نُشر المقال للمرة الأولى في موقع “ميدا”
منذ سنوات والمملكة المتحدة تعتبر في أعين كثيرين مدينة ملجأ، إنْ لم يكن معقلا، للإسلام المتطرّف بتيّاراته المختلفة. ليس عبثًا أن تُدعى لندن باسم “لندنستان”؛ فقوانين الهجرة، منح اللجوء السياسي بسهولة وسياسة الرعاية الاجتماعية السخيّة، جميعها مكّنت الكثير من الإسلاميين، بما في ذلك الإرهابيين الذين حوكموا بعقوبات مختلفة في دولهم الأصلية والجمعيات التي تموّل الإرهاب، من إيجاد أرض خصبة لنشاطهم. تعتبر لندن في إسرائيل وكر المنظّمات والنشطاء الداعمين لحركة حماس، لأسباب وجيهة. إنْ لم يكن هذا كافيًّا، فقد تحوّلت العاصمة الإنجليزية إلى أحد المراكز الرئيسية في العالم للنشاطات الواسعة المعادية لإسرائيل، والتي تشمل نزع الشرعية في إطار حركة BDS العالميّة والمظاهرات المعادية لإسرائيل والمعادية للسامية والعنف.
هناك عامل بارز ساهم في تطوّر الأوضاع وهو ثقافة “الصحيح سياسيّا” (Politically correct) التي انتشرت في المملكة، ومكّنتْ، من جهة، النشاطات المعلنة والصريحة ضدّ الديمقراطية البريطانية وقيمها؛ ومن ناحية أخرى، حوّلتْ لندن لعاصمة العالم في دعاوى التشهير، وهي حقيقة تم استغلالها جيّدا من قبل الإسلاميين الذين يقدّمون الدعاوى ضدّ الباحثين، الكتّاب والصحفيّين من بريطانيا والخارج بذرائع “الإسلاموفوبيا” و”خطاب الكراهية” (“Hate speech”)، بهدف حظر نشر تحقيقات حول صلتهم بالإرهاب. وهكذا، تنشط الجماعات الإسلامية الراديكالية بحريّة في بريطانيا، تحت الرعاية السخية للصواب السياسي، وتعمل على نشر مذهبها، وأحيانًا بشكل مخالف للقانون. ويبدو مؤخرًا أنّ هناك مسؤولين في النظام قد بدأوا بالاستيقاظ، ولكن أليس هذا “قليل جدّا، ومتأخّر جدّا”؟ إنّ استطلاع ما يحدث في بريطانيا هذه الأيام يُظهر صورة مقلقة ومعقّدة، الأمر الذي يضع السلطات أمام اختبار صعب.
حصان طروادة، نسخة وستمنستر
تعيش الإسلامويّة وتتقدّم في بريطانيا: تأثيرها واضح في مجالات مختلفة لدى الجاليات المسلمة وفي المنظومات المختلفة. على سبيل المثال، يعمل الإسلاميّون المتطرّفون على نشر مذهبهم في أنحاء القارة: ظاهرة وعظ الدعاة المتشدّدين وتوزيع الكتب الدينية المتطرّفة في المساجد (بما في ذلك كتب تعليمية من النظام التعليمي السعودي)، في المدارس والمراكز الثقافية الإسلامية، والتي يتلقّى بعضها تمويلا حكوميّا، هذه الظاهرة أصبحت منذ زمن أمرًا روتينيًّا. يمكننا أن نعثر في المواعظ والكتب الدعائية على دعوات للجهاد، التحريض على العنف ضدّ النساء، المثليّين والمرتدّين (المتحوّلون عن دين الإسلام) والتميّز عن غير المسلمين. في عام 2007 أيضًا نُشرت عدّة تحقيقات حول الموضوع، والتي ترافقت – بنحو ملائم – مع معارك قانونية ودعاوى تشهير ضدّ الناشرين.
طوني بلير: “الإسلام الراديكالي هو التهديد الأكبر في العالم اليوم“
فضلا عن ذلك، في شهر آذار هذا العام تم الكشف عن نطاق واسع من محاولات سيطرة العناصر الإسلامية المتطرّفة على مئات، إنْ لم يكن آلاف المدارس العامّة والخاصّة في المملكة. عملية “حصان طروادة”، كما سمّيت من قبل المبادرين إليها، هي في الواقع استراتيجية لأسلمة المدارس من خلال التهديدات، التخويف استراتيجي و”إجبار” المعلّمين المعارضين لهم على ترك المدارس، والسيّطرة على مجالس المديرين والإدارات. ترافقت هذه الخطوة، في حالات كثيرة، مع محاولات منع المضامين “غير الإسلامية” مثل التربية الجنسية، السباحة المختلطة والاحتفال بعيد الميلاد، وأيضًا محاولات للإلزام بلباس موحّد إسلامي للنساء والفتيات (الحجاب والملابس الطويلة) والفصل بين الجنسين في الفصول الدراسية.
