يبدو للوهلة الأولى أن ما يجري هو مَشاهد من فيلم هوليوودي حول الجريمة وعصابات المافيا، من أفضل الأفلام التي تم إخراجها في الآونة الأخيرة، إذ تقع محاولتا تصفية مجرمين كبار خلال عشرة أيام فقط.
تصلُ صراعات العصابات ومنظمات الجريمة في إسرائيل إلى أرقام قياسية جديدة عندما يتم تفجير سيارات مفخخة وتنظيف حسابات قديمة وجديدة في وضح النهار، دون اعتراضٍ من أحد، في مدن إسرائيل الكبرى.
النقد المدنيّ الحادّ الموجّه ضد نشاط الشرطة، وبالذات فشلها في القضاء على ظواهر العنف في السنين الأخيرة، يمحو كلَّ محاولةٍ لإضفاء ولو قليلٍ من الأمن للمواطن البسيط، الذي قد يجد نفسه في أي لحظة وسط معمعة تبادلٍ للنيران بين عصابات الجنوب وعصابات المركز.
حصدت الحربُ بين منظمات الجريمة، على مدار السنوات الثلاث الأخيرة، أرواح 16 ضحية، وذلك في مركز البلاد فقط (تل أبيب ومحيطها). قُتل بعضهم في تفجير عبواتٍ ناسفة، وآخرون جراء إطلاق نار، وهناك من جُزّ رأسه وتم دفنه في مكانٍ مجهول. لكن التصفيات لا تتوقف عند حدود المركز فقط، حيث تصل العبوات الناسفة إلى جنوب البلاد وشمالها، كذلك قسم من المرتبطين بالأحداث اختفوا من فوق ظهر الأرض، ولا يعلم أحدٌ حتى الآن ما هو مصيرهم.
لا تقف الشرطة من جانبها مكتوفة الأيدي: فالوحدة المركزية في لواء تل أبيب، “يمار” المركز وطاقم خاص من “قوة لاهف 433” تكرّس وقتًا وترصد قوى عاملة كثيرة في محاولةٍ منها لمنع وقوع التصفية القادمة، لكن غالبية الحالات تبقى غامضة غير محلولة، وبالتالي لا يصل المتهمون إلى المحاكم.
وإضافةً للصعوبات الداخلية التي تعاني منها الشرطة في الكشف عن المتورطين وفي منع التصفية القادمة، فإن رجال الشرطة يقولون إن جهاز القضاء، والقوانين في إسرائيل بالذات، تصعّب من مهمتهم في وضع حدٍّ للجريمة المنظمة في الدولة، أو على الأقل التضييق على العائلات ذات الصلة. ووفقًا لأقوال مسئول كبير في الشرطة، فإنّ جهازها الاستخباراتي ممتاز ولديه أذرع داخل التنظيمات، لكن القانون هو الذي يقيّد أيديهم. فمثلاً، عندما تنجح الشرطة في الحصول على معلومات استخباراتية من مجرمين، لا يمكنها أن تستخدم هذه المعلومات في المحكمة لأنه إذا طلب محامي الدفاع الكشف عن مصدر المعلومات، فإن رجال الشرطة سيضطرون للكشف عن المخبرين- والذين ليس هناك قانونٌ اليوم يحميهم جرّاء خطوةٍ كهذه.
وتشير الشرطة إلى مشكلةٍ إضافية، والتي ترتبط في واقع الأمر بالمشكلة الأولى، وذلك بشأن العقاب المتبع في إسرائيل. إذ توقِع الجهات المهنية في الولايات المتحدة الأمريكية على المجرمين عقابَ السجن لعشرات السنين الطويلة، ما يجعلُ من مصلحة المخالِفين أن يتحولوا إلى شهود ملَكيين (بمعني شهود دولة). أما في المقابل، فالعقاب في إسرائيل أقصر بكثير، ويفضّل الكثير من المخالفين أن يتعرضوا لست سنوات من السجن بدلاً من التحول إلى شهود ملكيين والعيش في خوف.
من خلال محاولةٍ لرسم ملامح الجريمة المنظمة في إسرائيل، تبرز معلومات غير اعتيادية حول قدرات عائلات الجريمة وحول قابليتها في كل لحظة لإلقاء الرعب ليس على الشرطة وجهاز القضاء والتطبيق فحسب بل أيضًا على كل مواطن في إسرائيل.
تاريخ مشبوه
نُشرت في مطلع السبعينات في صحيفة “هآرتس” سلسلة تقارير بشأن مأسسة الجريمة المنظمة في إسرائيل، مع تفصيل المجالات التي عمل فيها المشتركون في الجريمة، ومن ضمن ذلك القمار غير القانوني، وجباية الأتاوة (الخاوة) وجباية الديون. وقد فندت لجنة الفحص التي تم تعيينها من أجل فحص ادعاءات الصحفيين، ما جاء في التقارير، وقررت أنه لا جريمة منظمة في إسرائيل.
