تُحيى مساء اليوم إحدى أقدس الليالي في الإسلام: “ليلة القدر”. ووفقًا للاعتقاد الإسلامي، أوصى اللهُ في هذه الليلة الملاكَ جبرائيل بإنزال القرآن من اللوح المحفوظ إلى مكان في سماء الدنيا يسمى بيت العزة، ثم من بيت العزة صار ينزل به جبريل على محمد متفرقًا على حسب الأسباب والحوادث، فأول ما نزل منه كان في غد تلك الليلة نزل خمس آيات من سورة العلق.
كما في السنوات الماضية، نختار – رفاقي وأنا – ليلةً واحدة على الأقل في شهر رمضان، نصعد فيها إلى القدس بهدف الصلاة والتسامي.
لم أنجح ألبتة في إيضاح الشعور الذي يلازم المرء حين يصل إلى أحد الأماكن المقدسة للديانات الثلاث، وفي شهر رمضان تحديدًا. هذه السنة، وخلافًا لكل السنوات، قررنا زيارة المسجد الأقصى قبل ليلة واحدة من ليلة القدر، بسبب الازدحام الكبير في المسجد.
بعد وجبة الإفطار مباشرةً، وحتى لا نخسر صلاة العشاء، أدرنا محركات سيارتنا، وصعدنا من يافا إلى القدس. في الطريق، كانت رحلتنا سلسة، حيث استمعنا إلى صوت الشيخ عفاسي، الذي قرأ سورة مريم.
يوم السبت في المدينة المقدسة. بعد العديد من المحاولات الفاشلة لإيجاد موقف قرب مدخل شرقي المدينة، يئسنا وقرّرنا إيقاف السيارة غربي المدينة، على بُعد نحو 20 دقيقة سيرًا على الأقدام من باب العمود.
كان الدخول إلى القدس الشرقية، وإلى الأحياء العريقة فيها مزدحمًا بالناس، البضائع، الأولاد، الشبان، والمسنين، من جميع الأجيال، ومن جميع أنحاء البلاد. كذلك، نشط العديد من القوى الأمنية في منطقة باب العمود، لضمان أمن الحجاج والمصلين.
كان باب العمود دائمًا مكانًا غنيًّا بشتى الألوان، يعج بالتجار، عابري السبيل، الحجاج، رجال الأمن، السكان المحليين، والمصلين في طريقهم لمهد الديانات التوحيدية الثلاث: حائط المبكى، كنيسة القيامة، والمسجد الأقصى.
جذبني خليط اللغات عميقًا إلى داخل أزقة المدينة المقدسة. أخذ المكوث إلى جانب المصلين يبعث في نفسي شعورًا بالطهارة وتسامي الروح. تصاعدت رائحة البخور من الحوانيت، فيما أخذ الباعة يعرضون بضاعتهم: سجاجيد صلاة، سبحات صلاة، كتب قرآن مزينة، حلويات ومشروبات خفيفة.
ليس بوسعي تحديد الشعور الداخلي الذي يخالجني حين أقترب من بوابات المسجد الأقصى. تصاعدت روائح المسك والبخور من كل حدب وصوب. وفي الخلفية، بإمكان المرء سماع مكبرات الصوت التي صدحت منها أصوات الصلوات وقراءة القرآن. وفضّل البعض إسماع صوت الشيخ عبد الرحمن السديس ، فيما أسمع آخرون صوت المقرئ المصري الراحل، الشيخ عبد الباسط عبد الصمد.
أمّا أنا فآثرتُ الاستماع إلى صوت مشاري بن راشد العفاسي ، المقرئ الكويتي الذي يُعدّ في نظر شبّان مسلمين عديدين في شتى أنحاء الشرق الأوسط أحد أكثر المقرِئين نجاحًا في العقد المنصرم.
كان الدخول إلى المسجد مزدحمًا بالناس. وامتدت الطوابير إلى ما قبل أمتار من باب القطانين. ووقف على الباب عددٌ من رجال الوقف إلى جانب حرس الحدود، مشرفين على أمن المصلّين.
