للقدس أوجه عديدة، قد تختلف الأفكار والاعتقادات حولها من شخص لآخر ومن منطقة لأخرى. تختلف أيضًا الآراء فيما يخص أنواع الأسواق: هناك من قالوا بأن السوق في محانيه يهودا – القريب من الشارع الرئيسي غربي المدينة، شارع يافا – يقدم تجربة كاملة، تامة، للمتجوّلين في أروقته؛ وبشكل شبيه، هناك من يفضلون السوق في البلدة القدمية، بين الأسوار، رغم أنه أقل عناية وحداثة، وذلك ربما لأنه يعرض الكثير من المنتجات لمن يقصدونه للتسوق.
لا يمكننا الحسم في السؤال الصعب، والذي يجعل العائلات يوم الجمعة تفترق، حيث يمكن أن يشتري أحد الأخوة نوع الجبنة الذي أدمن عليه من دكان “باشر” في محانيه يهودا، وأخ آخر يتناول طبق الحمص الذي يشتهيه من محل بيع الحمص “لينا” الشهير. لكن ذلك أثار فضولنا وخرجنا للتجوّل في الأسواق، بهدف رصد أماكن ملفتة، لنسمع من أصحاب منصات البيع والمتاجر كيف ينظرون هم أنفسهم للفوارق ولكي نفتح لكم نافذة على هذا العالم البهي والمشوّق.
بدأنا يومنا من سوق محانيه يهودا، في ساعات الصباح الباكر، بينما كان المكان لا يزال لا يعج بالناس. الباعة، التجار والعاملين يفرغون الحمولة الطازجة التي وصلت للتو، يوزعونها ويرتبونها على منصة البيع ويتنحنحون، تحضيرًا للقادم من اليوم. ومع تعاظم سيل المتسوقين، تبدأ الجلبة ووسط صرخات مختلفة وغريبة تحاول كل منصة بيع جذبهم إليها. والموجود في ذروة نشاطه وهمته، في الساعة العاشرة، هو روني باراك، بائع في “مملكة الحلاوة”. يجذب كعك الحلاوة العين وتملأ رائحة السمسم والطحينة الخام الهواء، وحين يدعوني روني للتذوّق لا يمكن أبدًا مقاومة ذلك.
ربما تختلف الحلاوة عن مذاقها العادي الدارج، والغنية بالنكهات. يستعجل روني بالشرح: “هذه أطيب حلاوة في العالم لأننا نستخدم 80% من السمسم و 20% من السكر، بخلاف النسب الدارجة. لذا، تكون الأسعار أيضًا وفقًا لذلك”. سألناه كم مضى على وجود هذا المكان، وقال لنا إنه يعمل هنا منذ 5 سنوات، ولكن المكان ذاته أسس عام 1947، في سوق البلدة القديمة. اهتممنا بمصدر الطحينة والسمسم، وأشار روني بابتسامة إلى متجر يبعد 15 مترًا، هناك حجر رحى عمره 170 سنة يطحن السمسم العضوي الكامل، الأثيوبي الأصل، لاستخراج زيت الطحينة الخام. يتابع كلامه بالحديث عن الـ 101 نوع من الحلاوة المختلفة التي تباع في المحل، بينما الأشهر بينها هي حلاوة حبوب القهوة – “حلاوة الملك”، مع 10 أنواع توابل، والتي تنافس بقوة في المسابقات التي تقام في تركيا.
وقبل أن يضع روني قطعة أخرى في أفواهنا، قررنا أن نتابع طريقنا. منصة بيع الفواكه والخضراوات التي تملكها عائلة مزراحي موجودة في شارع جانبي، ورغم ذلك ورغم أنه لم تحن بعد ساعة الظهيرة، يدخل المتسوقون ويخرجون بإيقاع يتسارع شيئًا فشيئًا. ألوان الخضراوات مثيرة جدًا وتنبعث روائح الفواكه لمسافات بعيدة، وبدأنا ندرك لماذا يتكلف الناس عناء السفر من كل أنحاء المدينة إلى السوق للحصول على البضاعة الطازجة والمميّزة. تطوع روعي مزراحي، الذي يدير المشروع العائلي، ليعطينا زاوية رؤية إضافية بخصوص الموضوع: “ما المميّز بالسوق؟ محانيه يهودا هو شعب إسرائيل، تشتري كل الأوساط من هنا. متديّنون وعرب، متديّنون متزمتون وعلمانيون”. حسبما قال، المكان موجود منذ 40 عامًا، والسوق كان دائمًا مكان يطيب العمل فيه. إلا أنه بعد التغييرات في السنوات الأخيرة، “العمل في السوق هو فخر كبير”.