في سنة 1977 نُشرت مجددًا في صحيفة “هآرتس” تحقيقات صحفية كثيرة حول مأسسة الجريمة المنظمة في إسرائيل. وقد خلُصت التحقيقات، إلى أنه ليس فقط أنّ في إسرائيل جريمة منظمة، بل إن لهذه الجريمة علاقات مع شخصيات جماهيرية مرموقة بما في لك ضباط كبار في الجيش. في سنة 1978، قررت لجنة تقصي حقائق حكومية، التي تم تعيينها في أعقاب التحقيقات المذكورة، أن هناك جريمة منظمة في إسرائيل.
تبلورَ في إسرائيل في نهاية سنوات التسعين ومطلع سنوات الألفين عددٌ من مجموعات الجريمة المنظمة، والتي بدأ الجمهور الواسع بالإحساس بنشاطها، على خلفية تصفيات كان ضحيتها أيضًا أناس بريئون، ومن جملة ذلك محاولة تصفية زئيف روزنشطاين، التي قتل خلالها ثلاثة من المارّة في سنة 2003، وتصفية يعقوب ألفرون سنة 2008 في قلب تل أبيب.
إذًا من هي عائلات الجريمة؟
نشطت شرطةُ إسرائيل وجِهات التحقيق والتحرّي الشرطيّة الخاصة في السنوات الأربع الأخيرة إلى تسليم ومحاكمة عشرات رؤوس عائلات الجريمة. ومنذ أن تم اعتقال المجرمين القدامى، أو تمت محاكمتهم وحبسهم، تغيّرت صورة وضع العالم الجريمة في البلاد. وصل إلى رأس هرم مجرمون جدد- أكثر جرأةً وليسوا أقل قسوة، يعملون بأساليب أكثر تعقيدًا من أساليب الجيل السابق: إليكم نظرة إلى كبار هؤلاء.
الآباء المؤسسون
كانوا ثلاثة: زئيف روزنشطاين الملك، وآسي أبوطبول الأمير، بينما إيتسيك أبرجيل ولي العهد الذي انتظر بصمتٍ وقوعَهما. سيطر الثلاثة خلال سنوات الثمانين وحتى أواسط سنوات الألفين على منظمات الجريمة في إسرائيل. فقد سيطروا على سوق القمار غير القانوني في البلاد والخارج، وتاجروا بالمخدرات، بجباية الأتاوات، ومنح قروض في السوق السوداء وتبييض الأموال. لوحدهم أو مع بعضهم البعض، دارت بين أيدي الثلاثة مليارات الشواقل في السنة، فامتلكوا بيوتًا فخمة، وقادوا سياراتٍ مرفهة، وأقاموا الحفلات الراقية وعاشوا على سقف العالم.
لكن منذ أن مر عقد كامل، تغير الحال. فقد تم اعتقال روزنشطاين، وتم تسليمه للولايات المتحدة الأمريكية، وحُكم عليه بالسجن لمدة 17 عامًا ويقضي عقوبة السجن في سجن في إسرائيل. وتم تسليم إيتسيك أبرجيل إلى الولايات المتحدة حيث ينتظر بدء محاكمته، وبالمقابل تمت محاكمة آسي أبوطبول وحُكم عليه بالسجن 18 عامًا بسبب الضلوع في التخطيط لجريمة، والابتزاز وتبييض الأموال.
الجيل الجديد: أكثر جرأة وخطرًا
يقول ضابط كبير في شرطة إسرائيل: “إن الجيل الجديد من منظمات الجريمة أكثر ذكاءً، فهم يستعينون بخبراء الهايتك وباقتصاديين من أجل تبييض الأموال، فهم يستعينون مثلاً بجنود الجيش الذين يختصون بتركيب العبوات الناسفة. وهم أيضًا أكثر (نظافةً) في أدائهم: فمثلاً بدلاً من أن يرسلوا قاتلين مأجورين مثلما كان في الماضي، فإنهم يفجرون عبوات ناسفة عن بُعد أو بواسطة ساعات توقيت جديدة”.
عمير مولنر (41) هو رئيس منظمة الجريمة الأكبر في إسرائيل، بدأ حياته جنديًا مغمورًا لدى المجرمين القدامى، وانضم في شبابه إلى الكثير من العصابات. انتظرت جميع وحدات الشرطة وقوع مولنر لكنها لم تنجح في إثبات شيء، وكان هو الذي يضحك في نهاية المطاف. يعتبر مولنر مجرمًا محنكًا بارد الأعصاب، من الصعب إدانته. قبل سنوات، عندما تم اعتقاله بتهمة حيازة سلاح وحكم عليه بالسجن 32 شهرًا، احتفلت الشرطة كما لو أنّه حُكم عليه بالسجن عشر سنوات.