وبالإضافة إلى ذلك فقد ورد تقرير حول تعليم أيديولوجيا تنظيم القاعدة في المدارس والتعبير عن دعم نشطائه. شهد الكثير من المعلّمين بأنّ السلطات كانت على علم بما حصل خلال عقدين، ولكنها غضّت البصر كيف لا تتّهم بـ “الإسلاموفوبيا” والعنصرية، وكلّ ذلك من أجل قيم التعددية الثقافية والصواب السياسي. بعد فضح المؤامرة، في بداية شهر نيسان هذا العام، وعد رئيس الحكومة كاميرون باتخاذ “إجراءات سريعة” لمعالجة هذه المشكلة.
وليست تلك هي الظاهرة الوحيدة التي كُنستْ من تحت البساط. فقد كُشف مؤخرًا عن نطاق هائل لظاهرة الـ “Grooming”، التي صدمت المملكة المتحدة والعالم كله. وهو الاسم الذي أطلق على العملية التي تقوم خلالها عصابات منظّمة من الرجال المسلمين مرتكبي الجرائم الجنسية باكتساب ثقة الفتيات والصغيرات غير المسلمات، معظمهنّ من البيض، ويتم إعدادهنّ للاستغلال، التجارة والاستعباد الجنسي. سلطات الرعاية الاجتماعية، الشرطة، المعلّمون، السياسيّون ووسائل الإعلام؛ جميع هؤلاء ممن كانوا على علم بما يحدث قلّلوا من قيمة الظاهرة وامتنعوا من نسبة عملياتها للفئات الدينية أو العرقية من أجل عدم المس، لا سمح الله، بقداسة “الصواب السياسي”.
تقف المنظومة القضائية أيضًا هذه الأيام في مركز النقاش العام والسياسي، بعد أن وضعت نقابة المحامين مبادئ توجيهية لأعضائها في موضوع كتابة الوصايا وفقًا للشريعة الإسلامية. أثارت هذه الخطوة الانتباه لموضوع الشريعة وتسرّبها خلال عقود إلى داخل القانون والمجتمع البريطانيّ، مع التركيز على قوانين الأسرة والزواج. يجيز القانون البريطانيّ، للمحاكم من مختلف الديانات، بما في ذلك المحاكم الدينية، التمييز بين الصقور (الصقور: تأتي في السياق بمعنى المتشددين)، شريطة أن يكون كلا الطرفين قد اختار النموذج بشكل طوعي، وألا تتعارض الأحكام مع القانون العامّ البريطانيّ (Common Law). ولكن هل يمكن فعلا أن نعلم بالتأكيد بأنّ المرأة قد اختارت المحكمة الشرعية بإرادتها الحرّة؟ في الممارسة العملية، فخلال عقود تم إصدار أحكام بروح الشريعة بما يخالف القانون البريطانيّ ومبادئه، على سبيل المثال، تم إصدار الحكم بأنّ الوارثات من الإناث يأخذن نصف الميراث الذي يستحقّه إخوانهنّ الذكور. في حالات معيّنة تجاوز الفقهاء المسلمون مجال قانون الأسرة وانتهكوا القانون الجنائي، وذلك عندما أجبروا النساء على البقاء مع أزواج يضربونهنّ أو الأمر برفض التعاون مع السلطات. ومرة أخرى، تجاهلت الشرطة والادّعاء الأمر، للأسباب المعروفة.
ردّة فعل متأخرة
في حديث مع موقع “ميدا” الإسرائيلي (موقع فكري عن الأحداث الجارية، يعكس نظرة محافظة – ليبرالية، أطلق عام 2012)، أضاف الشيخ الدكتور محمد الحسيني دورات أخرى لتعقّد الصورة العامّة. الحسيني هو خرّيج جامعة الأزهر في القاهرة، باحث مشارك في الدراسات الإسلامية في معهد “وستمنستر”، ومؤسس جمعية Scriptural Reasoning في بريطانيا، والتي يتعلّم فيها الحاخامات، الأئمة، والقساوسة نصوصًا مقدّسة. قال الحسيني إنّ هناك تياران رئيسيّان في الإسلاموية البريطانيّة يقفان وراء موجة التطرّف: “الإخوان المسلمون” وخصوصًا حركة الجماعة الإسلامية البنغلاديشية – الباكستانية. وكلّ ذلك بمساعدة قسم كبير من التنظيمات الإسلامية، بما في ذلك المنظّمة الأكبر، “المجلس الإسلامي في بريطانيا”، والقوة السياسية المرافقة لها.