تتضمن التغييرات التي قصدها روعي نظافة السوق وزيادة المراقبة على إخلاء القمامة، وتحويل جزء من السوق إلى مكان مسقوف وفتح المطاعم والمقاهي التي تجذب السياح من إسرائيل والعالم. من هذه الناحية يمكن القول بأن السوق فقد القليل من أصالته – عبارة ستتكرر كثيرًا خلال زيارتنا إلى المدينة القديمة – لكسب المزيد من الزوار الذين كانوا يقلقون بسبب الأوساخ والاكتظاظ، والآن يمكنهم دخول موقع الإنترنت ورؤية الكم الكبير والمنوّع من المعروضات، خاصة فيما يخص المجال المتعلق بالمطبخ. ودعنا روعي، الذي كان قد انتهى للتو من تقشير حبة الماندارين وأخذ له شريحة (“نوع الفاكهة المحبب بالنسبة لي، نوع اسمه “أور” الخاص بإسرائيل ويُصدّر إلى أوروبا بكميات كبيرة”).
قبل أن نركب القطار الخفيف وننطلق باتجاه باب العامود، توجهنا إلى مكان جميل جدًا، السوق العراقي. نتحدث عن بضعة شوارع صغيرة تتوزع فيها منصات بيع ومطاعم يملكها أشخاص من أصول عراقية، ومن النظرة الأولى يمكننا أن نميّزها عن شوارع السوق عمومًا. يتبدد الشعور بالازدحام ليتحوّل إلى إحساس بالسفر عبر الزمن. يجلس في الخمارة المركزية قدماء السوق، يشربون الشاي والقهوة، ويدحرجون أحجار الشيش ـ بيش ويلعبون الورق. تنظر ميخال زكاي، مالكة المطعم المقابل “ميخالي”، باتجاه الخمارة بابتسامة وتقول “جميل أن يكون هناك ما يشغلهم طوال النهار. إنهم هنا منذ سنوات، بالنسبة لكم هذا عصر آخر”.
نجلس حول الطاولة، وتحكي لنا ميخال كيف وصلت لإدارة مطعم الطبخ في السوق. “نشأتُ في حي نحلاؤوت المجاور، ومرضت أمي وأنا صغيرة، ووجدتُ نفسي أشتري وأطبخ لست أخوات. تعلمت أسس الطبخ من جدتي السورية ومن جدي القادم من كردستان – الكبة وورق الدوالي التي أحضرها أصلها من هناك”. الموقع الجانبي لا ينبع من حس رومانسي. “نظرًا لأن السوق تحوّل إلى مكان سياحي وناجح، ارتفعت الأسعار بما يتلاءم مع ذلك والمتجر الصغير إيجاره يعادل إيجار شقة، في الحقيقة”. كانت تُسهبُ بالحديث وتوقفت عن الكلام، لتسأل الطباخ، الذي اسمه مهدي، عن وضع الأرز. تشغل لديها شبانًا عربًا خلال الأسبوع، وتهتم بأن تعاملهم على أنهم كأفراد عائلتها. “أقول للعمال إن هذا المكان هو لكم أيضًا. إن قدم أحدهم الطعام لعمه ولم يأخذ منه مقابل ـ لا أتدخل بذلك”.
تركنا أماكننا على الطاولة وودعنا ميخال. بالطريق إلى سوق البلدة القديمة، احترنا إن كان ذلك الخليط الحضاري وخليط اللغات التي نسمعها من جهة منصات البيع المختلفة هي ما يميّز سوق محانيه يهودا. مع وصولنا إلى باب العامود، بعد أن مررنا من أمام مطعم الحمص الشهير “عكرماوي”، شعرنا بالفارق الكبير، بشكل مباشر تقريبًا. السوق كبير ويمتد على مسافة شوارع طويلة – مسقوفة – والتي تصل إلى مركز البلدة القديمة. قبل أن ندخل أجمة المتاجر الكثيفة التي تبدو لا نهائية، ملأت رائحة قهوة قوية مطحونة أنوفنا. تقدمنا بثقة من متجر “السحيمان” وهناك استقبلنا مأمون، جيل ثالث من محمصي القهوة.
