهمون في القتال بسوريا والعراق، إلى دولهم الأصل وينشروا بها تنظيرهم الجهادي السلفي العسكري، الذي تشرّبوه خلال قتالهم. سيسعَوْن إلى تطبيق تجربتهم القتالية التي اكتسبوها من العمليات الإرهابية على الدول الغربية، سواء أكانوا جزءًا من تنظيم داعش أو القاعدة أو بإقامة شبكات إرهابية مستقلة أو حتى أفرادا معدودين.
من المفضل للائتلاف الدولي الواسع، الذي استُغيث به للتحرك ضدّ إرهاب القاعدة وشركائها وجاء متأخرًا كثيرًا- فقط بعد كارثة 11 أيلول 2001- أن يستيقظ في الوقت المناسب وأن يعود للعمل كي يقمع ظاهرة داعش وهي ما تزال في مهدها قبل أن يضطر لفعل ذلك تحت تهديد الإرهاب في قلب مدنه.
نشر المقال للمرة الأولى في موقع “INSS“.