حين أعلنت الدولة الإسلامية (داعش) عن نفسها كخلافة في شهر حزيران عام 2014 واتخذ زعيمها أبو بكر البغدادي لنفسه لقب خليفة، بدا أنّ ذلك هو تأكيد إضافي على جنون العظمة عند التنظيم. أصرّ البغدادي على أنّ مبايعة هذه الخلافة هي بمثابة واجب ديني مفروض على جميع المسلمين، ممّا أثار بطبيعة الحال إدانة واسعة في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
إنّ النظام الوحشي الذي يقوده البغدادي هو بطبيعة الحال بعيد عن أن يفي بالفهم الإسلامي التقليدي بخصوص كيف يجب أن تبدو الخلافة، ولكنه يثير أيضا الطموح مع صدى قوي ومتزايد في العالم الإسلامي الواسع.
سقطت الخلافة الإسلامية الأخيرة – العثمانية – رسميّا قبل 90 عاما. ولكن، في استطلاع أجري عام 2006 في أوساط مسلمين يعيشون في مصر، المغرب، إندونيسيا وباكستان، قال ثلثا المشاركين إنهم يؤيّدون هدف وحدة جميع الدول الإسلامية لتصبح خلافة واحدة جديدة. لماذا يحلم الكثير جدا من المسلمين بخلافة كهذه؟ إنّ الإجابة كامنة في تاريخ هذه المؤسسة.
معنى الكلمة العربية “خليفة” هي ممثّل أو وريث، وترتبط في القرآن بفكرة النظام العادل. إنّ كلّا من آدم ثم داود وسليمان يوصفون باعتبارهم “خليفة” لله على الأرض. حين توفي النبي محمد عام 632، حصل وريثه على هذا اللقب كزعيم للمجتمع الإسلامي، وهو الأول من بين “الخلفاء الراشدين” الأربعة الذين حكموا في العقود الثلاثة الأولى من العصر الإسلامي الجديد.
في استطلاع أجري عام 2006 في أوساط مسلمين يعيشون في مصر، المغرب، إندونيسيا وباكستان، قال ثلثا المشاركين إنهم يؤيّدون هدف وحدة جميع الدول الإسلامية لتصبح خلافة واحدة جديدة
أوضح رضا بانكهورست مؤخرا، وهو مؤلف كتاب The Inevitable Caliphate، لشبكة BBC أنّ الخلفاء الأربعة قد عُيّنوا بموافقة شعبية. بحسب كلامه، فقد أنشأ عهدهم النموذج المثالي للخليفة باعتباره شخصية مختارة من الشعب والتي عُيّنت لتكون مسؤولة عنه وللتأكّد من تطبيق القانون الإسلامي. الخليفة الحقيقي ليس فوق القانون.
يطعن المسلمون الشيعة بهذه النسخة من التاريخ. فهم يعتقدون أنّ أول خليفتين أخذا دون حقّ الزعامة ممّن كان يُفترض أن يكون – بحسب ادعاء الشيعة – هو الزعيم الحقيقي: علي، ابن عمّ النبي. كان هذا الصراع في وقت مبكّر من الخلافة مصدر الانقسام الذي استمر في الإسلام. ولكن بالنسبة للمسلمين السنة اليوم، والذين يعيش الكثير منهم في ظلّ أنظمة استبدادية، فإنّ النموذج المثالي لخلافة تتأسّس على مبدأ الحكومة المنتخبة بالموافقة الشعبية يبدو جذّابا جدّا.
خلافات تقوم وتسقط
أحد أبرز عوامل الجذب في الخلافة اليوم هو ذاكرة العظمة الإسلامية التي تثيرها. بعد عهد الخلفاء الراشدين صعد إلى الحكم الإسلامي الخلفاء الأمويون والخلفاء العباسيّون. “بعد 70 عاما من وفاة النبي، امتدّ العالم الإسلامي من إسبانيا والمغرب حتى وسط آسيا وجنوب باكستان، حينذاك كان هناك إمبراطورية شاسعة تقع كلّها تحت سيطرة زعيم مسلم واحد”، كما يقول المؤرخ البروفيسور هيو كينيدي. بحسب كلامه، فإنّ هذه الوحدة الإسلامية هي بالضبط ما يتشوّق إليه الناس.