“نحن هنا من عام 1921، بعد مدة سنحتفل بمرور مائة عام وبدأنا بترتيب الاحتفال”، تكلم بفخر. جده، محمود، أنشأ المشروع ومذاك بقيوا في هذا المكان الاستراتيجي، في مدخل السوق تمامًا. يأتي إليه الزبائن خصيصًا من خارج المدينة – من تل أبيب، حيفا وحتى من الخليل – يشترون 3 ـ 4 كيلوغرامات ويعودون إلى ديارهم. أوقفنا وأسرع لطحن بضع حبات، لزبونة معروفة كانت قد دخلت هي أيضًا إلى المتجر. جربنا حظنا وسألنا عن سر القهوة. “لدينا خليط خاص بنا وطرق تحميص محلية”، رد مأمون بدبلوماسية. هناك أشخاص السر لديهم لا يزال سرًا.
قبل أن نخرج – وبعد أن أخذنا كيسًا لنفحصها في البيت – سألناه عما يميّز سوقه مقارنة بسوق محانيه يهودا. فكر للحظات وبعد ثوان توصل إلى نتيجة وقال “هذا المكان أقدم بكثير. فيه أصالة ما”. وبالفعل، مع كل خطوة وخطوة في منحدرات السوق، كان جوابه يبدو لنا صحيحًا أكثر فأكثر. المباني عتيقة، الشوارع ضيقة والمتاجر العتيقة المنتشرة على جوانبها تساعد على تأكيد ذلك. انقضت دقائق وإذا بلافتة مرفوعة على يميننا – “جعفر”. قلائل هم المقدسيّون، من جانبي المدينة، الذين لم يتذوقوا الكنافة الفاخرة التي تصنع وتقدم في المكان. علي، مالك المطعم، تفرّغ لنا وروى بأن المحل قائم منذ عام 1949، وإلى جانب أفرع له في رام الله وفي بيت حنينا، هذا هو الفرع الرئيسي.
من هم زبائنك؟ “يأتي الناس من كل البلاد تحديدًا ليأكلوا هنا. في إجازات نهاية الأسبوع نبيع مئات الوجبات كل يوم”، أجابنا واعترف بأن السيّاح لا يدخلون كثيرًا لتجريب حلوى جبنة الماعز المصنّعة محليًا في المنطقة. على الرغم من ذلك، يعج السوق بالسيّاح وهذا أيضًا تفسير علي بخصوص ما يميّزه. “هنا توجد أجواء مختلفة. يأتي أناس من كل الأنواع ونسمع الكثير من اللغات”. انتهينا من تناول الطبق وتابعنا تقدمنا داخل السوق، دخلنا متاجر وسمعنا من الباعة الهادئين عن الميزات (“غالبية المتسوقين هم أناس رائعون”)، المشاكل (“يبيعون أشياء مختلفة في كل متجر، يجب التخصص”) والأمل (“بقدوم المزيد من السيّاح، إن شاء الله”) الكامنة في السوق.
قبل أن نهم بالخروج من السوق، التقينا مجموعات من السياح من كل أنحاء العالم، الذين يتأثرون من القصص – كما من الأساطير – التي عاشها المكان خلال مئات السنين الأخيرة. حدثنا سائح أسباني اسمه ألفونسو عن مشاعره: “القدس مقدسة والبلدة القديمة مركز لكل الديانات، هذا واضح. ولكن شيء رائع أنه حتى في هذه الشوارع الصغيرة، بين كل المتاجر والباعة، لا تزال القداسة حاضرة”. بالمحصلة، ربما كان هذا هو الفارق الأساسي بين سوق محانيه يهودا – الذي يرنو للحداثة، التقدم ولاستقبال زوار أغنى – وسوق البلدة القديمة، الذي يعيش على الماضي ولا يريد أو لا يمكنه الانفصال عنه.