وللحظةٍ، أضعنا أحد رفاقنا لشدّة الازدحام. رفعتُ يدي لأشير له إلى مكان وجودنا. ويبدو أنني أثرتُ شكوك الجندي الواقف على المدخل، الذي طلب مني الوقوف جانبًا. لم أفهم مغزى الطلب. فورًا، توجّه إليّ شابّ يبلغ من العمر 21 عامًا، وسألني بالعبرية:”ماذا تفعل هنا؟ ومن أين أتيت؟” لم أفهم هدف السؤال، وأجبتُه بعبرية فصيحة: “جئتُ للصلاة. أنا من يافا، وهؤلاء صحبي. لا أفهم لمَ أوقفتَني جانبًا، فيما أذنتَ لكل رفاقي بالدخول؟”.
أربكني السؤال التالي أكثر: “أمتأكدٌ أنتَ أنّك مسلم؟” أجبتُ: “بالطبع”. “بالنسبة لي، تبدو يهوديًّا.هل يمكن، من فضلك، أن أفحص بطاقة هويتك، ويسرني أن أسمعك تتلو آيتَين قرآنيتَين”. طلب مني رجل الوقف، الواقف إلى جانب الجندي الذي استجوبني، أن أتلو سورة الفاتحة وسورة المسد.كنتُ بحاجة إلى بضع ثوانٍ لأفهم مدلول هذا الطلب العجيب، وإذا بعيسى، رجل الوقف، يشرح لي هذه الأسئلة الأمنية والطلبات، التي تهدف إلى منع دخول “أشخاص غير مصرّح لهم بالدخول إلى حرم المسجد، ومنع الاستفزاز”، حسب توصيفه. “منع دخول اليهود؟ هل ظنّ هذا الجندي أنني يهودي؟”، سألتُ. لم يتردد عيسى، وقال: “حتى بالنسبة لي، أنتَ لا تبدو مسلما نموذجيا”. لم أفهم كيف يجب أن يبدو المسلم النموذجي، لكنني وافقتُ على تلاوة السورتَين لعدم تأخير أصحابي عن الصلاة. بعد نحو ربع ساعة، وصل الجندي، وبيده بطاقة هويتي، قائلًا: “أعتذر عن الإزعاج. افهم أننا نبذل وسعنا لضمان أمن المصلّين، لا سيّما في الأيام العشرة الأخيرة من رمضان. درجة التأهب مرتفعة، ويمكن أن تسوء الأحوال بسهولة. ليلةً سعيدة”.
أعترف أنني بقيتُ مربكًا من هذا الاختبار، لكنّ الشعور بالإيمان والطهارة في الحرم القدسي الشريف قللا من شأن الارتباك.
صدح أذان صلاة العشاء من مآذن المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة، فسارعنا للاستعداد لصلاة العشاء، والتراويح. سُمعت أصوات الصلاة في كل مكان، وبين كل ركعة وركعة، اختلستُ النظر لأرى أصحابي وغيرهم من المصلين واقفين في صفّ واحد دونما تمييز أمام الخالق الواحد. ساعة ونصف الساعة من الطهارة والتسامي.
مع انتهاء الصلاة، وقفنا أمام باب المغاربة ، حيثُ تمكنت من رؤية حائط المبكى. ارتشفنا الشاي المقدسي المحلّى الذي يتصاعد منه البخار، والتهمنا خلال ثوانٍ الكثير من الكعك . امتد النقاش مع الرفقاء، وتمحور حول أهمية المكان في الإسلام، قرابة الحائط من حرم المسجد والتحديات الأمنية الكامنة أمام رجال الوقف وجنود جيش الدفاع الإسرائيلي بمنع تسلل غير مرغوب فيه ليهود يدعون علنًا إلى بناء الهيكل الثالث، ويترقبون إتيان المسيح.
في الطريق خارجًا من أزقة المدينة الأكثر قابلية للتفجّر في العالم، التي شهدت الكثير من سفك الدماء والحروب باسم الدين، لم أستطع إلا اتخيّل عالم مثالي يأتي فيه اليهود والمسيحيون والمسلمون إلى المدينة المقدسة للصلاة وطلب المغفرة، كلٌّ حسب إيمانه، دون احتكاكات أو مشاعر تثقل على المرء.
ستبقى القدس بالنسبة لي مدينةً معقّدة. فإلى جانب الروحانية والطهارة، ثمة حياة مزدوجة هنا: حياة يومية تقوم بالتعتيم على تاريخية وقداسة مدينة الأديان: القدس.