“بشكل شبيه بالأوضاع في الولايات المتحدة، فقد نجحت هذه التنظيمات باختراق المؤسسات، تعيين المستشارين بالنيابة عنهم في مكاتب الحكومة المختلفة والحصول على برامج مختلفة بما في ذلك اجتثاث التطرّف. يُنظر إليهم على أنّهم ممثّلو الجالية المسلمة رغم أنّهم في الواقع يمثّلون فقط نحو “6% من الشارع المسلم”، هذا ما قاله الحسيني، ولكنه أضاف إنّه رغم ذلك فلا يمكن أخذ هذه الأمور دليلا على “أنّ معظم المسلمين في بريطانيا يحملون وجهات نظر معتدلة، فالأمر ليس كذلك إطلاقًا”. “يجب إجراء بحث شامل حول هذا الموضوع. ففي الواقع هي مجموعة كبيرة من التيارات، التنظيمات، المجموعات العرقية بل والعائلات التي تدير الصراع على الهيّمنة، وأحيانًا مع لمسة أيديولوجية، حول المساجد والتنظيمات بشكل تبدو فيه الصراعات النموذجية في الكُنس ضئيلة مقارنةً معها”.
مع مرور الوقت، يبدو أنّ السلطات البريطانيّة قد بدأت فهم ما الذي تواجهه. منذ بداية هذا القرن، وخاصة منذ التفجيرات الإرهابية في مترو الأنفاق في لندن بتموز عام 2005، ترسّخ لدى القيادة السياسية لكلا الحزبين الرئيسيّين الفهم بأنّ عليها مواجهة قضية تطرّف الشباب المسلمين البريطانيّين، وراء التنفيذ الصارم لقوانين مكافحة الإرهاب. حقّقت الاستراتيجية “الوقائية” (Prevent Strategy)، التي كانت تهدف إلى مواجهة ظاهرة التطرّف على مستوى الفرد، المجتمع، منظومات الرعاية الاجتماعية، القانون، إنفاذ القانون، التربية، الأيديولوجية والتعاون الدولي؛ نتائج متباينة.
صرّح رئيس الحكومة ديفيد كاميرون في خطاباته عن فشل التعدّدية الثقافية في بلاده، ودعا إلى تعزيز الهوية والقيّم الوطنية كوسيلة لمنع التطرّف
تدلّ تصريحات مسؤولي النظام السياسي على التغيّر في الإدراك والاعتراف بالتهديد. صرّح رئيس الحكومة ديفيد كاميرون في خطابه الأول الذي يتعلّق بالموضوع، عن فشل التعدّدية الثقافية في بلاده، ودعا إلى تعزيز الهوية والقيّم الوطنية كوسيلة لمنع التطرّف. شكّل كاميرون فريق مهامّ وزاري لمواجهة الإرهاب والتطرّف من الداخل في أعقاب القتل المروّع في شوارع لندن للجندي البريطانيّ لي ريجبي قبل نحو عام، وفي بداية شهر نيسان هذا العام أمر بالتحقيق في أنشطة جماعة “الإخوان المسلمين” في بريطانيا، بعد اتّهامهم بالإرهاب والتحريض على العنف وإخراجهم من القانون في مصر والسعودية. وبطبيعة الحال، فمن المستحيل عدم ذكر التصريح الاستثنائي الذي صدر مؤخرًا من رئيس الحكومة البريطانية الأسبق توني بلير، الذي قال إنّ “الإسلام الراديكالي هو التهديد الأكبر في العالم اليوم”.
سحب طرفي الحبل
إذا كان الأمر كذلك، من جهة نحن نشهد تحقيقًا ضدّ “الإخوان المسلمين”، ونشاطات أخرى ذُكرت أعلاه، بالإضافة إلى خيبة الأمل من التعددية الثقافية وتصريحات القيادة السياسية ضدّ الإسلام الراديكالي. ولكن من جهة أخرى، لا يزال الصواب السياسي متجذّرًا وما زلنا نشهد تصريحات مثل تصريح رئيس الحكومة كاميرون، الذي دعا إلى تحويل بريطانيا إلى مركز عالمي للمصارف الإسلامية (وفقًا لقانون الشريعة).