تشير التقديرات إلى أن المنظمة التي يرأسها مولنر، والتي تضم أيضًا مجرمين يهود من فرنسا، تضم مئات الجنود، الذين يعملون تحديدًا في منطقة المركز. دخلهم الأساسي من تبديل العملات، والقمار غير القانوني عبر الإنترنت، وتجارة الماس، وفضّ الخصومات وجباية الأتاوات. يختص أحد تخصصات رجاله بإنتاج العبوات الناسفة، التي أدت إلى مقتل مجرمين كثيرين في السنوات الأخيرة، من بينهم يعقوب ألفرون. ومن الغنيّ عن الذكر أن الشرطة لم تنجح في إثبات علاقة مولنر بأي واحدةٍ من هذه المحاولات.
شالوم دومراني (39) معروف لدى الشرطة بأنه رئيس منظمة الجريمة الأكبر في الجنوب، وهو يوسع اليوم نشاطه في تل أبيب. تم اعتقاله عدة مرات وأطلق سراحه بعد فترات اعتقال قصيرة. قرر دومراني مؤخرًا الهجرة من البلاد إلى المغرب، ثم عاد. أعلنت الشرطة، في تشرين الأول من السنة المنصرمة، إحباط محاولة لتصفيته من قبل مجرمين من منظمة جريمة منافِسة.
تبسط منظمة دومراني نفوذها على فروع تبديل العملات في مركز البلاد وجنوبها. كما يتخصص دومراني بتوزيع الفواتير المفبركة بمليارات الشواقل والسيطرة على مصالح اقتصادية قانونية. تصدر اسمه مؤخرًا العناوين بعد تفجيرين في سيارات مفخخة وقعا في مدينة أشكلون (في جنوب البلاد).
لدومراني “سبعة أرواح”. حاول مجرمون منافسون تصفيته الكثير من المرات. تم في إحداها إطلاق صاروخ لاو نحو بيته، لكنه لم يكن حينها في المنزل. في سنة 2007 أُطلقت عيارات نارية تجاه سيارة كان من المفترض أن يمكث فيها، ما أدى إلى وفاة شابة بريئة. نقل دومراني نشاطه في العامين الأخيرين إلى المغرب، حيث أقام مشاريع اقتصادية في فروع الزراعة والصناعة والنسيج. حاز على جنسية مغربية ومنذ ذلك الحين يتنقّل على خط إسرائيل-المغرب.
ريكو شيرازي (51) كان فيما مضى لاعب كرة قدم معروف في مدينة نتانيا، لكنه تعرض إلى إصابة أدت به ترك اللعب وبدأ رويدًا رويدًا بالتقرب من عالم الجريمة، ويعتبر من المحنكين فيه. يسكن شيرازي اليوم بيتًا فاخرًا في مدينة هرتسليا، ويسيطر على مصالح اقتصادية كثيرة في مجال السفريات والمطاعم وجباية الديون والأتاوات والعقارات. مكث في السجن فقط حتى الآن بتهمة جرائم خفيفة نسبيًا (تزييف، ومضايقة شرطية واعتداء).
تعتبر الشرطة شيرازي الخبير الأول في مجال تبييض الأموال. ويعتبر مختصًا في غسل أرباح منظمة الجريمة التابعة له، وفي مساعدة مجرمين آخرين ومواطنين عاديين ليس لهم ماضٍ جنائي.
ويعتبر شيرازي العدو اللدود لعائلة أبوطبول ولإيتسيك أبرجيل. وتشك الشرطة أن شيرازي، بالتعاون مع شالوم دومراني وعمير مولنر، كانوا ضالعين في تصفية فرانسوا أبوطبول قبل عامين. وتُعزى إلى منظمة شيرازي العديد من التصفيات التي وقعت في السنوات الأخيرة في منطقتي الشارون ومركز البلاد وكذلك إلقاء قنابل يدوية تجاه بيوت رجال أعمال معروفين.
منظمات جريمة عربية (الجاروشي، كراجة والحريري)
منظمة الجريمة الجاروشي هي الأكثر أقدمية على الساحة. تعيش من التجارة بالمخدرات ووسائل القتال وتسيطر على مصالح اقتصادية تعرضت لضائقة مالية. تدير زعامة المنظمة علاقات تعاون مع شالوم دومراني وريكو شيرازي. من بين رؤساء المنظمة رفعت الجاروشي، الذي حضر زفافه عندما تزوج قبل ثلاث سنوات كل زعماء عالم الجريمة الذين جاءوا احترامًا له.