وقد اتّسم العصر الإسلامي الذهبي أيضًا بالإبداع الفكري والثقافي. قدّر الديوان الملكي العباسي في بغداد الأدب والموسيقى وعزّز الابتكارات في مجالات الطبّ والعلوم والرياضيات. ولكن وسّعت تلك السلالات من سيطرتها إلى مسافات بعيدة وبسرعة كبيرة، وأصبح من الصعب على الأسر الحاكمة أن تسيطر على جميع الأراضي الإسلامية. في تلك الأوضاع قام أشخاص آخرون وزعموا أنّهم خلفاء يمثّلون المجتمع الإسلامي، بل بكونهم ظلّ الله في الأرض. بدأ يعترف المسلمون بأنّه يمكن أن يكون هناك أكثر من خليفة واحد قادر على تمثيل مصالح المجتمع.
عاشت الخلافة العباسية على مدى 500 عام حتى انهارت تماما عام 1258. ومع ذلك، فقد بقيت مؤسسة الخلافة حيّة. وُضع أبناء الأسرة العباسية كخلفاء في القاهرة بيد المماليك، وهم القوة السنية الصاعدة في تلك الفترة. لقد كان هؤلاء الحكام مجرّد دمى بيد المماليك، ولكن حقيقة وجودهم حافظت على النموذج الأمثل لحاكم واحد يمكن أن يتّحد خلفه جميع المسلمين.
https://www.youtube.com/watch?v=4PU8qIlUJ_w
انتقل الحكم في العالم الإسلامي في القرن السادس عشر إلى السلاطين العثمانيين. تمّ القضاء نهائيّا على الإمبراطورية العثمانية من قبل كمال أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة، عام 1924. لقد اعتقد أنّ إلغاء مؤسسة الخلافة أمر ضروري لحملته في تحويل ما تبقّى من الإمبراطورية إلى دولة قومية علمانية في القرن العشرين. تمّ طرد الخليفة العثماني الأخير من إسطنبول إلى باريس. ولكن المؤسسة التي كان يمثّلها استمرّت على مدى 1300 عام، وكان تأثير إلغائها على الحياة الفكرية الإسلامية عميقا.
قال سلمان سيد، الذي يدرّس في جامعة ليدز لشبكة BBC إنّ المفكرين المسلمين في سنوات العشرينيات من القرن العشرين وجدوا أنفسهم فجأة يطرحون أسئلة لم يواجهوها من قبل أبدا: هل يجب على المسلمين أن يعيشوا في دولة إسلامية؟ كيف ينبغي لهذه الدولة أن تدار؟ وما إلى ذلك. حتى منتصف القرن العشرين طرح زعماء مثل جمال عبد الناصر في مصر إجابة لتلك الأسئلة؛ قدّمت الأيديولوجية المعروفة بالقومية العربية نوعا من الخلافة العلمانية، بل أقام ناصر في سنوات الخمسينيات وحدة باسم “الجمهورية العربية المتحدة” بين مصر وسوريا.
ولكن تغيّر كلّ شيء في الشرق الأوسط مع تأسيس دولة إسرائيل. ظهر ضعف القومية العربية أمام القوة العسكرية لإسرائيل. استمدّت القومية العربية شرعيّتها لكونها أرادت إعادة العرب إلى سابق مجدهم وتحرير “فلسطين”، ولكن الهزيمة العربية في حرب عام 1967 كشفت عن خواء هذه الأيديولوجية وفراغها.
الخلافة كأداة لكتابة التاريخ الحديث
قامت في العقود الأخيرة أحزاب مختلفة تحاول إعادة الخلافة بسبب خيبة الأمل من النظام السياسي الذي يعيش تحت حكمه غالبية المسلمين. وفقا لرضا بانكهورست، فعندما يتحدّث الناس عن الخلافة، فإنّهم يتحدّثون عن زعيم مسؤول، عن العدالة وعن مسؤولية إعطاء الأحكام والمحاسبة وفقا للشريعة الإسلامية. يقف جميع ذلك في تناقض صارخ مع الطاقم المتنافر من المستبدّين، الملوك والأنظمة القمعية التي تفتقر إلى الشرعية الشعبية في الشرق الأوسط.
ولا تتوق هذه الأنظمة بطبيعة الحال إلى تحقيق فكرة الخلافة. في الأيام الأولى للربيع العربي، فُسّرت الثورات التي قامت في دول مثل تونس، مصر وليبيا في الغرب باعتبارها دليلا على أنّ مستقبل المسلمين يكمن في الديمقراطية. ثمّ جاء الانقلاب الذي نفّذه عبد الفتاح السيسي في مصر ضدّ الإخوان المسلمين وفظائع الدولة الإسلامية في الاضطرابات الدموية التي سادت في سوريا والعراق.