حسب تقديرات الدكتور الحسيني، فإنّ تشديد النهج ضدّ الإسلام الراديكالي جاء من الأسفل تحديدًا:
يجب أن نفهم أنّ الفجوة بين الشعب البريطانيّ وبين الحكومة آخذة في الازدياد. بعد قتل الجندي لي ريجبي حدث تغيير كبير في الرأي العامّ البريطانيّ، وقد غضب البريطانيّ العادي بعد جرائم القتل وبعد اكتشاف محاولات الهيّمنة على المدارس، ظاهرة Grooming، وغيرها. هناك مشرّعون يقترحون قوانين في موضوعات قانون الأسرة التي ذكرناها، وقد أنشأ رئيس الحكومة كاميرون قوة المهامّ لمواجهة الإرهاب والتي أنتجت توصيات جديدة مثل حماية حرية التعبير، حتى في حالات توجيه الانتقادات للإسلام.
رغم أنّ هناك قوى إسلامية معتدلة تتواجد في بريطانيا، فهي غير مسموعة لعدد من العوامل. حسب أقوال الحسيني، في نهاية اليوم، من يمثّل الجالية المسلمة أمام الشعب العريض هي القوى المتطرّفة. ولكن بشكل مفاجئ، للحفاظ على الوضع الإشكالي القائم تُسهم أيضًا مؤسسات دينية غير مسلمة:
رغم أنّ هناك قوى إسلامية معتدلة تتواجد في بريطانيا، فهي غير مسموعة. لعدد من العوامل. في نهاية الأمر، القوى المتطرّفة هي التي تمثل الجالية المسلمة أمام الشعب العريض
إحدى المشاكل الرئيسية هي أنّه حتى حين تكون هناك رغبة لدى السياسية في اتّخاذ موقف من الموضوع، فأولئك الذين يعارضون كلّ تغيير بشكل شديد، مع الأسف، هم القادة الدينيّون [غير المسلمين]. هناك مصلحة مفهومة قويّة جدّا لقادة الكنيسة، وبدرجة معيّنة للحاخامات من المؤسسة الدينية اليهودية الليبرالية، في حماية دور الدين كقوة سياسيّة في بريطانيا. ولكن جهود هؤلاء القادة في حماية حرية العبادة للأقليات الدينية (بما في ذلك اليهود) في إطار التعددية الثقافية البريطانية [مثل قضايا الختان، الذبح والحلال] تؤدّي إلى التعاون الفعّال مع الإسلامويّة. إنّهم يقفزون بشكل ساخر على عربة الطموح الإسلامي في تحقيق قوة سياسيّة، لأنّ ذلك يمنح المنظّمات متعدّدة الأديان والمنظّمات الدينية أموالا حكومية كثيرة.
بعد الحادي عشر من أيلول، تم ضخّ مليون جنيه إسترليني للمنظّمات متعدّدة الأديان. هناك مصلحة كبيرة للمنظّمات والشخصيات المشاركة فيها في الحفاظ على “صناعة المنظّمات متعدّدة الأديان”، حتى عندما توفّر غطاءً ومصدر تمويل للمنظّمات الإسلامية المتطرّفة المرتبطة بالإرهاب. والأمر نفسه ينطبق على التنظيمات ونشطاء المجتمع، الذين يعقد بعضهم صفقات مع تلك التنظيمات المتطرّفة من أجل تحقيق قوّة سياسيّة. على سبيل المثال، فإنّ خلفية دعم المصارف الإسلامية من قبل القيادة السياسية، هي حقيقة لأنّه نظرًا لزيادة الطلب من الداخل والخارج، فإنّ الناس في لندن سيجنون ثمار الأموال من النموّ فيها وفي المنتجات المالية الأخرى الموافقة للشريعة.
إنّ صورة الوضع الحالي المرتسمة تُشير إلى أنّ الوضع الإشكالي الذي وجدت بريطانيا نفسها فيه لن يُحلّ قريبًا. تمنع القوى المتصارعة التي تعمل داخل المملكة إمكانية القضاء التامّ على الإسلام الراديكالي. ورغم وجود اتجاه التخلص من الوهم، فإنّ وهم التعدّدية الثقافية لا يزال يمنع مسارات العمل الممكنة، ويشجّع بالمقابل أيضًا تعزيز قوى اليمين المتطرّف، كما حدث في فرنسا مؤخرًا.