كراجة: المنظمة الأكثر رعبًا في وسط السكان العرب في إسرائيل. سيطر جنود المنظمة على مصالح اقتصادية كثيرة في مدينة نتانيا كانت تابعة لمنظمة الجريمة التابعة لعائلة أبوطبول، والمتهمة بالضلوع في تصفية فرانسوا أبوطبول قبل سنتين. كانت المنظمة ضالعة في عمليات تصفية كثيرة ومحاولات تصفيات لمنافسين في الوسطين العربي واليهودي، لم يتم إثبات قسم منها حتى الآن.
تمتلك كراجه، حسب تقديرات الشرطة، مخزون الذخيرة الأكبر من بين كل منظمات الجريمة في إسرائيل. ويشك رجال الشرطة، أنه عدا عن مختبرات لإعداد عبوات ناسفة، فإنهم يمتلكون أيضًا بنادق وصواريخ لاو.
الحريري: وجدت الشرطة صعوبة على مدار سنوات طويلة في مواجهة المنظمة الخطيرة، التي لم يتردد رجالها في إطلاق النار على رجال الشرطة الذين حاولوا تنفيذ اعتقالات أو مداهمة عقاراتهم في مدينة الطيبة. لا يتردد جنود المنظمة في ابتزاز شركات بناء كبرى، مقاولين، أصحاب مصالح اقتصادية ومواطنين تحت تهديد السلاح، لكي يدفعوا لهم الأتاوة مقابل ألا يتعرضوا لمصالحهم بأذى.
اعتقلت الشرطة في السنوات الأخيرة عشرات من جنود العائلة في مخالفات عديدة- بدءًا من الابتزاز تحت سطوة التهديد، وانتهاءً بالقيادة دون رخصة. ويعترف مسئول كبير في الشرطة أنه “من الصعب جدًا التغلغل إلى منظمات الجريمة في الوسط العربي، لأنهم مثل السرداب. لا مجال للحديث عن تجنيد شهود ملكيين أو حتى تشغيل مخبرين. من أجل إدانتهم يجب بذل جهود حثيثة، وإلقاء القبض عليهم أيضًا على مخالفات سير. المهم أن يجلسوا في السجن ولا يتعرّضوا للمواطنين بأذى”.
تلك هي القائمة المختصرة لعائلات الجريمة الأكثر خطرًا في إسرائيل، والتي تضاف إليها سبع عائلات أخرى ليست أقل خطرًا.
تشير تقديرات المختصين، إلى أن دخل منظمات الجريمة في إسرائيل لا يقل عن 30 مليار شيكل في السنة. وقد تعدّت مصادر الدخل في السنوات الأخيرة لتشكل السوق الرقميّ، وبالذات القمار عبر الإنترنت (حيث تتراوح الدورة المالية السنوية بين 4 إلى 10 مليار شيكل). وفي المقابل، احتدّم الصراع على سوق الصرافة، الذي هو أيضًا مزدهر (تقدر الدورة المالية فيه بمليارين نصف المليار شيكل)، وعلى توزيع الفواتير المفبركة بواسطة شركات وهمية مثل شركات بناء ووقود ومعامل صقل الماس وغيرها (دورة مالية تقدر بنحو 10 مليار شيكل).
إضافةً إلى مجالات النشاط المذكورة، التي تعتبر جديدة نسبيًا، فإن باقي مصادر الدخل تعتبر من مجالات منظمات الجريمة: جباية الديون والقروض في السوق السوداء (نحو 7 مليار شيكل)، جباية أتاوات (نحو 5،2 مليار شيكل)، قمار، دعارة ومخدرات (نحو 2 مليار شيكل)، تجارة بالمعادن (نحو 3 مليار شيكل)، تشغيل شبكات قمار غير قانونية ضمن مباريات كرة القدم في البلاد والخارج (نحو 4 مليار شيكل)، وتهريب أموال (نحو 2 مليار شيكل).
لا يزال الكثير من العمل المضني والخطير لشرطة إسرائيل. تنشر الشرطة كل نصف سنة تقريرًا استخباراتيًا سريًا، يضم قائمة منظمات الجريمة الأكثر نشاطًا وخطرًا حتى ذلك الحين، على أمل أن تصل إلى تحقيق الهدف الأسمى وهو القضاء على ظاهرة الجريمة المنظمة، لكن الحال اليوم هو أنه لا تزال ينتظرها الكثير من التحديات في الطريق وسنين طويلة من المواجهات الصعبة سواءً على المستوى الاستخباراتي أو الإدانة أو القضاء والتنفيذ.