تخيّلوا المشهد التالي: ربّة منزل من المدينة المختلطة (مدينة يسودها التعايش بين العرب واليهود) يافا، تستقبل، مرّتين في الأسبوع في ساعات المساء في غرفة الجلوس الدافئة في منزلها، ضيوفا من الولايات المتحدة والذين حضروا لتذوّق مأكولاتها.
تخيّلوا الآن أنّ تلك المرأة، هي في الواقع ربّة منزل لم تعمل أبدا وحرصت خلال السنين على تربية أطفالها، وتوفير كافة احتياجاتهم وكذلك على دعم زوجها. ولكن شيئا ما قد تغيّر في حياتها في السنوات الثلاث الأخيرة، لذلك قرّرت المبادرة إلى مشروع اقتصادي اجتماعي كبير، وبدءت العمل من منزلها الصغير.
هذه هي قصة عليا دسوقي، ربّة منزل من يافا، قرّرت كسب الرزق فبادرت إلى افتتاح مصلحة تجارية صغيرة، كانت قد حظيت مبادرتها هذه بدعم زوجها وأسرتها، وتهتم مصلحتها بشؤون المطبخ الفلسطيني المحلي واستضافة الضيوف الذين يرغبون في تناول الطعام من جميع أنحاء العالم في غرفة الجلوس في منزلها.
يدعى هذا المشروع “الطعام الاجتماعي” وقد اكتسب في السنوات الماضية زخما كبيرا جدّا في أرجاء إسرائيل. صحيح أنّ هناك أشخاص كثيرين يشعرون قلقين من فكرة استضافة الكثير من الأشخاص لتناول وجبة العشاء، بالمقابل، هناك أشخاص يشعرون عكس ذلك تماما. ويدور الحديث عن الخبيرون بالطهي والذين يتمتعون باستقبال الضيوف على مائدة الطعام، ويكون بيتهم مفتوحا دائما ومتاحا لكل من يطرق أبوابه ويرغب في تذوّق الأطعمة فيه. يشعر الأشخاص الذين يحبون استضافة عشرة، عشرين، أو حتى خمسة غرباء، بمتعة الطهي.
“عندما تزوجتُ من أبو سليمان لم أكن أعرف الطبخ”، هكذا تعترف أمامي السيّدة عليا دسوقي ونحن لا نزال نجلس ونحتسي الشاي الساخن، في حديقة منزلها المُعتنى بها على مشارف حيّ يافاوي. “لقد عشنا مع حماتي وبدأت أتعلّم منها أسرار الطبخ الفلسطيني التقليدي. رويدا رويدا، تعلّمت المزيد من الوصفات وأثريتُ عالمَي في مجال الطهي”، كما توضح.
لم تتعلم أم سليمان في المدرسة، وقضت معظم أوقاتها في الطبخ من أجل عائلتها. عندما كبُر أطفالها الأربعة وتركوا منزل العائلة، أصبح لديها الكثير من أوقات الفراغ. وبعد أن حظيت بتشجيع زوجها أبو سليمان، ناشطا اجتماعيا معروفا في يافا، بدأت تشارك في لقاءات جمعية “عروس البحر”، التي تعمل على تمكين المرأة العربية في يافا بدعم من صندوق إسرائيل الجديد.
“في الحقيقة، في البداية، بدأ طلاب من جامعة تل أبيب بتوجيهي حول كيف يمكنني أن أبني مصلحة تجارية، وأن أنجح فيها، وكيف تكون مصدر رزق لنا رغم أنني لست متعلمة. ففي البداية، صُدمت من فكرة استقبال ضيوف غرباء في منزلي. أذكر أنّ رد فعلي الأول على الفكرة كان رفضا تاما. رويدا رويدا بدأت أنظر إليها على أنها فرصة قد تعزز وضعي الاقتصادي. لذلك استشرت زوجي أبو سليمان، الذي بفضل مساعدته نجحت في إقامة هذه المصلحة التجارية الصغيرة. وكما تحمس أولادي جدّا أيضا للفكرة ورويدا رويدا بدأتُ باستضافة الضيوف وتقديم الطعام لهم في منزلي”.
لقد حظيت عليا بمرافقة تجارية ودعم أولي من الصندوق الجديد الذي ساعدها في معرفة الإمكانية الكامنة في وجباتها المنزلية، وأصبحت اليوم سيّدة أعمال بكل معنى الكلمة. ففي إطار Eatwith، وهو مشروع يعرض تناول الطعام في منازل الآخرين، تشارك فيه عليا وتستضيف أشخاصا لا تعرفهم لتناول وجبة مميزة للمطبخ العربي التقليدي، ولقد تغيّرت حياتها من النقيض إلى النقيض. “أشعر بثقة كبيرة”، كما تقول. أجلس مع ضيوفي، وأتحدث معهم عن الوجبات وعن الحياة في يافا مما يجعلني أشعر بفرح كبير”.