وفقا لسلمان سيد، فإنّ كثيرا من الناس يقولون إنّ الدولة الإسلامية بدأت في الواقع من انقلاب السيسي. “حتى الآن هناك فجوة كبيرة من الشرعية في غالبية الحكومات المسيطرة على الشعوب العربية، وهذه الفجوة لا تتقلّص… إحدى الطرق للتفكير في الخلافة هي بحث المسلمين عن الحكم الذاتي. إنّ فكرة أنّ باستطاعتك كتابة تاريخك أصبحت قوية جدا وبالنسبة للمسلمين فأنا أعتقد أنّ الخلافة هي الأداة التي يحاولون من خلالها كتابة تاريخهم”، كما يوضح.
https://www.youtube.com/watch?v=mnLxV9MdUfY
يطعن العديد من العلماء السنة بحقيقة كون الخلافة مشروعًا سياسيّا. يزعم الشيخ رضوان محمد، على سبيل المثال، أنّ مفاتيح الخلافة سياسية. “أعتقد أنّ الدولة الإسلامية يجب أن تأتي من الداخل”، كما يقول. “يجب أن تكون دولة إسلامية أولا وقبل كلّ شيء من حيث الفكر والعقل”. حتى تلك الغالبية الساحقة من الذين يعتقدون أنّ الخلافة الجديدة هي هدف سياسي واقعي يرفضون تماما العنف الذي تقوم به داعش.
ولكن داعش تستغلّ بذكاء العناصر التاريخية للخلافة والتي تخدم أهدافها بالشكل الأفضل. ويشير المؤرخ كينيدي على سبيل المثال إلى أزيائهم وأعلامهم السوداء التي تحاكي العباءات السوداء التي اعتمدها العباسيون كزيّ لديوانهم في القرن الثامن. وهم يذكّرون بذلك بالعصر الذهبي للإسلام.
عندما يتحدّث المسلمون عن الخلافة، فإنّهم يتحدّثون عن زعيم مسؤول، عن العدالة وعن مسؤولية إعطاء الأحكام والمحاسبة وفقا للشريعة الإسلامية
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ التسمية الأصلية لداعش – الدولة الإسلامية في العراق والشام – تذكّرنا بالأيام التي لم يكن فيها حدود وطنية بين هاتين المنطقتين واللتين كانتا جزءًا من الخلافة الكبيرة. ولذلك، فإنّ نجاح داعش يعكس بشكل ما كيف أصبح الطموح للخلافة قويّا. مشروع داعش هو بلا شكّ مصاب بجنون العظمة، ولكنه يستند إلى فكرة هي أكثر بكثير من مجرّد خيال.
بين النبي وداعش
هل يمكن تعريف داعش كخلافة، وإن كان ذلك ممكنا، ما هي الفروق بينها وبين الخلافة من العهد الأول للإسلام؟ “جميعنا يحلم بخلافة إسلامية تقوم كما كانت في عهد نبوة محمد”، هذا ما كتبه الكاتب أحمد الريسوني في مقال على موقع الجزيرة. “ضمّت الخلافة الراشدة تحت سلطانها كافة المسلمين، بغضّ النظر عن قلتهم أو كثرتهم. كان جميع المسلمين راضين عنها وفرحين بها. وأما الخلافة المعلنة مؤخرا فليس تحت سيطرتها حتى واحد من ألف من المسلمين ومن بلاد المسلمين. ثم هل كل من تحت سيطرتهم مسَلِّم لهم وراغب فيهم ومحب لسلطانهم؟ قطعًا لا”.
“ثانيا”، يستمر الريسوني، “إن اختيار الخليفة كان يتم بعد تشاور وتداول بين عامة أهل الرأي والمكانة، بل حتى بمشاركة واسعة من عامة المسلمين – نساء ورجالا… وأما خليفة المسلمين المزعوم، فلا ندري من بايعه ومن اختاره. وما قيمتهم ومكانتهم في الأمة الإسلامية؟”
ثالثا: إن التداول والاختيار للخلفاء الراشدين كانا يتمّان في حرية مطلقة وأمان تامّ، وليس تحت سطوة السيوف والتهديد والوعيد. وأما الخلافة المتحدث عنها في وسائل الإعلام، فيراد فرضها وتثبيتها في خضم الفتنة والحرب، وفي جو الخوف والرعب، وتحت التسلط والإكراه…”. ويلخّص قائلا: “إن “خلافة” تأتينا بالسيف وتخاطبنا بالسيف، لن تكون -فيما لو كانت- إلا نذير شؤم ومصدر شر لهذه الأمة”.
نُشرت هذه المقالة للمرة الأولى في موقع ميدل نيوز