بينما يجلس ضيوف أم سليمان في غرفة الجلوس في منزل العائلة ويستضيّفهم أبو سليمان، تحدّثني عن الطعام الذي تطبخه “أحضر كل الطعام الفلسطيني التقليدي الذي ترعرعنا عليه منذ طفولتنا ويحب ضيوفنا التوابل وطريقة تقديمي للطعام. أحضر المقلوبة، المعجّنات، الكفتة بالطحينة، والكفتة بالبندورة. وكذلك أعدّ وجبات المحاشي والسلطات الخاصة”. توضح لي أم سليمان قائلة إن الإسرائيليين يعتقدون أنّ الطعام العربي روتين وموحّد، ويكثر فيه تناول الحمّص واللحوم المشوية. وأنا أعتقد أن كل “منطقة تتمتع بخصائصها وأنا أنجح في التنويع”.
“أسأل ضيوفي الذين يزوروننا من جميع أنحاء العالم إذا كان هناك طعام معين لا يأكلونه أو إذا كانت لديهم حساسية معيّنة للطعام، وذلك قبل وصولهم. وكما تعرف لقد أصبح في أيامنا وعي كبير للخضرية والنباتية. على سبيل المثال، هناك بين الضيوف الأمريكيين الذين يجلسون الآن ويتناولون الطعام في منزلي نباتيون وأيضًا امرأة لديها حساسية للسمسم. أهتم بهذه الأمور أيضا”. تقول أم سليمان إنّها اكتسبت كل هذه المهارات في إطار التدريب المهني الذي حصلت عليه في جمعية “عروس البحر”.
ولقد سألتها إذا شعرت أن هناك انخفاض في عدد الطلبيّات منذ اندلاع العنف في الأشهر الأخيرة في إسرائيل؟ فأجابت: “لا شكّ، فمنذ البداية تماما كان من المتوقع أن تصل مجموعة من الضيوف اليهود لتناول وجبة العشاء وعندما اندلعت موجة العنف في القدس أخبرني المسؤولين عن المجموعة عن إلغاء الزيارة. غالبا، نحن لا نتحدث عن السياسة حول المائدة. أفضّل الحديث عن الأسرة، الطبخ وأنا أيضًا أعقِدُ في منزلي يوم الجمعة ورشات طبخ وهذه هي المواضيع المفضّلة لديّ”.
لدى عودتنا إلى غرفة الجلوس في المنزل، كان الضيوف على وشك الانتهاء من تناول الوجبة. يعرف أبو سليمان، الذي عمل على مدى سنوات في مؤسّسات بلدية تل أبيب يافا، المجتمع اليافاوي جيّدا، نقاط قوّته وضعفه. وقد طرح عليه الضيوف الأمريكيون، الذين عرّفوا عن أنفسهم أنهم يهود ليبراليون، الكثير من الأسئلة حول الحياة المشتركة في المدينة، موجة العُنف، الهوية الفلسطينية الإسرائيلية المنقسمة وحول مستقبل العلاقات بين إسرائيل والفلسطينيين. فأجاب متأثرا: “ولدتُ في بيارة في يافا مثل الكثير من السكان فيها. أسرتي مقسّمة ومشتتة في أنحاء العالم العربي. من بين 110 ألف مواطن عاشوا هنا في يافا قبل قيام دولة إسرائيل بقي 3000 آلاف شخص فقط. أُهمِلَت المدينة وعانت لسنوات طويلة من الإهمال المؤسسي ولكنّي لم أتنازل أبدا عن الحياة المشتركة إلى جانب جيراني اليهود”.
وعندما سُئل عن مستقبل العلاقات وإذا ما كانت هناك فرصة لصنع السلام الدائم، قال أبو سليمان، في الوقت الذي كانت فيه أم سليمان تقدّم للضيوف الشاي الحلو الساخن وطبقا من البسبوسة الحلوة، “يمكن صنع السلام. لذلك يجب على الزعماء السياسيين أن يدركوا أنّه ليس هناك حلّ بديل آخر لعيش كلا الشعبين الواحد بجانب الآخر باحترام. ويشكل الطعام والاستضافة في منزلنا حول هذه الطاولة وعمل أم سليمان خطوة صغيرة نحو التعايش، الحياة المشتركة، والمستقرة”.